ينقل كريستوف رويتر لشبيغل أونلاين مشاهدات مؤثرة شهدها في آخر ساحة للعب الأطفال في حلب، تنكمش رويدًا رويدًا إذ تغزوها القبور، حيث تتجاور جثامين جند النظام السوري ومعارضيه.&


&
إعداد عبدالاله مجيد: كان ماجد يجر بمشقة كبيرة دلوًا مليئًا بالماء على العشب الذابل. &وحين سُئل عما يفعله، أجاب ببراءة: "أسقي أمي". ومتى سأله أحدهم لماذا يسقي امه، ينظر الصبي ابن الثلاثة عشر عامًا بحيرة، وكأنه سؤال غبي لا يطرحه إلا الغريب، لكنه يجيب: "لأنها ترقد هنا".
&
نصر على الموت
&
يصب الماء على كومة من تراب، هي قبر أُمه، الذي يستظل شجرة صنوبر قديمة. يقول: "يجب أن أسقيها، وحينذاك ينمو شيء بكل تأكيد"، ثم يعود لملء الدلو مجددًا.
&
توفيت أم ماجد في الصيف، لكن لا أحد في العائلة يملك ما يكفي من المال لوضع شاهد يليق بها، أو حتى ترسيم حدود القبر. يقول ماجد: "ماتت بسبب قلبها، وكانت في منتصف ثلاثينياتها".
&
في الواقع، لا أحد في حلب يسأل اليوم لماذا مات فلان أو فلان. ويجر ماجد دلوًا ثالثا من الماء إلى قبر أمه، كأنه يريد التكفير عن أثم لا يد له فيه، بل كأنه يستطيع أن يحقق نصرًا صغيرًا على الموت بدلو ماء يسكبه على قبر أمه.
&
الساحة الأخيرة
&
بعد ذلك، يعود ماجد إلى اللعب مع الأطفال الآخرين، في ساحة الرمل القريبة، حيث تنتصب أراجيح وزلاقة وكومة تراب. إنها آخر ساحة للعب الأطفال في حي صلاح الدين وسط حلب، يأتيها الأطفال كل يوم، يملأ الصغار منهم أنصاف قنانٍ بلاستيكية بالرمل، والأكبر منهم يلعبون لعبة الحرب.
&
يضيف كرسيتوف رويتر، في تقرير له من حلب، نشرته شبيغل أونلاين، أن أصوات الرصاص تتردد في ساحة اللعب، وتهتز المباني المحيطة من قوة الانفجارات، لكنّ ماجد وجوجو والآخرين لا يعيرونها أي اهتمام، ليس لأنهم يستهينون بالخطر بل لمعرفتهم الواسعة بهذه الأصوات. وقال عماد (11 عامًا): "انها قذيفة هاون"، حين دوى صوت انفجار مكتوم. أضاف: "لقذائف الدبابات صوت مختلف".
&
قواعد البقاء
&
لأطفال حلب آذان مدرَّبة على الأصوات التي ترافق الموت، خصوصًا الأطفال الذين يترددون على آخر ساحة لعب في حي صلاح الدين. فهي تقع على جبهة القتال مباشرة. ويقع الشارع التالي في مرمى قناصة النظام، لهذا أُقيمت حواجز على التقاطع الذي يلي ساحة اللعب.
&
وبذلك، يكون حائط الساحة المواجه لذلك الجانب من المدينة بمثابة خط الحدود بين الحياة والموت. واحيانًا تكون رائحة الجثث المتفسخة عالقة في الهواء القريب.
&
في هذه الأجواء، ثمة قواعد للبقاء بحسب رويتر، تقول احداها: كلما اقتربت من الجبهة قل تعرضك لخطر البراميل المتفجرة، التي يمكن أن يصل وزنها إلى طن. تُلقى هذه البراميل المليئة بالمتفجرات والكرات المعدنية من مروحيات على ارتفاع آلاف الأمتار وكثيرًا ما تحرفها الريح عن مسار سقوطها. وتتجنب مروحيات النظام استخدام هذه البراميل في المناطق التي لا تفصل بين قوات النظام والمعارضة إلا 100 متر. وفي حي صلاح الدين الذي تفصله حارة واحدة عن الجانب الآخر من المدينة لا تكون حتى قذائف الدبابات مصدر خطر بسبب قرب المسافة.
