"إيلاف" من القاهرة: ضمن سلسلة النوستالجيا بالأبيض والأسود التي تُسلِّط من خلالها الضوء على حياة وقصص مشاهير الفن والغناء، تُلقي "إيلاف" الضوء على مسيرة الفنان شكري سرحان الذي أثرى الحياة السينمائية بعشرات الأفلام المتميزة. حيث ستطرق لذكرياته منذ نعومة أظافره مروراً بأهم أفلامه في السينما المصرية التي نالت إشادات جماهيرية ونقدية، وذلك عبر مقطفات مأخوذة من تصريحاته في لقاءات نشرها الراحل وتناولت سيرته الذاتية خلال محطات تكريمه داخل مصر التي نال فيها عشرات الجوائز الفنية.

رد قلبي والثورة
كان فيلم "رد قلبي" من إنتاج رائدة السينما المصرية السيدة اسيا التي أنفقت كل ما لديها من أموال حتي العمارة التي تملكها في مصر الجديدة رهنتها حتي تستطيع أن تستكمل إنتاج الفيلم بالشكل اللائق بأهميته وقيمته وتألق المخرج عز الدين في هذا الفيلم تألقا كبيراً مع فريق العمل. ولقد جاء ثمرة هذا الإخلاص الذي استمر ستة أشهر نجاحاً باهراً لدرجة أن عرضه استمر ثلاثة عشر شهراً، في الوقت الذي كان الفيلم المصري الناجح لا يستمر عرضه أكثر من ثلاثة أو أربعة أسابيع على الأكثر. فتوِّج هذا النجاح الكبير بأن منحته الدولة الجائزة الاولي في الإنتاج والإخراج والجائزة الأولى في التمثيل.

أما لقاء شكري سرحان الثاني بالمخرج الكبير توفيق صالح بعد فيلم "درب المهابيل" فكان بفيلم متميز كبير أيضا يحكي عن قرية مصرية عاشت في كرب وغم كبيرين اذ ابتلاها الله، بوباء الكوليرا القاتلة. وقام بأداء دورٍ جديد هو طبيب القرية الذي يحارب في جهتين الجهل والشعوذة والتحيز لهما بجهالة شديدة ثم محاربة الوباء القاتل بكل الاصرار والعناد والصبر. وتألق في هذا الفيلم المخرج الكبير توفيق صالح ومعه فنانين وفنيين كانوا في قمة أدائهم، الأمر الذي جعل الدولة تمنحهم الجائزة الأولي للإخراج والتصوير، ليحصد جائزة الدولة للمرة الثالثة.


واستمر عطاؤه بعد لقائه بالمخرج الكبير عاطف سالم بفيلم مميز أيضاً، والذي لم ينسه الناس. وهو فيلم "إحنا التلامذة" الذي تقابل فيه مع الفنان عمر الشريف الذي أصبح فناناً عالمياً بعد ذلك. وكانت بينهما منافسةً شريفة في فن الأداء التمثيلي مع عمر، في جوٍ من الحب والمثالية والتألق من جانب المخرج الكبير عاطف سالم. ما أعطى هذا الفيلم حيوية نادرة وابداعا كبيراً. ولكن في هذه السنة لم تقدم الدولة جوائز للسينما، رغم أن النقاد أشادوا بالفيلم وأجاد فيه "سرحان" حتي بلغ القمة، فكان لقاؤه مع صلاح ابو سيف بفيلمي "انا حرة" و"الطريق المسدود" وكان هو اللقاء الثاني مع الكاتب الكبير إحسان عبد القدوس الذي سبق والتقي معه في أول مراحل الثورة بفيلم "الله معنا". وكان اللقاء الثالث له مع احسان عبد القدوس وصلاح ابوسيف من خلال فيلم كبير وهو "لا تطفئ الشمس". ويحكي "سرحان" قصة اختياره ليمثل هذا الفيلم ويصفها بأنها قصة قدرية شيقة. وكان الفيلم من إنتاج عمر الشريف وأحمد رمزي. حيث أن عمر إختارهذه القصة ليقوم بدور البطولة فيها مع الفنانة فاتن حمامة التي كانت زوجته في ذلك الوقت. وكان من أبطاله أيضاً الفنانين عماد حمدي، نادية لطفي، وأحمد رمزي وليلي طاهر والعظيمة عقيلة راتب وحشد هائل من الفنانين.


