تعود الفنانة سيمون الى الشاشة بعد غياب في مسلسل " بين السرايات" وهو عمل درامي مميز نجح بصمت وسط الزحمة، ولفت الأنظار إليه منذ الحلقات الأولى رغم حصرية العرض على شاشة واحدة وقلة الدعاية المبذولة لإنجاحه مقارنة بالأعمال الأخرى.


بيروت: "بين السرايات" ليس مسلسلاً شعبياً عادياً كغيره من المسلسلات التي تنتمي الى هذا النمط الدرامي وتغالي في البؤس والإنغماس في الجريمة والسلبية، وتبرر الإدمان والكسل، ولا تمنح المشاهد ولو نقطة ضوء في نهاية النفق المظلم، بل هو عمل إيجابي بكل ما للكلمة من معنى، حيث رسم المؤلف المتميز أحمد عبدالله صوراً لشخصيات واقعية حقيقية وبعيدة عن النمطية تماماً، نفخ فيها المخرج سامح عبد العزيز الحياة وقدمهم بإطار صوري جميل لطالما تميز به، ونجح في إدارة نجوم العمل الذين قدموا أداءً رائعاً، بدءاً من سيمون العائدة بعد غياب، وروجينا التي تثبت مع كل عمل جديد أنها تستحق مساحة أكبر على الشاشة، ناهيك عن عبقرية صبري فواز وإمتلاكه الكامل لمفاتيح التحول في شخصية محروس من رجل سلبي لا حول له ولا قوة، الى داهية يخدع الجميع للحصول على حقه بطريقته من شقيقه الذي كان يستضعفه ويستأثر بكل شيء.

&تدور الأحداث في حي شعبي قد يبدو من الظاهر فقيراً وكالحاً لكنه رغم العوز مليء بالفرص التي قد لا تكون بمجملها مشروعة لكنها ضمن الشائع والمتاح. وهو من الأعمال النادرة التي تمنح الفقراء أملاً بمستقبل أفضل ويدلهم على السبيل للإرتقاء في السلم الإجتماعي، ويناقش مشاكل التعليم عن قرب، يعري السلبيات ويطرح البدائل.

يتعلق المشاهد بأبناء هذا الحي رغم قذارته وفقره وتهالك بناياته، يحبهم لأنهم يشبهونه... حقيقيون بخيرهم وشرهم، بسلبياتهم وإيجابياتهم وتناقضاتهم، عمل يؤكد بأنه لا يوجد إنسان لا توجد فيه بذرة خير مهما كان سيئاً أو أنانياً. وبأن الرجولة والجدعنة لا تكفي لتقيك حبل المشنقة إذا كنت غير قادر على لجم غضبك، وأن الجهل عدو للديموقراطية، وأن التعليم هو أساس أي نهضة ترتجى، وأن بالعمل وحده يحيا الإنسان وترتقي الأمم ولا شيء مستحيل أن توافر الطموح والإرادة.

أبناء حي بين السرايات:

مخلص (باسم سمرة) يدير مكتبة أبيه ورغم أنه الأخ الأصغر إلا أنه يسيطر على كل شيء وهو المتحكم بإخيه الأكبر منه محروس (صبري فواز).&يتزعم مافيا أصحاب المكتبات ويقسم حصص العمل بينهم، ويتعمد الإنتساب للجامعة لسنوات ليقوم بتلخيص المحاضرات وتحويلها إلى ملازم يبيعها لطلبة الجامعة.&قضى عمره يتنقل بين 3 كليات. متزوج من سمر (روجينا) ويعيش معها قصة حب جميلة لا ينغصها شيء سوى عم قدرتها على الإنجاب.

مخلص ليس شريراً بالمطلق لكنه أناني تفرعن على محروس لأن الأخير سلبي وعديم الشخصية. إستأثر بخير مكتبة أبيه ويرمي لشقيقه الفتات وهو الأمر الذي لا يعجب نعيمة (نجلاء بدر) زوجة محروس وأم طفليه، فهي تحاول دوماً حثه على مواجهة شقيقه والحفاظ على حقه في مدخول محل والده. هذا الرجل السلبي عندما يقرر أن يصحو لنفسه لا يجد وسيلة للكسب السريع سوى تزوير الملازم التي يعمل بها شقيقه وبقية مكتبات الحي وبيعها بسعر ارخص للطلبة، وتنتعش أحواله المادية لكنه يدفع الثمن غالياً.

صديق مخلص المقرب المعلم سالم (سيد رجب)، زوّج إبنته لشاب يدعى إبراهيم يعيش معه في منزله شبه عالة عليه، موظف حكومي أدمن الكسل. شاب فاشل لا يصلح لشيء حتى عندما يجرب أن يعتمد عليه بمساعدته في المكتبة يخذله. سالم ومخلص يدفنان إحباطاتهما بشرب الخمر وتنقيط الراقصات بسهرة إسبوعية في أحد الكباريهات.

