"إيلاف" من القاهرة: تُلقي "إيلاف" الضوء على سيرة حياة الفنان زكي رستم بإعادة نشر ما تضمنه الكتاب الذي صدر عن مهرجان القاهرة السينمائي الدولي قبل سنوات. وهو من ألمع نجوم المسرح والسينما وأحد الفنانين الكبارالذين تصدّروا الأنشطة التمثيلية وخاصة السينما على مدار أربعين عاماً منذ منتصف العشرينيات حتى منتصف الستينيات، ونال عن جدارة شهرة كبيرة بقوة أدائه وخصوبة موهبته وسطوة شخصيته الفنية وقدرته الفائقة على امتلاك زمام الموقف دون مبالغة أو إفتعال. 

ألق المسرح
لقد وجد زكي رستم في السينما مجالاً أوسع لإبراز مواهبه، وحقق فيها إلى جانب الشهرة الواسعة دخلاً مرتفعاً خاصةً بعد تراجع نشاطه في المسرح في الأربعينيات حين اشتدت المنافسة بين نجوم الفرقة للقيام بأدوار البطولة.
وكان "رستم" طويل القامة ويتمتع بقوامٍ رياضي. فاكتسب فوق المنصة حب الجمهور وإعجابهم بحضوره القوي، ووجهه المعبِّر بنظراته الحادة. فلم يكن صاحب شخصية نمطية. بل استطاع أن يتحرر من أسر الشخصيات من عرضٍ لآخر. فلم تقتصر موهبته على أداء لونٍ واحد بل كان قادراً علي تجسيد الشخصيات الدرامية في التراجيديا والكوميديا. وهي الشخصيات العظيمة كالملك والقائد والأمير والزعيم والداهية السياسي، وكلها تتطلب إظهار جانب الشدة والعنف والجبروت والحزم. ولقد كان أيضاً الرجل الأرستقراطي الأنيق رفيع المقام، والرجل المحافظ المتمسك بقيمه، وهو أيضا الزوج الوفي ورب الأسرة الأمين على مصالحها. 



مرحلة إنتقالية
لقد ارتبط فن التمثيل في البداية بالمسرح فقط، وهذا كان طبيعياً. فلم تكن السينما قد ظهرت في العالم بعد. حتى أن الذين سافروا إلى أوروبا لدراسة التمثيل آنذاك، كانوا يدرسون التمثيل المسرحي. لأن التمثيل كان يعني المسرح ولم يكن الممثلون يفكرون في بداية ظهور السينما بالاقتراب منها.
وهناك من درس التمثيل في فرنسا، في انجلترا وفي إيطاليا، لذلك كانت هناك مدارس متعددة في التمثيل المسرحي. علماً أن التمثيل في تلك الفترة كان يتسم بالمبالغة الشديدة. حيث كان على الممثل أن يكون جهوري الصوت ويجيد التلويح باليدين والذراعين، ويصول ويجول علي المسرح لا يردعه رادع. وربما لم ينصف المسرح الكوميدي والتمثيل فيه سوى نجيب الريحاني ذلك العبقري الذي كانت موهبته تفوق كل من حوله.

السينما في مصر
عندما ظهر الفن السينمائي في مصر، كانت هناك محاولات لإنتاج أفلام روائية تحتاج إلى ممثلين محترفين. وعلي الفور اتجهت الأنظار إلى المسرح الذي كان يعج بالممثلين من الرجال والنساء ومن مختلف الأعمار. ولكن المشكلة الأساسية ظهرت، حين نقل الممثلون معهم المسرح إلى السينما. فكان الأمر في البداية أشبه بالمسرح السينمائي، أو بمعنى آخر، فقد وضع المخرج الكاميرا أمام خشبة المسرح.
أما زكي رستم فقد بدأ حياته الفنية بالوقوف على خشبة المسرح كما ذكرنا في الجزء الأول من هذه السلسة. إلا أن السينما كانت قد بدأت مشوارها حديثاً، وبالتالي، لم يكن أمامه نموذجاً يتعلّم منه أو قدوة يحتذي بها للوقوف أمام آلة التصوير.
ورغم ذلك إستطاع أن يضع نفسه في المقارنة مع غيره من كبار الفنانين في مجال التمثيل بالخارج مثل اورسون ويلز وتشارلز لوتون وفردريك مارش ولورنس اوليفييه بشخصيته الفياضة التي تتجاوز المألوف. بحيث اختاره المخرجون لتميزه وتمتعه بقدرةٍ فنية عالية برزت بمجمل أعماله، مهما كان الدور صغيراً. فأصبح أحد أهم الممثلين الذين جاؤوا من المسرح ليحققوا نجاحاً كبيراً في السينما. وكأنه انتقل من بيتٍ كان يجد فيه راحته، إلى بيتٍ وجد فيه راحة وترحيباً أكبر من كل المحيطين به. علماً أنه كان يطلب تواجد الممثلين أمامه لتصوير اللقطات حتى تلك التي يكون فيها بمفرده أمام الكاميرا على افتراض أنه يتحدث فيها إلى ممثل أو ممثلة أخرى، لأنه لم يكن يرغب بالوقوف أمام عدستها بدون ممثلين حقيقيين، حيث أراد لأدائه أن يكون واقعياً ومنطقياً. ولم يكن هذا غريباً، لإنه يعرف بفن الإصغاء.