ويقول "سرحان" "بدأت قصة اختياري لبطولة هذا الفيلم بمكالمة تليفونية من الزميل الصديق عمر الشريف طلب فيها لقائي له في منزله لنشرب الشاي معا، فرحبت به وقال انه اختارني للقيام بدور البطولة بفيلم سبيشترك بإنتاجه. وأنه كان من المقرر أن يقوم بالدور الأول فيه إلا أنه سوف يسافر للخارج لإجراء اختيار لأحد الأدوار في فيلم "لورانس العرب" وأنه يطمع في قبولي لهذا العرض ليقوم بدوره. فشكرته جداً لثقته بي كفنان وعاهدته على التفاني وبذل العطاء الصادق لإبراز هذا الدور بالشكل اللائق. وبعد أن عاد عمر من السفر وكنا قد انتهينا من تصوير الفيلم زارني مرةً ثانية. وقال لي لقد شاهدت الفيلم في عرضٍ خاص وأحب أن أقدم لك تهنئتي الحارة علي أدائك المتميز وأشكرك جداً على مساهمتك الصادقة في إنجاح الفيلم".

وكان اللقاء الثاني له مع العملاق نجيب محفوظ في الفيلم الكبير الذي هزّ وجدان الجماهير من أعماقها بفيلم "اللص والكلاب"، ومع المخرج الكبير كمال الشيخ وشادية والفتى الأول دائماً كمال الشناوي وصلاح منصور. فكان أول ما قام به عندما رُشِّحَ لدور البطولة أن توجّه إلى أقرب مكتبة وعاد منها وهو يحمل في يده قصة نجيب محفوظ "اللص والكلاب". وجلس في منزله وأغلق عليه باب حجرته وجمع كل حواسه وركز بشدة ليقرأ القصة، وانتهي من القراءة مرة ومرات ثم وضع الكتاب جانبه وأطلق لخياله العنان ولتفكيره الحرية الكاملة في استعارة الحوادث والأحداث التي مر بها البطل الحقيقي لهذه المأساه الدامية.

ويصف شكري سرحان حالته بعدما قرأ القصة قائلاً "لقد تغلغلت هذه المأساة في أعماقي، مأساة محمود أمين سليمان حيث شاء الله سبحان وتعالي أن أتعايش معها حينما كان لي في ذلك الوقت صديقين ألتقي بهما يوميا وكانا من رجال الشرطة هما الصاغ الرائد فاروق عبد الوهاب وقد أصبح اللواء فاروق عبد الوهاب بعد ذلك وتقلد عدة مناصب في الداخلية وكان أيامها من خيرة رجال المباحث في مصر واليوزباشي النقيب عبد الحميد بدوي وكان أيضاً حينذاك من أكفأ رجال الشرطة. فكان لكلٍ منهما دوره في مطاردة هذا الشاب الذي منحته البلد منصب السفاح ومن لقائي بهما كل ليلة وكل يوم كنت أعيش أحداث القصة المتلاحقة يوماً بعد يوم فادرك مدى الظلم والغدر الذي تعرّض له حتي أصبحت أنام على مأساته وأصحو على بلوته حتي نهاية السفاح".

ويواصل حديثه قائلا "وكان لهذه الصدفة التي جعلتني أهتز لمحنته أثراً كبيراً ورد فعل مباشر عميق لازمني طوال القيام بالدور الذي يرمز إليه باسم سعيد مهران. الأمر الذي ساعدني علي التعبير عن شخصيته بانفعالات تلقائية واحساسات فورية، مما كان له أبعد الأثر في التوفيق الذي أكرمني به الله في أداء هذا الدور. وقد تجمعت كل هذه العناصر من قصة جيدة وسيناريو وحوار رفيع المستوى، ومجموعة هائلة من الممثلين، لتجعل من فيلم اللص والكلاب من أروع الأفلام المصرية التي لا ينساها الناس. وكانت قوة هذا النجاح الكبير سبباً أن اختارته الدولة للفوز بالجائزة الأولى إنتاجاً وإخراجاً وتمثيلاً ثم اختير ليمثل السينما المصرية في مهرجان برلين السينمائي، وسافرت مع كمال الشناوي، وكان ثناء النقاد علي هذا الفيلم عظيماً ويعد بحق مفخرة للسينما المصرية".