&
عادي!
&
في مناطق اخرى من حلب، التي كان يسكنها أكثر من مليونين، ينهمر الموت عل السوريين من السماء أكثر من أي وقت مضى، إذ تضاعف عدد البراميل المتفجرة مرتين منذ تشرين الأول (اكتوبر)، وثلاث مرات في مدن أخرى شمالي سوريا. ومرة أخرى توشك قوات النظام على تطويق مواقع المعارضة في حلب.
&
لكن الوضع في ساحة اللعب طبيعي، على نحو غريب. فالأطفال ينزلقون ويتأرجحون على جبهة القتال. ومن أكثر الكلمات التي سمعها رويتر من أفواه الأطفال هي كلمة "عادي". فأن يلعبوا على مرمى القناصة أمر "عادي"، وأن تزحف قبور الموتى إلى ساحتهم شيئًا فشيئًا أمر "عادي"، وأن يكون العديد من آبائهم وأخوتهم واقاربهم قد قُتلوا أو اختفوا أمر "عادي"، وأن يكونوا هم أنفسهم رأوا الموت في احيان كثيرة، فهذا "عادي".
&
انكماش الساحة
&
لم يعد عماد وماجد وصديقهما احمد يلعبون في التراب، لأن هذا أصبح لعب "الاطفال الصغار". ويقول أحمد: "نحن نلعب جيش الأسد والثوار، نتقاتل وننصب كمائن ونأخذ أسرى". لكنهم لا يغامرون باللعب بين أنقاض الحي. يقول أحمد: "أمي تقول هذا غير مسموح"، مضيفًا أن والديه يستطيعان رؤية ساحة اللعب بسهولة منذ قُصفت عمارتهما السكنية، وانهار جدار شقتهما الذي يطل على الساحة.
&
وأوضح أحمد لشبيغل أونلاين: "الجدار الذي كانت فيه نوافذ لم يعد قائمًا".
&
وكان آلاف السوريين، بينهم الكثير من الأطفال، قُتلوا في القصف أو بالرصاص أو تحت أنقاض بيوتهم. لكن الأطفال الذين نجوا ولم يعرفوا سوى الحرب طيلة الشطر الأعظم من حياتهم يرون في الجحيم المحيط بهم حقيقة من حقائق الحياة اليومية، لا تقف حائلًا بينهم وبين اللعب، في هذه الساحة على الأقل.
&
وينكمش الفضاء المتاح للعبهم من أسبوع إلى آخر، إذ يتعين دفن الموتى في مكان ما، فوجدوا مثواهم الأخير في هذه الرقعة. وحين لا يكون أحمد واصدقاؤه منهمكين في اللعب فإنهم يسقون القبور المرتَّبة بانتظام، رغم أن العديد منها لا تحمل حتى اسماء المدفونين فيها.
&
هنا دفن "الجهاديون"
&
قرب المدخل، دُفن "الشهداء" ومقاتلو المعارضة والضحايا من سكان الحي. وفي المؤخرة، على اليمين قرب الجدار الفاصل بين الحديقة وخط نيران القناصة، دُفن جنود النظام وشبيحته.
&
وتحت كومة التراب، حيث يلعب الصغار، دُفنت رفات ثلاثة "جهاديين" فجروا أنفسهم في اوائل كانون الثاني (يناير). وقال الطفل عماد لشبيغل أونلاين: "لعلهم كانوا اربعة، فالأشلاء كثيرة ومن الصعب فرزها، وشباب الثورة أهالوا التراب عليهم هنا".
&
وقال آخرون إن الثوار لم يكونوا يحبون "الجهاديين". ويتذكر أحدهم: "كانوا يضربوننا ويدفعوننا دائمًا إلى المسجد للصلاة، ولكننا كنا نريد أن نلعب".
