كتبأحمد فرحات: ان جسد المرأة هو صورة نفسية تشكل انتظاما مفتوحا على السياقات الاجتماعية والثقافية التي تعتبر العمق غير المرئي للجسد بمثابة طقوس تتهاوى على الشكل الاحترافي للأوضاع الجسدية ،تجعل الجسد مقيدا بأقانيم تجعل انسيابه وغيابه في اتساع عودة المكبوت حاضرة .

فالمرأة تكتب لتغلف جسدها وتجعله هامشا ينفلت من الشَّهوية لتعطي للنص المكتوب لذته الشبقية فوق الجسد السافر ، وتستعيد تحررها عبر دفع الرجل إلى الإنصات إلى جسد الكتابة وتعرض الجسد الأنثوي للانمحاء داخل فضاء رمزي لا يتميز بالحركة إن المرأة بأساليب التمويه التي تلصقها بجسدها تكتب مباشرة على جسدها ، تعطي عناية خاصة لفتحات جسدها ، عينها وفمها ، إنها ترسم ورسمها تكثيف لرغبتها ، والرجل تتولد لديه حساسية خاصة نحو هذه الرموز ، فعوالم المرأة الكاتبة مفتوحة على فعل التخييل ، على أشكال أحاديثها العذبة عن عالم مغروس في أنَّوِية المجتمع الذكوري التقليدي .

هل للإبداع النسائي خاصية معينة تجعل منه شيئا متمنعا عن الرجل وإن هو أراد الوصول إليه فعليه مطلقا أن يتحول إلى أنثى .. ما الذي في إبداع النساء نسائي محض ولا يستطيع الرجل الإتيان به إلا إذا تحول إلى أنثى ؟
إن هذه التساؤلات تجعل الكتابة النسائية مُتحققة من خلال اعتبار الأنثى هي الأصل ، وبما أن الرجل لا يعقل هذه الكتابة إلا وهو مَخْصي ، يكون لتذوق الصورة الإبداعية شكله الغامض عن سياق مألوف يستجدي الصورة العامة لفهم الرجل للمرأة عبر المتعة البصرية البعيدة الاستهلاك بالخيال الذكوري حيث إن الجمال هنا يغدو رأسمالا رمزيا مولدا للتواصل وفي الآن نفسه مكمَنا من مكامن الخيال الاجتماعي ، إن الثنائيات الضدية التي تتحدد هنا تجعل المرأة المبدعة في مساواة مع الرجل الرقيق الشعور المرهَف الحس .
ففيما أن الأنثى هي الأصل نجد أن الرجل لفهم الإبداع النسائي يُحيي داخله إمكانيته للفهم ، فعندما يُبدع الرجل هل يمكننا الحديث عن عودة الأنثوي المكبوت ؟ لأن الرجل غالبا ما يكبت الأنثى فيه وفي تصرفاته لكننا عندما نتحدث عن الإبداع حتى عند الرجل نتحدث عنه بعبارات أنثوية .
إن تصالح الرجل مع أنثويته تشكله الكتابة النسائية مرة بالجسد المملوء بروائح البخور والمطلي بأصباغ الفتنة والوقار ، ومرة بحضور لذة المتخيل لديها وقدرتها على تعرية الجسد وتحويله بالكلمة إلى رمز قابل للتجلي وخلق متعة التلقي ، إن الواصفة هنا باعتبارها تتكلم عن زمن هو غير زمن الرؤية المباشرة للجسد الأنثوي تصفه لجسدها وذاكرتها ، أي بقدرتها على تعرية جسد الآخر باللغة في حضرة المتلقي .

لقد عبّر quot; مونترولاي quot; عن السِّحاق المُضمَر الذي تُعري فيه الكاتبة جسد الآخر/ الأنثى لتستعرضه على القارئ يقول : quot; إن علاقة المرأة بجسدها نرجسية و شبقية في نفس الآن ، لأن المرأة تلتذ بجسدها كأنها تتمتع بجسد امرأة أخرى quot; .
المرأة الكاتبة تكتب بالجسد وتحوله إلى أيقونة ، صورة ذهنية لا تكتمل إلا بتمثلها لدى الرجل الذي يمتلك هذه الصورة عبر تصورات راجعة إلى التأسيس الميثولوجي لظاهرة الفحولة وبذلك لا يتحقق للجسد الأنثوي كينونته إلا إذا كانت نظرة الرجل إليه تؤسس المعرفة بحدود انفلاته البلاغي وحدود استيفاء العناصر الجنسية لشروط التصور الجمالي داخل الأنموذج التخييلي .
المرأة لا تكتب على الورق فقط لأنها تتألق في الكتابة على جسدها ، على اعتبار أن التمويه ، ومختلف أشكال إبراز ذاتها ، بمثابة نقش على الجسد .