المعلم سالم يعشق صباح (سيمون) وهي أرملة تخفي وفاة زوجها بإدعائها أنه في السجن لتقي نفسها من أطماع الرجال، تعمل سايس في موقف الجامعة، تعيش معها شقيقتها قمر(نسرين أمين).
صباح من الشخصيات الإيجابية في هذا العمل فهي مثال للمرأة المكافحة، الشريفة، الطيبة، والشهمة، جل همها تعليم إبنها الذي يعاني من سوء ظروف الدراسة في المدارس الحكومية.

تمل العمل كسائس، فتقترض المال من المعلم سالم، وتفتح مكتبة، تنجح في مشروعها الجديد وتسدد دينها ، ثم تتوسع وتفتتح مركزاً للدروس الخصوصية، وتتحسن حالها المعيشية بشكل كبير حتى أنها تفكر بالعمل في تجارة الورق.

قمر (نسرين أمين) طالبة جامعية تنجح وبتقديرات جيدة لكن بالغش، ولم تتعلم شيئاً، لعوب دائمة الإهتمام بمظهرها وهي الوحيدة التي تعتقد بأنها جميلة وتشبه إنجلينا جولي، تتلاعب بمشاعر علي (عمرو عابد) في البداية لكنها ترفض الإرتباط به لأنه فقير.

عندما يقرر مخلص الزواج مرة ثانية ليحقق حلمه بالأبوة، توافق زوجته سمر على مضض لكنها تشترط أن تختار له عروسه الجديدة ويوافق، فيقع إختيارها على قمر لأنها بنظر الجميع تفتقر للجمال، وتوافق قمر على هذه الزيجة رغم إعتراض إختها المعلمة صباح، ويفشل الزواج عندما تكتشف سمر أن قمر تأخذ مانع حمل.

&علي ( عمرو عابد) &يعمل في جمع قمامة الورق الذي تخلفه المكتبات، ويبيعه للمصانع لإعادة تدويره، شاب كادح يعاني من نزق والده ( سامي العدل ) فهو عاطل عن العمل يهوى لعب الدومينو في القهوة والمقامرة عليها ويخسر بإستمرار، فيضطر الإبن لتسديد ديون والده لحفظ ماء وجهه أمام أهل الحي، أم علي (سلوى عثمان) تعمل كمنظفة لحمامات البنات في جامعة القاهرة وتحسن دخلها من البقشيش الذي تدفعه لها الطالبات، وتجمع بقايا سندويشات الهمبرغر التي ترميها البنات لتطعم إبنها علي منها،& ويدرك ذلك خلال مشهد عبقري يتألقان فيه إداءً: حيث يقوم الإبن بزيارة والدته في محل عملها ولدى محاولتهما مغادرة مبنى الجامعة يطلب رجل الأمن منها تفتيش حقيبة يدها تفتيشاً روتينياً، لكنها ترفض دون مبرر مقنع، فيرتاب موظف الأمن ويأخذهما إلى رئيسه مدير أمن الجامعة الذي يحاول إقناعها بفتح الحقيبة طوعاً لكنها ترفض بشكل هستيري يثير الريبة، ويحاول علي إقناعها جاهداً بالإنصياع لهم، وعندما تؤخذ منها الحقيبة وتفتش عنوة لا يجد فيها موظف الأمن سوى بقايا سندويشات الهمبرغر، ووسط إستغرابهم لتمنعها غير المبرر تلتقط الكاميرا بؤس الأم والإبن الذين جللهما الفقر بعار لم يشعر به أحد سواهما. يتجاوز علي حبه لقمر ويتقدم لخطبة فتاة تمتلك صالون حلاقة نسائي في الحي، ويضع يده بيدها ويحولان الصالون الى مكتبة، وتبدأ الحياة بالإبتسام لعلي لكن للقدر رأي آخر.

عادل حديدة (محمد شاهين) يعمل في الحدادة بمحل والده مع شقيقيه الأكبر منه، ويعيش معهم وزوجاتهم وأبنائهم، وشقيقته في منزل واحد يكتض بهم. عادل يلفت نظر شادية (آيتن عامر) برجولته وشجاعته خلال مشادة مع بلطجية حاولوا التحرش بقريباته فيلقنهم درساً لا ينسوه، فتخطب وده ويبادلها الإعجاب بإعجاب لا يخلو من طموح فهي إبنة المعلم "سني" صاحب مكتبة من مكتبات الحي، يترك العمل في محل الحدادة وينتقل للعمل بالمكتبة، ويكتب كتابه على شادية، يشتري له والدها سيارة، ويساعده في ثمن الشقة التي سيتزوج بها لكنه يبدي أهله على نفسه فيسلف شقيقه المال لشراء الحديد لورشته، بينما يخدعه أخوه ويشتري بالمال ذهباً لزوجته.

