"إيلاف" من القاهرة: ضمن سلسلة النوستالجيا بالأبيض والأسود التي تُسلِّط من خلالها الضوء على حياة وقصص مشاهير الفن والغناء، تُلقي "إيلاف" الضوء على مسيرة حياة الفنان شكري سرحان الذي أثرى الحياة السينمائية بعشرات الأفلام المتميزة. حيث ستطرق لذكرياته منذ نعومة أظافره مروراً بأهم أفلامه في السينما المصرية التي نالت إشادات جماهيرية ونقدية، وذلك عبر مقطفات مأخوذة من تصريحاته في لقاءات نشرها الراحل وتناولت سيرته الذاتية خلال محطات تكريمه داخل مصر التي نال فيها عشرات الجوائز الفنية.

تعاون مع يوسف شاهين
وكان له عودة للسينما المحلية، حيث إلتقى بالمخرج يوسف شاهين بفيلم من أهم أفلامه وهو "عودة الإبن الضال". وكان اللقاء في منزل المخرج الذي قال له أننا سوف نلتقي معاً هذه المرة ليسبالأمر التقليدي. ولهذا سوف يكون دورك فيه غير تقليدي أيضاً. وأرجو أن تقرأ السيناريو بعناية حتى تستوعب أحداثه وتتفهم نوعية الدور الذي استدعيتك للقيام به.
وقرأ شكري السيناريو ووجد أن الدور الذي سوف يؤديه هو شخصية معقدة تماماً اسمها طلبة، مما يجعله في تناقضٍ شديد مع نفسه ومع من حوله في البيت وفي المصنع الصغير، وأُعجِبَ بالسيناريو واندفع للدور عندما وجد فيه عطاءً جديداً خاصةً وهو يعمل مع مخرج كبير مثل يوسف شاهين ومدير للتصوير يتميّز بحاسة فنية عميقة هو عبد العزيز فهمي.


صراع تحت الشمس
ولم يلتقِ بالمخرج يحيى العلمي إلا لقاءً واحد بفيلم كبيرهو "صراع العشاق". وهو اقتباس وتمصير للقصة العالمية "صراع تحت الشمس"، وقبل الدور لأن معه حمدي غيث وزهرة العلا ولأول مرة الفنان حسين فهمي.
ويقول "سرحان": "لكن مع كل هذا الإبداع الفني، حدثت قصة لا أنساها أبدا في ليلة افتتاح الفيلم، حينما ذهبت إلى دار السينما، وقابلني منتج الفيلم وموزعه، شاكراً حضوري فقلت له أنا الذي أحب أن أشكرك أن أتحت لي هذه الفرصة للقيام بهذا العمل الفني العظيم ولكل العاملين فيه. فرأيت المعاناة على وجهه. فسألته في تعجب لماذا أنت واجم هكذا؟! قال بعد لحظة من الصمت وبصوتٍ منهك أخشى أن لا ينجح الفيلم جماهيرياً. فذهلت تماماً وأصابتني غصة، واحتوتني فجيعة ثم تماسكت وسألته ما هذا الكلام العجيب! ماذا تقول؟ أجابني وهو ينتفض يا أستاذ شكري إن الجمهور في هذه الفترة لا يُقبِل على هذه الأفلام. فالناس تريد العنف والعصابات والمخدرات.. ربنا يستر".

ويواصل حديثه، قائلاً: "إنقلبت الموازين أمام عيني وأحسست أن صناعة السينما في طريقها إلى فقدان مصداقيتها وأهدافها الإجتماعية ورسالتها وجمالياتها اجتاحت البدع كل ما أمامها من القيم والتقاليد. ليس شباب مصر وحده بل شباب العالم كله أصبحت الأعين تُخطِئ في معرفة من أمامها. فهل هم شباب أم بنات.. الشعر الطويل يخفي حقيقة الوجوه هل هي ناعمة أم خشنة؟ الملابس الفاقعة ألوانها ومقاسها علي الجسد بمقاس اللحم. فأدركت أن جيلنا سوف يضيع الطريق من تحت أقدامه، عاجلاً أم آجلاً. فطوفان المادة سوف يجرف أمامه كل معنى جميل أو أصيل في الوقت الذي أيقنت فيه أنني سوف أعطي ظهري للعمل السينمائي ولو إلى حين إتصل بي المخرج حمادة عبدالوهاب. الذي اتجه للإخراج التليفزيوني وصار مخرجاً تليفزيونيا سينمائياً، أي يعمل بكاميرا السينما من خلال إدارة السينما بالتليفزيون. فأخبرني أنه سوف يقوم باخراج القصة المعروفة باسم "الدخان". وهي من تأليف الكاتب الكبير ميخائيل رومان وأعطاني السيناريو كي أقرأه، فوجدته في سبع حلقات سينمائية. وقد أعدت إعدادا جميلاً. رحبت بالقيام ببطولة في هذا العمل الجيد، وكان اسمه "بيار الملح". وهذا هو العمل الثاني لي في التليفزيون، وهو قصة عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين عن كتاب على هامش السيرة. وكان إعداد الحلقات جيداً ومن إخراج الكبير الأستاذ أحمد طنطاوي".


