"إيلاف" من بيروت: رحل الفنان اللبناني المناضل في الحقل النقابي والعمّالي سليمان الباشا الذي عشق الفن فحمله رسالةً إجتماعية وعمل بجهدٍ بين المسرح والتلفزيون ليكون أحد البارزين من الجيل اللبناني الأول بين الممثلين. وهو أحد مؤسسي نقابة الفنانين وصندوق التعاضد للمنتسبين إليها. والرجل الطيب المقدام الذي ذاع صيته بشخصية الرجل الشهم ابن البيئة الجبلية المتمسكة بالتقاليد والأسس الإجتماعية المحافظة والداعية للمحبة والألفة.

ولد في العام 1926، وطوى برحيله عن عمر 91 عاماً صفحةً عابقة بالعطاء الفني الصادق وذكريات وإبداعات زمن الفن الجميل الذي انطلق فيه عمل تلفزيون لبنان الرسمي الذي كان آنذاك رائداً في العالم العربي.
والجدير ذكره، أن موهبته في التمثيل قد برزت على خشبة مسرح مدرسة "رأس بيروت العلوي" في السادسة من عمره. حيث أنه وجد في الفن ملاذاً وهواية تقرّبه من الناس وهمومهم منذ نعومة أظافره. وذلك لأنه ولد في كنف عائلةٍ غير ميسورة ولم يستطع والده تحمل تكاليف تعليمه، فاضطر للعمل نهاراً ومواصلة دراسته ليلاً، وارتاد بعض المدارس الليلية المجانية في "رأس بيروت". إلا أن حنينه للعمل المسرحي قد استيقظ في العشرينات من عمره عندما شاهد مسرحية عبد الحفيظ محمصاني في بلدة "بحمدون" في جبل لبنان. فتواصل معه، والتحق بفرقته التي عمل فيها دون أجر لشدة تعلقه بالفن. وانطلق معه في مسرحيّة "فيرجيني" المأخوذة عن رواية "بول وفيرجيني" للأديب الفرنسي برناردين دو سان بيار، والتي عُرِضَت آنذاك في مناسبة عيد الاستقلال اللبناني في 22 تشرين الثاني 1943.

في العمل النقابي
ولا شك أن معاناته منذ الصغر جعلته ناشطاً في حقل الدفاع عن حقوق العمال، فقد انتُخِبَ في العام 1945، نقيباً لـ"عمال الكوي والتنظيف"، وعيّن بعدها مديراً لمغاسل فنادق "كومودور وكابيتول" في لبنان. ثم انتسب لصفوف الحزب التقدمي الإشتراكي في العام 1951 ليكمل نضاله إلى جانب القائد كمال جنبلاط. حيث ركز عمله الحزبي على الشأن النقابيّ والعماّلي، فأصبح بعدها مسؤول النقابات داخل الحزب. 

في التلفزيون
وكانت انطلاقته التلفزيونية بدور الأب في مسلسل “تحت السنديانة” للكاتب جورج طويل، والذي شارك فيه من الفنانين زميلته بفرقة "محمصاني" نزهة يونس وشقيقتها هيام، إحسان صادق والراحل إيلي صنيفر، وغيرهم. علماً أن حلقات العمل كانت تُبثّ مباشرةً على الهواء، لكنه لم يتفاضَ أجراً رغم أن أجر زملائه كان 15 ليرة لبنانية في ذلك الوقت. ثم التحق بعده بالعمل الذي قدّمه الفنان إحسان صادق بعنوان "صندوق الفرجة" الذي بقيت حلقاته تُعرَض مباشرة على الهواء على مدى أربع سنوات أدّى فيها الكثير من الأدوار. ولقد تصاعد نجمه تدريجياً في المسلسلات من "حكمت محكمة"(1963) إلى "كانت أيام" في العام (1964) لباسم نصر، وكانت مشاركته لافتة بالمسلسل اللبناني الشهير "أبو ملحم" الذي جمع الشاعر الفكاهي والناقد أديب حداد وزوجته سلوى التي لعبت دور(أم ملحم)، وعُرِضَ ما بين عامي 1967 و 1976 بشكلٍ متقطع.

في المسرح
وعاد "الباشا" إلى المسرح الجوّال مع جلال خوري الذي رافقه في العديد من أعماله ومنها "جحا في القرى الأمامية" (1972) و"القبضاي" (1973)، و"الرفيق سجعان" في العام (1974). ولقد وقف الراحل على الخشبة إلى جانب نضال الأشقر، أنطوان كرباج وليلى كرم في مسرحية أخرجها برج فازليان، وكتب موسيقاها زياد الرحباني عن نصّ التركي خلدون ثائر بعنوان "أبو علي الأسمراني" في العام (1974). كما وضع بنفسه نصوصاً أخرجها، وجال بها على المناطق اللبنانية في سبعينيات القرن الماضي. نذكر منها "الموظف الكبير"، و"مصيبتي ابني"، و"استشهد غصب عنو". إلا أن تجاربه السينمائية كانت محدودة بحيث شارك بفيلم "القناص" في سنة (1980) للمخرج العراقي فيصل الياسري، وفيلم "شبح الماضي" في العام(1985) لجورج فياض.

لقد كان "الباشا" بحكم مبادئه وقناعاته وتجاربه الشخصية ومعاناته إنساناً صلباً في الدفاع عن حقوق زملائه الفنانين، وكان من الساعين إلى ولادة نقابة تحضنهم، وتعمل على حلّ مشاكلهم الوظيفية والإدارية. ومن موقعه النقابي والإنساني، أسهم بتأسيس نقابة الفنانين مع العديد من زملائه وفي تأسيس "صندوق التعاضد" للفنانين المنتسبين إليها في العام 1999، حيث كان هو نائباً لرئيسها "إحسان صادق".

تقاعد "الباشا" فنياً في العام 2007، وكان آخر أعماله "شيء من القوة" لـ"إيلي معلوف". لكنه لم يوقف نضاله النقابي رغم تقاعده عن التمثيل. بل ثابر على الحضور إلى مبنى النقابة أسبوعياً لمتابعة الشؤون الصحية والإجتماعية لزملائه. فهذا الفنان الذي عشق النضال الإنساني في الحياة بقدر عشقه للفن طوى برحيله صفحةً زاخرة بعطاءٍ شامل على المستوى الفني والإجتماعي، ولا شك أنه سيترك بصمةً خاصة في سجل الممثلين اللبنانيين.

جنبلاط ينعي الراحل مع النقابات
يُذكر أن رئيس اللقاء الديمقراطي النائب وليد جنبلاط قد نعاه كمناضل في صفوف الحزب التقدمي الإشتراكي، كما نعته جبهة التحرر العمالي ونقابة ممثلي المسرح والسينما والاذاعة والتلفزيون في لبنان إلى جانب بلدته وذويه. وسيُصلّى على جثمانه غداً الأحد عند الساعة الثانية عشر ظهراً في دار بلدته الشوفية دميت حيث ستُقبَل التعازي بعد الدفن وفي يومي الإثنين والثلثاء في 9 و10 من الجاري من الساعة الرابعة بعد الظهر وحتى الثامنة مساءً. فيما تُقبَل التعازي يوم الأربعاء في دار طائفة الموحدين الدروز في مدينة بيروت من الساعة الثالثة بعد الظهر وحتى السادسة مساءً، أما باقي أيام الأسبوع فتستكمل التعازي في منزل الفقيد في مسقط رأسه ببلدة دميت.