إن بلاغة الكتابة النسائية بالجسد تعطي للغة طابعا شبقيا يحقق جناسيَتَهُ باندفاع الكلمات للرقص في مكان هارب ، فالجسد داخل الوضع السيميولوجي الأنثوي يضع المرأة الراقصة أمام الحُرقة الدلالية ضمن تمظهرات نسقية للفحولة فهي : راقصة / لا امرأة ، إذ أنها لا ترقص وإنما توحي بكتابتها الجسدية أنها تتعالى عن الأنثى لتصبح امتدادا للرجل ضمن لعبة هندسية بين الكلام و الكتابة داخل منظومة فعل الرقص ، فالوجود الراقص هو حد نظري للغة ، أو بدقة أكثر ، يحيى من هذه الحيرة بين الكلام والكتابة ، إذ أن الجسم الراقص يكتب الكلام ويحطمه ، يجرد من الفضاء هندسة دقيقة ومتعددة الأصوات ، إنه زوبعة القوانين ، انعكاس الخطوط ، ومحو الأثر الذي بواسطته ينطق الأصل / الجسم ، ويُمحَق .
إن هذه اللحظة بين الكلام والكتابة تتداخل خصوصياتها ، تتراءى ملامحها لتجعل من الجسد الأنثوي الراقص كتابة يلفها الضباب وتحكمها ذبذبات تواصلية متقطعة ، فهذه اللحظة بين الكلام والكتابة النسائية يمتلك فيها الرجل الجسد والهوية والصورة البلاغية لانتشاء الجسد بحريته و قد تكتب الأنثى عن طريق الوشم لتجعل جسدها ممتلئا بالرموز .
فالوشم وضَع الكتابة النسائية بين الصوت والكتابة فأصبح الوشم اختصارا لفعل وجودي قابل للفناء ، فالكتابة على الجسد الأنثوي استمرارا لصوت فاضح مكتوب بطريقة مزدوجة كإعلان لصمت أكيد وكصمت شاهد على موت الجسد ، فالجسم الموشوم يستمر في التجلي خلال الموت كأن الوشم قد سرق شاهد القبر .
فالوشم ترانيم للقراءة الجنسانية وسنن لتجنيس التلقي البصري ، إنها نظام للتعري والاستعراض ، فهي كالرقص تجعل المرأة تصل إلى نفس الثنائية الضدية السابقة للرقص لتصبح : امرأة واشم / لا امرأة ، فهي إذن هندسة مُجنسَنة تتم قراءتها في حضرة نشوة يتساوى فيها الذكر والأنثى في بعدهما الابستيمولوجي لتحقق وحدة التصنيف الإلهي للجسم .
فالأنثى تشم من جسدها ما غطاه الحجاب quot; الجبهة ، الذقن ، بين النهدين ، السُّرة ، العانة .. quot; أي أن الوشم يشطر جسد المرأة إلى نصفين متماثلين ، إنها نقط مركزية تتفرع عنها الشهوة ، تنشطر ليتفتق هذيان الكتابة بلحظة الارتعاش الشبقي .
إن المرأة الواشمة تكتب لتضع لذة النص بيد المتلقي لاكتشاف نهاياته الاشتهائية ولتضع تجربتها داخل نظام جنساني ، إنها تكتب في الجسم الغض لتؤسس شبقيتها عبر سِحاق خطي مُضمر ، فيصبح الجسم وثيقة اللذة بين دفة الانتظام السيميولوجي كي ينتقل من الجسم الأيقونة إلى الجسم اللاهوتي .
إن الوشم كالكتابة يعتبر داخل المنظومة الإسلامية حجابا ، لباسا داخليا يُعتم على المتلقي رؤية ما يحيط بجسد الأنثى ، إنه يلعب دور المغناطيس الذي يحجب الجسد عن الانتهاك ، فالاستعراض الجنسي محمي بالوشم وهذا دور يعطل بلاغة النص السحاقي ، إنها تنظم فوضى الدلالات وتنفتح غائبة أمام العين الثالثة / الرجل لتصبح ذات دلالة وواسطة للإثارة والاشتهاء ، لا يتعطل مفعولها السحري إلا إذا كانت العين الثالثة تحقق لمجمل وشم الجسد هويته وبذلك يأخذ شكله واستهلاكه من المتلقي ، الزوج أو الحبيب .
يقول هيربر : quot; من الغريب أن العاهر تعلن على جلد يمتلكه الجميع بحكم المهنة ، أن قلبها مخصّص لرجل واحد quot; . فالعاهر إذ تَشِمُ جسدها ، تستأثر بمكان الوشم وتخصصه لمن أحبته وتدع الباقي للجميع .
إن القيم الجنسية التي يدعمها التناسق الإلهي للجسد الموشوم تجعل هذا الجسد في ملكية المتلقي الذكر بحسب الضمير الجنسي للمجتمع ، تجعله كذلك شكلا معرفيا يحقق حوارا حقيقيا كوضع يتطلب شيئا من الإصغاء . إن خطاب المرأة المنتج بالأساس لمعرفة مغايرة ، وغير مستهلكة أو مألوفة ، غير موجهة فقط للمرأة ، وإنما للرجل والمجتمع ككل .