ويتذكر "سرحان" هذه المرحلة قائلاً: "أديت في هذه الحلقات شخصية أبو طالب عم النبي، فكانت تجربة روحية مضيئة بنور ظهور الإسلام على يدي البشير الهادي محمد بن عبدالله رسول الله إلى البشرية في كل زمان أحسست وأنا أعيش في هذه الحلقات الدينية أن بابا للغفران قد فُتِحَ أمامي، وأمام جميع العاملين فيها وخاصةً أنها عُرضَت في شهر رمضان. فكانت وجبة روحانية مضيئة يلتف على مائدتها الكبار والصغار يتعلمون ويتأملون ويتعرفون على الأحداث الكبيرة التي عاشها الرسول وأصحابه، ممن بشروا برسالته وتعرضوا معه لشتى أنواع القهر والإضطهاد. وهم صابرون مجاهدون لا يزيدهم هذا العناء والبلاء إلا تمسكاً بدعوتهم وإيماناً بالله. وما أعظمها رسالة يقوم بها الفن والفنان من أجل تعميق الدين القيم في قلوب الناس. ولقد قدمت عدة أعمال في هذا السياق".

العودة إلى المسرح
ويعود "سرحان" إلى بيته الكبير والى المسرح من خلال نصٍ مسرحي عالمي بعنوان "هو الذي لايصنع" وكانت السينما العالمية قد قدمتها في فيلم "الملاك الأزرق". وكانت المرة الثانية التي يعمل فيها "سرحان" على المسرح "قطاع خاص" والمسرحية والفيلم تدور أحداثها حول أستاذ جامعي كان له موقفاً سياسياً ضد حكومة بلده، مما عرضه للإضطهاد الشديد. وعندما استحكمت حوله حلقات البطش من القوة الغاشمة الظالمة ولم يجد أمامه سوى الهروب في سرية تامة. وساقته الظروف إلى الإختفاء. فانتحل شخصية المهرّج في سيرك متنقل لا يعرفه فيه أحد ولا يعلم أنه استاذ جامعي. وكان عليه أن يتعايش مع هذه الشخصية الجديدة البعيدة عن حقيقته وطبيعته. وظل يعاني من النشل كلما واجه الجمهور في السيرك ولكنه يحاول ويحاول حتى وجد لنفسه مكانا بين أفراد السيرك وانغمس في شاكلهم وحياتهم.

ويبدو أن التليفزيون في هذه الفترة من حياته كان سيد الموقف. فبدأ عملاً جديداً فيه وإن كانت في هذه المرة حلقات سينمائية وكانت القصة للروائي الحاصل علي جائزة نوبل في الأدب نجيب محفوظ بعنوان "الرجل الذي فقد ذاكرته مرتين". واشترك معه فيها الفنان أحمد زكي وهالة فؤاد، ونجحت الحلقات وكانت الجائزة وكان التكريم شهادات تقدير.

ولكن المسرح له بريقه دائماً وله قدره ووزنه وجاذبيته. وكان شكري سرحان يعود إليه كثيراً ويفضّله على كل ألوان الفن الأخرى. فكان يعتبر عودته اليه بمثابة عودة الروح والحركة والفاعلية. واشترك مع عبد الغفار عودة في مسرحية "أزمة شرف" وكانت تتعرض لما وصلت إليه الأخلاق والقيم من انهيارٍ في مشاهد ساخرة يضحك فيها الناس على أنفسهم وعلى سلوكهم وحياتهم أو كما يقولون "شر البلية ما يضحك".


وكانت تشده السينما أحيانا فيستجيب لها. وخاصة إذا كانت تشاركه البطولة سيدة الشاشة العربية فاتن حمامة التي شارك معها بفيلم "ليلة القبض على فاطمة". وكان من إنتاجها ومن تأليف الكاتبة الصحفية سكينة فؤاد ومن إخراج بركات. وكتب له السيناريو والحوار عبدالرحمن فهمي وأذيعت القصة الرائعة من خلال ميكرفون البرنامج العام من إخراج المخرج الإذاعي الكبير علي عيسى. ولاقت نجاحاً منقطع النظير، واشترك فيها الفنان صلاح قابيل. أما في السينما، فكان الفيلم من تصوير المبدع وحيد فريد ونال الجائزة الأولى من الجمعية المصرية للسينما في عام 1984.

وفي النهاية لا بد من القول أن شكري سرحان بقي حريصاً على التواجد بأعمالٍ تناسب تاريخه الفني، حتى رحل عن عالمنا في 19 مارس 1997 بعد أزمةٍ صحية، محتفظاً بصورة الممثل الذي سعى لتقديم الأعمال الهادفة.