يتفهم السني ظروف عادل عندما يعلم منه أين صرف المال، ويكبر في عينه لأنه يساعد أهله، فيمنحه سلفة أخرى دون علم شادية، ليشتري الشقة التي سيتزوج إبنته بها من منطلق أنه يشتري رجلاً سيطمئن على مستقبل إبنته معه، لكن عادل يجد نفسه غارق في مشكلة جديدة تقتضي منه موقفاً شهماً فإبنة شقيقه تحب شاباً من شباب الحي، تطورت العلاقة بينهما وفقدت عذريتها معه، فيقرر أن يزوجها ليستر عليها، فيمنح الشاب المال ليفرش شقة الزوجية، وعندما يعلم السني لا يتقبل عذره، ويعتبر عادل شخص إستغلالي ويطرده من المكتبة ويطلب منه تطليق إبنته لكن حديدة يرفض وبسبب رجولته وشهامته مع أهله يخسر كل شيء و يتخلون عنه في محنته ويتركونه ليواجه مصيره وحيداً، ويتحول حب شادية له الى كراهية ورغبة في الإنتقام.

تصل الإحداث ذروتها مع قيام ثورة يناير وتنحي الرئيس مبارك، ولا يغفل العمل إنتقاد نشطاء السبوبة، وإلقاء الضوء على شرائح المجتمع المصري التي نزلت ميدان التحرير لأسباب مختلفة، منهم العاطل الذي وجد في كلمة ناشط وسيلة للكسب والظهور دون أي مجهود سوى الكلام، كإبراهيم نسيب المعلم سالم، ومنهم من يريد التكسب كعمال اليومية في بين السرايات الذين يبيعون الشاي والطعام للمعتصمين في الميدان، ومنهم المسحوق الذي يعتقد بأن الثورة ستعيد له حقه وتحسن له حياته لكنها تخطف منه بصره وتتسبب له بعاهة كما حدث مع علي، ومنهم طلبة الجامعات وأبناء الطبقة الغنية الذين يهدفون للتغيير للأفضل.

وينتهي العمل بعد تنحي مبارك والرسالة التي يرسلها صناعه أن الثورة عانت من الكثير من الشوائب، وأن الثورة الحقيقية تبدأ من الذات ولا تنجح سوى بالعمل، وبتحكيم الضمير في كل شيء، وإعلاء سلطة& القانون.

قدم جميع أبطال الملسل أداء عبقرياً دون إستثناء، حيث&وفقت سيمون بإختيارها لهذا العمل للعودة به إلى الشاشة، وكانت على قدر التحدي فقدمت إداءً مبهراً تخلت فيه عن مظهرها الأرستقراطي وشعرها الأشقر، وتقمصت خلاله شخصية المراة التي تعمل في مهنة رجالية بحتة وغاصت بكل تفاصيلها سواء من حيث المظهر، والملبس، والمشية، وطريقة الكلام التي كانت تواكب كل تحول جديد تمر به صباح في عملها وحياتها، وبالتأكيد بعد هذا الأداء لن تكون عودتها خجولة، ونتوقع ان تستمر سيمون بتقديم أعمال متميزة مستقبلاً خصوصاً مع النهضة التي تشهدها الدراما المصرية منذ أربعة أعوام تقريباً، فأبرز أسباب إبتعادها عن المشهد كان عدم عثورها على نصوص تقدم نماذج نسائية إيجابية ومختلفة في الدراما.
كما عززت نسرين أمين حضورها كممثلة متميزة منذ بروزها بشكل لافت العام الماضي في مسلسل "سجن النساء".&وربما كان للراحل (سامي العدل) الدور الأكبر في رسم البسمة على الشفاه وسط كآبة الواقع، حيث قدم واحدة من أجمل الشخصيات التي جسدها في حياته بهذا العمل لكن القدر لم يمنحه الفرصة للإستمتاع بمشاهدته للنهاية عندما توقف قلبه عن النبض وغادرنا فجأة، لكن شخصية عم زينهم ستبقى عالقة في الذاكرة دون شك.

"بين السرايات" ليس مجرد عمل فني عن حي شعبي تكثر فيه المكتبات التي تخدم طلبة جامعة القاهرة، وإنما هو عمل يشرح مجتمعاً بأكمله ولا يكتفي بأن يضع يده على مكامن الجرح، إنما يصف العلاج كذلك ونأمل أن يستكمله صناعه بجزء ثان قريباً فهناك خيوط درامية عديدة لا تزال مفتوحة يمكن البناء عليها، والتوسع بها، بالإضافة الى أن الحبكة الأساسية تسمح بإدخال شخصيات جديدة على الحي مع كل عام دراسي جديد.&