إن تداخل السيميولوجي والأدبي عند معالجة الوضعية النسائية والمطالب بهذا التحقق داخل الذهنية التقليدية للمجتمع حيث المرأة لا ترى ولا تتكلم ، تشكل الانقلاب الواعي المطلوب خارج الشخصية النسائية ، لهذا كانت الأجوبة الواضحة والمعلنة انطلاقا من هذا المنهج المزدوج لا تلقي للسؤال الأنثوي أهمية حيث الحديث عن المرأة موضوعيا ، لا يتحقق من ذاته .

إن مفهوم الحب يحمل لدى النسق الذكوري مفهوم أخلاقي سامي عذري يجعل القيم العاطفية ذات بعد أنطولوجي ، أما الدلالة المعطاة للحب داخل النسق الأنثوي الذي تشكلت ملامحه النهائية عبر الأشكال السردية النسائية فهو مرئيات مغايرة تجدر بلغة الجنس تخترق به التوصيف الحضاري الثقافي الذي خندقها ضمن ثنائيات ، الكل كان يعتقد بأزليتها : المرأة / مثالية ، المرأة / ساقطة ، إنها تخرج شيئا فشيئا من صمتها ، من قيمة النموذج وتُؤنسن فعلها .
إن عمق الثنائية ، النموذج المثالي / النموذج الساقط ، يأخذ شكل التصور الذكوري المتسلط أكثر من الالتفات إلى واقع المرأة كما تتصوره ذاتا وذاكرة وإحساسا ، فمن خلال طريقة الاستمتاع الجنسي فالرجل يبحث عن اللذة من خلال تشكي المرأة ، أما المرأة فإنها تبحث عن اللذة من خلال ألمها الذاتي ، هذه الثنائية المنهجية تُؤكد الأصل الرمزي لمفاهيم الأنوثة والذكورة فما نود القيام به هو إبراز نمط مثالي من الفكر التناظري الذي لا يستطيع تصور الأنوثة إلا من خلال تقابل ثنائي منهجي ، تتبلور جزئياته ونتائجه السميولوجية في تقابله مع الذكورة ، حيث يتجلى بحث المرأة عن اللذة من خلال البوح بألمها الذاتي عن طريق الوظيفة التعبيرية باستعمال ضمير المتكلم quot; أنا quot; الذي يشكل الخصوصية الأدبية للكتابة النسائية .
فإحالة الكاتبة إلى مركز ذاتها أدبيا يشخص التمركز الواقعي لأنَّوِيََّتَها في المجتمع التقليدي منذ الانفلات من الوأد الجاهلي إلى الأشكال المعاصرة للوأد الذي أقام الفصل المفتعل بين الجنسين بتوحيده المرجع الأيديولوجي المشترك بين الرجل والمرأة .