انتحرت لأن حبيبها وضع صورها عارية على الفيس بوك، خبر تصدر الصحف العربية في العام السابق، بعد انتحار المدرسة البريطانية في مدينة (أبو ظبي) التي خدعها صديقها ووضع صورها العارية على صفحته على موقع التواصل الاجتماعي (الفيس بوك).
لم تكن هذه هي الحالة الأولى أو الأخيرة التي تُستغل فيها الحياة الشخصية للآخرين، بهدف التشهير أو الاغتيال المعنوي للأفراد أو المشاهير من مستخدمي شبكات التواصل الاجتماعي، مما يعطي مؤشراً خطيراً عن ضرورة الالتفات إلى الآثار السلبية التي قد تنتج عن استخدام مثل هذه المواقع في بيئتنا العربية. فقد أشار الدكتور (ديفيد غرينفيلد)، أستاذ الطب النفسي الأميركي، ومؤسس مركز دراسات الانترنت إلى أن :الانترنت وشبكات التواصل الاجتماعي تحديداً تعتبر وسيلة للتفاعل، إلا أنها تؤدي إلى العزلة والوحدة الاجتماعية في نفس الوقت، فكثرة استخدام شبكات التواصل الاجتماعي قد تؤثر على التكوين الدماغي للشباب، وتجعلهم أكثر أنانية ونرجسية.

إدمان العالم الافتراضي للفيس بوك:

إن الذعر الذي انتاب مستخدمي موقع الفيس بوك بسبب إشاعة غلقه خلال الأيام السابقة، تؤكد على عدم قدرة مستخدميه الاستغناء عنه، فحسب الإحصائيات، يحتل موقع الفيس بوك، المركز الأول في شبكات التواصل الاجتماعي، حيث يستخدمه ما يزيد عن 500 مليون زائر على مستوى العالم، ليعتبر أكثر المواقع استخدماً على شبكة المعلومات في البلاد العربية، وتتصدر مصر المركز الأول عربياً وإفريقيا في استخدامه، بعدد 5 مليون مستخدم. مما يشير إلى حالة الانسحاب الاجتماعي في الدول العربية إلى العالم الافتراضي الذي أصبح أكثر تأثيراً في تشكيل الوعي النفسي للشباب العرب، خاصة إذا علمنا أن أغلبية مستخدمي هذا الموقع تتراوح أعمارهم من 18 ـ 24 عاماً ، ويحتل الذكور النسبة الأعلى (حسب إحصائيات موقع أليكسا)، أي أن هذه المرحلة العمرية يتشكل وعيها الآن عن طريق العالم الافتراضي الوهمي.

فالفايسبوك يخلق عالماً اجتماعياً وهمياً موازياً للعالم الحقيقي، يعتقد مستخدميه في مصداقية العلاقات التي تنشأ من خلاله، رغم سرعة تكوينها أو التخلص منها، مما يزيح عن كاهل الشباب أي مسؤولية اجتماعية أو نفسية تصحب تكوين العلاقات والصداقات في العالم الواقعي، ويأتي هذا متسقاً مع عدم النضج الانفعالي والعاطفي للشباب في هذه المرحلة العمرية. فنشوة تكوين العلاقات السريعة التي قد تتجاوز القيود الأخلاقية أو الاجتماعية في المجتمعات العربية قد تؤدي إلى الرغبة في الاستمرارية والتعود على استخدام الفيس بوك، ينتج عنها حالة صنفها علماء النفس بأنها إدمان قد يحتاج إلى علاج لما فيه من فضولية للتعرف على الحياة الشخصية للآخرين، رغم ما قد يسببه هذا من اضطرابات نفسية لا يعيها الشباب في هذه المرحلة.

النرجسية وحب الظهور:

تبعاً لنتائج الأبحاث التي أجريت على شريحة من مستخدمي المواقع الاجتماعية من الشباب وعلى رأسها الفايسبوك، وُجد أنه يؤثر سلباً عليهم، ويسبب لهم بعض الاضطرابات النفسية اللاشعورية، نتيجة للدعم الذي يتلقوه من أصدقائهم المشتركين معهم في نفس الموقع، سواء بالإعجاب أو التعليق على أفكارهم و صورهم الشخصية، مما ينتج عنه حالة من تضخم مفهوم الذات الوهمي، الذي يؤدي بدوره إلى النرجسية تصحبها مزيداً من الرغبة في استعراض حياته الشخصية لنيل مزيداً من الإعجاب والدعم النفسي الوهمي، مما قد يخالف الواقع، فقد يكون نفس الشخص مفتقد لأي تقدير ذاتي أو اجتماعي من المحيطين به، فيحاول تجاوز تلك العقبة الشخصية في العالم الافتراضي.

فنتيجة للانغلاق الاجتماعي وعدم قدرة الشباب على التكيف مع الواقع المحيط بهم، يلجأون إلى الحصول على تقدير لنشاطهم الممارس على الفيس بوك، مثل وضع الفتيات صورهن شبه العارية أو في مواقف حياتية خاصة جداً على صفحتهن، لجذب الانتباه وحب الظهور والشهرة. فالفيس بوك يصنع حالة من الانفصال بين الذات الحقيقية والوهمية، مما يشكل عائقاً في التواصل الاجتماعي الفعلي.

