إن كان الجرح في جسم الإنسان يترك ندبةً بعد أن يندمل، فإن الأسمنت الذكي يرمِّم تصدعاته بنفسه، من دون أن يترك أثرًا، ما قد يحدث ثورة في عالم البناء.


ماجد الخطيب: تميل كتل الأسمنت المستخدم في البناء إلى التصدع مع مرور الوقت، ما يسمح بتوسعها وتحوّلها إلى شقوق بعد تغلغل الرطوبة والأملاح إليها. وحينها، لا مناص من ترميم الجدران تمامًا، أو هدمها وبناء جدران جديدة محلها.

إسمنت من ذاكرة ودم
ابتكر علماء كوريون جنوبيون في جامعة يونساي طريقة لإنتاج غلاف تقني ذكي عديم اللون، يرمّم الشقوق داخل الأسمنت حال حدوثها، من دون الحاجة إلى تدخل البشر. ونجحوا في ذلك بإضافة مادة كونكريتية - بلاستيكية تعمل بمثابة غلاف للأسمنت، تتكوّن من كريات منمنمة، تملأ الصدوع حال حصولها.

ملأ العلماء هذه الكريات الصغيرة بمادتين كيميائيتين، تكمل الواحدة عمل الأخرى، وتمتلكان ذاكرة للشكل، وتعملان تمامًا كما تعمل صفائح الدم الحمراء على اندمال الجرح، الذي يصيب الإنسان. وهذا يعني أن تصدّع كرة الأسمنت الكيميائية سيؤدي إلى سيلان سائل منها يشبه الدم، يأخذ على عاتقه مهمة ملء الصدع. ويتولى ضوء الشمس، المباشر أو غير المباشر، إكمال المهمة، لأنه يؤدّي إلى تصلب السائل المتجمع في الصدع بشكل كريات من جديد.

تجري هذه العملية بشكل تلقائي لرأب التصدعات الصغيرة، التي لا تُرى بالعين المجرّدة، لكن المهندس المعماري يعرف أن التصدعات الكبيرة والخطرة ليست سوى هذه الصدوع المجهرية في بدايتها. بعبارة أخرى، معالجة التصدعات في صغرها يعني منح المبنى عمرًا طويلًا.

اقتصاد بالكلفة
لا يعمل ميكانيزم الكريات الأسمنتية مدى الحياة بالطبع، لأن عدد الكريات في الغلاف الخارجي للأسمنت محدود، ويمكن أن ينتهي بعد رأب الآلاف من التصدعات المجهرية.
هذا شيء يعترف به العلماء الكوريون، الذين طوّروا هذا الأسمنت الذكي، لكنهم واثقون من أنه سيختصر الكثير من كلفة الترميم وإعادة البناء، ويقلل استهلاك الأسمنت على المستوى العالمي، ويؤدي بالتالي إلى انخفاض كميات غاز ثاني أوكسيد الكربون، التي تنبعث من مصانع إنتاج الأسمنت.

تتحدث دائرة البيئة الألمانية عن أن 130 مليون طن من الأسمنت المستعمل ذهبت إلى النفايات في العام 2010 في ألمانيا وحدها. ويرتفع مجموع الأسمنت المستعمل في أوروبا والولايات المتحدة واليابان إلى 700 مليون طن سنويًا. وهذا يعني إطلاق نحو 500 مليون كيلوغرام من ثاني أوكسيد الكربون سنويًا.

هذه ليست المشكلة الوحيدة التي تتعلق باستعمال الأسمنت في البناء، لأن إنتاج الأسمنت من أكثر الطرق تلويثًا للبيئة بثاني أوكسيد الكربون. وأحصى علماء الأمم المتحدة أن إنتاج الطن الواحد من الأسمنت، وبحسب مكوناته، يؤدي إلى انبعاث ما بين 650-700 كيلوغرام من غاز ثاني أوكسيد الكربون.

طويل العمر
في جامعة ديلفت الهولندية، مزج العلماء الأسمنت أثناء التحضير بكريات منمنمة صنعت من نوع خاص من الطين، وشحنوا هذه الكريات ببكتيريا معينة. لم يذكر العلماء اسم البكتيريا، لكنهم قالوا إنهم عزلوها من أملاح البحار قرب مصر وروسيا وإسبانيا. ويفترض بهذه البكتيريا أن تتولى عملية رأب التصدعات، التي يمكن أن تحدث في البناء الأسمنتي.

تمتلك هذه البكتيريا خاصة العيش بلا أوكسجين لسنوات طويلة، وتعاود النشاط حال احتكاكها مجددًا بالأوكسجين ورطوبة الهواء، وهو ما قد يحدث عند حصول أي صدع يسمح بتسرب الهواء إلى داخل الأسمنت.

تتغذى هذه البكتيريا لسنوات طويلة على مادة ليكتات الكالسيوم الموجود في كريات الطين الصغيرة. ويعول العلماء هنا على إفرازات هذه البكتيريا، لأنها هي التي ترأب التصدعات في الأسمنت عندما تعاود نشاطها الحيوي بعد "سبات" طويل.

مركبات أولية
العلماء الألمان من جامعة ينا عملوا تقريبًا على المبدأ، الذي عمل عليه علماء جامعة ديلفت، لكنهم استخدموا مركبات الأسمنت الأولية بدلًا من البكتيريا. فقد أنتجوا موادَّ أولية من نوع خاص لتحضير الأسمنت، ميزتها أنها تبقى لفترة طويلة من الزمن على حالتها هذه، إلى أن تحتك بالرطوبة والهواء.

وجرى خلط مركبات الأسمنت الأولية مع الأسمنت العادي أثناء البناء، وكانت التماس مع رطوبة الجو هنا، وهو ما يحصل أثناء حصول صدع، والأوكسجين هو العامل الذي أدى إلى تحويل هذه المواد الأولية إلى سائل أسمنتي يسيل في الصدع ثم يتصلب. ويعمل الهولنديون حاليًا على آلية مماثلة لمنح أسفلت الشوارع حياة طويلة أسوة بالجدران والجسور.

حث حراري
هذا الأسفلت يتضمن شبكة أنابيب دقيقة تتولى تسريب المياه إلى طبقة من الحجر تقع تحته. كما يحتوي على كريات صغيرة تتولى رأب الصدع في الشارع بتأثير حرارة خارجية.

الكريات هنا مشحونة بألياف حديدية دقيقة ولاصق طبيعي تتسلل إلى الصدع، بحسب تعبير المخترع الهولندي إريك شلانغن من جامعة ديلفت. لكن هذه العملية لا تجري تلقائيًا، كما في الأسمنت، وبحاجة إلى مؤثر حراري خارجي.

عمل شلانغن وفريق عمله على تبليط 400 متر من طريق سريع بهذا الأسفلت الجديد. وتوصلوا إلى أن استخدام عربات حث حراري على الشارع، مرة كل أربع سنوات، كفيل بتنشيط مزيج الألياف الحديدية في كريات الأسفلت الذكي، وقادر بالتالي على مد حياة أسفلت الشارع من 20 إلى 40 سنة.
&