براعة التنقل بين الأدوار
واللافت أنه ابتعد عن أداء الأدوار النمطية وبرز كممثل متنوع الأدوار. حيث لعب دور الباشا في العديد من الأفلام. ولكنه في كل مرة، كان مختلفاً بالمضمون والأداء، ليبقى "الباشا" بالنسبة له، مجرد لقب، بينما تنوعت الشخصيات التي جسده فيها بين الظالم، المتغطرس، الشرير، الطيب أو الحنون وغيرها من الأدوار. حيث أنه لمع بكل هذه الصفات وتميّز بقدرته على المرور بمراحل انفعال مختلفة ببراعة ويسر وإقناع، دون أن يشعر المشاهد بأن هناك قفزة في الإحساس بين لقطةٍ وأخرى، أو بين مشهدٍ وآخر. 

ولقد جسد دور المجرم أكثر من مرة، وفي كل مرة كان يقدّم شخصية جديدة. وذلك حسب مواصفات الدور المرسوم له في السيناريو، ويعطي لكل شخصية ملامح خاصة بها لا تتكرر في الشخصية المنحرفة الأخرى بفيلمٍ آخر. فإن دوره بفيلم "عائشة" يختلف عن دوره في "بائعة الخبز" وفي فيلم "النمر". وأيضاً عن فيلم "رصيف نمره 5". فقد كان مجرماً في كل هذه الأفلام، لكنه أعطى لكل دور ملامحه الخاصة به، فلم يشعر المشاهد بالتكراربفضل قدرته على التعبير وتجسيد الإنفعالات المختلفة في أبعد المناطق النفسية عمقاً، والتي لا تظهر في الكثير من الأحيان إلا محاطة بظلالٍ كثيفة.

وعندما جسد أدواراً تتسم بالخفة والبسمة والروح الكوميدية، كان المشاهد أمام شخصية مختلفة ومقنعة. بحيث أنه استطاع أن يُضحِك الجمهور بمهارة في الأدوار الكوميدية.
وكان يولي اهتماماً كبيراً بملابس الشخصية التي يقوم بها، ويدقق في اختيار هذه الملابس. بحيث تتوافق تماماً مع مستوى الشخصية الإجتماعي سواء كان يقوم بأدوار علية القوم أو أفراد الطبقة الوسطى، أو السفلة والمجرمين على اختلاف شخصياتهم، بحيث كان يجد في الملابس عاملاً مساعداً بشكلٍ كبير في أداء الشخصية بشكلٍ مقنِع.

ويشار هنا إلى أن أحد الظواهر الغربية في التاريخ الفني لهذا الممثل العملاق، تمثّلت بعودته في فيلمه ما قبل الأخير بعنوان "الحرام" إلى الأداء المسرحي في الحركة وفي الحديث. وكأن عقله قد سقط وعاد إلى المرحلة التي كان يعمل فيها ممثلاً مسرحياً. وربما كان السبب خلف هذه المبالغة اللافتة بالأداء أمام الكاميرا هو إصابته بالصمم الذي الذي وضعه بحالةٍ نفسية سيئة سيطرت عليه جرّاء هذا الهمّ الذي ألمّ به، بحيث بدأ يشعر بالإهمال من المحيطين به.


العازب المنطوي على ذاته
لقد عاش "رستم" حياته عازباً. وتولى تدبير شؤونه المنزلية خادم عجوز. فقد كان هذا الفنان ميالاً للعزلة، وقليل الصداقات عازفاً عن الإندماج في الحياة الإجتماعية. وكان لديه كلباً لا يفارقه. يؤنس وحدته ويصحبه في جولته اليومية في وسط المدينة حيث كان يقيم بشارع سليمان باشا. وعوضاً عن الأصحاب والمنتديات، كان يعيش بضع ساعات يومياً بين الكتب لكونه شغوفاً بالقراءة التي كان يعتبرها خير وسيلة للتثقيف والتعمق في فهم الحياة وإدراك أبعاد الشخصية التي يمثلها.

وبالرغم من تألقه بأدوار الشر والشخصيات الأرستقراطية التقليدية والمحافظة وما تبديه أحيانا من صرامة وتزمت وقسوة، إلا أن صورة هذا الفنان تختلف خارج استوديو التصوير. فالذين تعاملوا معه عن قرب في الحياة اليومية وجدوا فيه انساناً دمث الخلق.

شهرة وانكفاء
لقد امتدت شهرة "رستم" خارج مصر والعالم العربي، وتحدثت عنه الصحف العالمية تقديراً لمكانته فنشرت مجلة لايف الأميركية في الأربعينيات من القرن الماضي مقالاً عنه تناول أهم أعماله. بحيث وُصِفَ بأنه قرين النجم العالمي شارلزلوتون. كما تحدثت باري ماتش الفرنسية عن سيرته الفنية، وكرّمته الدولة في العام 1962، فمنحته وسام الفنون والعلوم تقديراً لعطائه.
لكن، المؤسف فعلاً أنه عانى في سنواته الأخيرة مشكلة ضعف السمع تماماً كـ"بيتهوفن". وربما كان هذا أحد الأسباب التي أبعدت عنه مخرجي السينما، فساءت حالته النفسية. ويقول المقربون منه أنه بنتيجة هذا الوضع، عزل نفسه عن الناس وعزف عن مخالطة الوسط الفني، علماً أنه لم يعتد على مخالطة الفنانين إلا أثناء عمله فقط، لكونه عُرِفَ بالإنطواء.
لقد أمضى زكي رستم السنوات الأخيرة من عمره في عزلة موحشة. فقد أصيب- إضافةً للصمم ومتاعبه النفسية- بأمراض الشيخوخة التي ألزمته الفراش إلى أن توفي في 16 فبراير من العام 1972.

ملاحظة: يمكنكم الاطلاع على الجزء الأول من هذا الموضوع عبر النقر على الرابط المرفق إلى الشمال أعلاه بعنون "رستم زكي: الباشا الرياضي الذي عشق التمثيل".