الازدواجية والفصام :

من المشاكل الرئيسية التي تدعهما شبكات التواصل الاجتماعي، ضعف الثقة بالذات وعدم القدرة على التواصل الحقيقي، فهي تطرح حلاً يشكل المنفذ الطبيعي لمن يتسم بتلك السمات النفسية، فقد يلجأ بعض المستخدمين إلى تقمص شخصيات وهمية كالفنانين والمشاهير، أو أشخاص من الجنس الآخر لشعورهم الدائم بالنقص ، وعدم رضاهم عن ذواتهم، مما يؤدي بهم إلى حالة يفسرها علم النفس بأنها فصام نفسي، بحيث تعبر صفحته على الفيس بوك عن عالمه اللاشعوري الذي يرغب في أن يكون عليه.فيؤثر ذلك بشكل سلبي على التطور والنضج النفسي السوي خاصة في مرحلة الشباب، ويضعه في عزلة اجتماعية نفسية، وقد يصيبه بالاكتئاب في بعض الأحيان لعدم قدرته على التصالح النفسي مع ذاته، وارتكانه على الشخصية الوهمية التي أنتجها في خياله الافتراضي.

كما يسهم الفايسبوك في إنتاج حالة من الازدواجية في القيم والمعايير المجتمعية والفكرية، مثل ادعاء القيم الدينية أو الفكرية بعكس الانتماء الفعلي للمستخدم، فالحرية التي تتمتع بها المواقع الاجتماعية وغياب الحظر والرقابة المجتمعية يساعد على نمو شخصية ازدواجية تمارس أدواراً قد تكون غير متحققة بالكلية في الواقع، مثل ممارسة أفعال لا أخلاقية قد يدينها المجتمع أو الدين بمنظوره الاجتماعي على صفحات الفيس بوك.و يؤدي هذا بدوره إلى تكوين شخصيات مشوهة وغير متزنة تُصدر انفعالات سلبية تجاه الأخر والمجتمع، مما يسبب حالة من الصراع النفسي والفكري مع الذات.بل قد يتسبب في نمو تيارات معادية للمجتمع.

الكبت والعزلة وحرية التعبير:

يشكل الكبت الذي يمارسه المجتمع بشتى طوائفه السياسية أو الدينية والاجتماعية دافعاً رئيسياً لانتماء الشباب إلى مواقع التواصل الافتراضي، الذي أصبح وسيلة للتعبير عن أرائهم بحرية قد تكون غير متوافرة لهم في الواقع، دون قيود أو خوف لما يعرضونه من قضايا سواء كانت شخصية أو اجتماعية، لتعرضهم لمختلف أنواع القمع والرفض من الأخر أياً كان، فيجدون الدعم والقبول لأفكارهم وتجاوب من آخرين يقعون أيضاً تحت نفس الأزمات النفسية والاجتماعية ، مما يفرض بقبول كليهما لبعض.

فقد أصبح الفايسبوك متنفساً طبيعياً وآمناً، تقصده فئات عمرية واجتماعية مختلفة، للإعلان عن وجودهم وأرائهم.فالنسبة المرتفعة لمستخدمي الفيس بوك على مستوى العالم والبلاد العربية خاصة، تعطي مؤشراً يعتبره علم النفس غاية في الخطورة، وهو عدم قدرة أعداد كبيرة من الأشخاص ممارسة حقهم الطبيعي في التعبير أو المشاركة الاجتماعية الفعالة، مما قد ينتج على المدى الطويل، مجتمعات أكثر انغلاقاً وعدم وعياً بالمشاكل الحقيقية المعاشة بالفعل وتوهمهم بالمشاركة الفعالة في حل قضاياهم الاجتماعية.فرغم ما تمثله شبكة المعلومات بشكل عام من تنوع ثقافي وفكري، يُعتبر مبهراً للكثيرين، إلا أن الانغماس المفرط فيه ـ كما أشارت العديد من الدراسات النفسية في هذا المجال ـ قد يعزز الإحساس بالعزلة و التوحد مع الذات، وفقدان الصلة الملموسة بالواقع الفعلي.وعدم فهم لغة الجسد والتعبيرات المصاحبة للحالة الانفعالية.

الفايسبوك وقبول الآخر:

ورغم ما تراه بعض الدراسات النفسية من سلبيات أنتجها الاستخدام المفرط للفايسبوك وغيره من شبكات التواصل الاجتماعي، إلا أن مثل تلك التفاعلات الافتراضية ساعدت على توحيد الهم الإنساني ، والتعاطف مع القضايا السياسية والاجتماعية في مختلف المجتمعات والثقافات الإنسانية على تعددها.مما قد يساعد الشباب في حال الاستخدام المعتدل والهادف لمواقع التواصل الاجتماعي، في التعرف على سمات إنسانية متعددة ومختلفة باختلاف المجتمعات، بل قد يكون ساحة جيدة لعرض العديد من الأفكار المتناقضة والمختلفة أحياناً مما قد يساعد على تعلم قبول الآخر والتفاعل الإيجابي معه..

فمع تزايد مستخدمي شبكة المعلومات بشكل يفرض نفسه على الضروريات الحياتية المختلفة، خاصة في مجتمعاتنا العربية، أصبح من البديهي اللجوء لمثل هذه الشبكات الاجتماعية التي قد تساعد على تطور البناء الثقافي والنفسي للشباب، لما يوفره من إطلاع مباشر وبدون قيود على عيوب المجتمع ومحاولات التغيير، بالمشاركة الفعالة.
أخصائية نفسية
[email protected]