ومن القصص الخالدة التي كان يحلم بأن يقوم بأدوارها القصة العربية القديمة التي خلدها الكتاب والشعراء "مجنون ليلى" ومن أشهر ما صاغه أمير الشعراء في مسرحيته الشعرية وابداعه الأدبي وكانت تدرس في جميع المعاهد الفنية في العالم العربي، وقام "سرحان" وهو طالب بدور قيس بن الملوح.

يذكر شكري أنه قام وحده في المدرسة الإبراهيمية بدورين متناقضين في سهرةٍ واحدة على مسرح قيس في رواية أحمد شوقي وشخصيته شيلوك اليهودي السفاح في مسرحية شكسبير تاجر البندقية. وكان التناقض بين الشخصيتين كبيراً جداً. فأشفق عليه أستاذه زكي طليمات وصاح في المخرج بلهجته المسرحية ونبراتها العالية وكان المخرج أحمد البدوي، وقال له: ألا يوجد طالب آخر ليمثل إحدى الشخصيتين؟ فرد المخرج بهدوء: فعلا لا يوجد!
وكان أن قدم قصة "قيس وليلى" مع المخرج المتعدد المواهب سيد زيادة الذي أعدها للسينما نثراً وشعراً، وتولى إخراجها أحمد ضياء. ويشاء القدر أن يختاروا أمامه الفنانة ماجدة للمرة الثانية في دور ليلى العامرية. أما دور ورد وزوج ليلى، فكان من نصيب الفنان عمر الحريري، وتلاحمت كل هذه العناصر في الانتاج والإخراج والسيناريو والحوار والممثلين، فجاء فيلم "قيس وليلى" بالوانه الطبيعية والذي صوره واحداً من عمالقة التصوير السينمائي، وديد سري.
وجاء الفيلم قمة بكل المقاييس الفنية، ونجح نجاحاً كبيراً في مصر وفي البلاد العربية، فكان من الأفلام التي استمر عرضها لشهور طويلة، وفي نفس السنة شهدت مصر مهرجاناً ثقافياً، وهو المهرجان الآسيوي الافريقي الذي كانت تتنباه وزارة الثقافة. وقد عرض فيلم "قيس وليلى" في المهرجان عن الأفلام المصرية في سينما ريفولي. فكانت الجائزة الأولي من نصيب "قيس وليلى"، وقد حصل فيه "سرحان وماجدة" جائزة أحسن ممثل وممثلة.

وكان عام 1965 من الأعوام السعيدة في حياة شكري سرحان عندما كرمته الدولة في عيد العلم في قاعة الاحتفالات بجامعه القاهرة. ونودي عليه وسار في القاعة يلبس وسام العلم حتي وصل الي المنصة ووقف أمام الرئيس جمال عبد الناصر الذي سلمه وسام الجمهورية، وشد على يده مهنئاً وكانت فرحة شكري سرحان الكبيرة وهو يسمع جمال عبد الناصر يقول له أنني لن انسي لك فيلم "رد قلبي" الذي عبّرت فيه عن أحد رجال الثورة، وخرجت ثورة الدموع تندفع من عيون شكري سرحان وهو يقف في خشوع مع هذه اللحظة المباركة وكأنه في معبد الفن وأمام محراب التمثيل.

ويقول "سرحان": "لقد اذهلني هذا التصفيق الحاد من كل أنحاء قاعة الإحتفالات الكبرى، ولكني تمالكت نفسي وأخذت أرد التحية الحارة وكأنني في حلم نوراني سماري حتي عدت الي مقعدي وكأني أطير بلا أجنحة مسبحاً بحمد الله ذي الفضل وقلبي وروحي يرددان في خشوع وكان فضل الله عليك عظيما".