&
يصعب جمع الأشلاء ومعرفة لمن تعود هذه الساق أو هذه الذراع، فكان متعذرًا دفنهم بطريقة لائقة، لذا وضعت اشلاؤهم في حفرة واحدة وأُهيل عليها التراب، إلى أن ظهرت هذه الأكمة في ساحة اللعب.
&
إحساس بالاستقرار
&
إلا أن رويتر نقل عن الأطفال قولهم: "لا نسقي إلا الشهداء". وهذه جزئية مهمة كررها عماد عدة مرات. ومثلما يحمل ماجد دلاء الماء إلى قبر أمه، فإن الأطفال الآخرين يعتنون بقبور ذويهم، كأن هذا العمل الصغير يمنحهم احساسًا بالاستقرار وسط الفوضى المحيطة بهم.
&
انها ليست حربهم، لكنّ آباءَهم وأشقاءهم وامهاتهم واقاربهم هم الذين يموتون ويرقدون هنا، قرب الذين حاربوا مع القتلة.&
&
وهؤلاء قبورهم لا تحصل على ماء يسقيها من الأطفال. ذهب شقيق أحمد الأكبر ذات يوم باحثًا عن خبز، حين توقف مخبز الحي عن العمل. كان ذلك قبل عامين، ولم يعد. ابن عم احمد أراد أن يحلق شعره فاختفى هو الآخر، وكذلك شقيق عماد.
&
كل القصة
&
هناك مركز في حلب تُجمع فيه صور الجثث مجهولة الهوية، ويحفظ شرطي متقاعد في المركز متعلقاتهم في أكياس صغيرة، ويسجل تاريخ ومكان العثور عليها في دفتر. لكن البحث عن الموتى مكلف ويستهلك الكثير من الوقت والطاقة وهذه كلها موارد ثمينة يحتاجها الحلبيون من أجل البقاء.
&
وحين سُئل عماد إن كان يعتقد بأن شقيقه سيعود ذات يوم، طقطق بلسانه وهز رأسه بالنفي. صمت لحظة قبل أن يتنحنح قائلا: "شقيقي ذهب ولم يعد، هذه كل القصة".
&
الحديث عن هذه الأمور ليس ممنوعًا، ولكن لا أمل في الحصول على اجابة. فان والد ماجد اعتُقل ولم يعد وان والدي طفلين آخرين أُقتيدا مثله على احد حواجز التفتيش ولم يعودا. وهذه هي القصة وما فيها.
&
لا أريد إلا عودة أبي
&
حسن (5 أعوام) كان الوحيد الذي لا يريد أن يقول لماذا اختفى والده أو حتى أن يعترف باختفائه. ويكاد حسن يذرف الدموع حين يقول صبي آخر بهدوء: "والده مات منذ زمن طويل"، ويستشيط غضبًا ويشد قبضته ثم يترك ذراعه تسقط على جنبه مكتفيًا بالقول: "لا أُريد سوى عودة أبي".
&
رغم زحف القبور إلى ما تبقى من ساحة اللعب، فإن رقعة مزروعة بالخضار تحتل الثلث الأخير، إذ قام احد الجيران بزرع هذه الرقعة في الربيع، ولكن ما فعله اثار غضب قادة المعارضة في المنطقة الذين اعلنوا الموقع كله مقبرة.
&
ويشكو بكري محسوم قائلًا: "أسقي الحديقة منذ سنوات وأعتني بالرقعة المزروعة كل يوم، فالكوسا والطماطم والبامية مزروعة للجميع في المنطقة". ولكن نمو نبتة الكوسة ليستظل بها قبران بمرور الزمن لم يخفف من وطأة المأساة، بحسب رويتر.&
&
خطر الذكريات
&
يتناهى صوت رصاصة. قطة تسلقت سطح كوخ أُصيب بأضرار قرب الجانب الخطير وصبي جديد في المنطقة يتسلق لملاحقتها. كان الصبي مرئيًا للحظات في مرمى الجانب الآخر، ولحسن الحظ لم يُصب أحد بأذى، وقفزت القطة عائدة من سطح الكوخ. يصرخ بكري من وراء مزروعاته: "لا احد يتسلق إلى هناك، فهو مكان خطير".&
&
بعد أقل من دقيقة يُنسى الحادث. يقول احمد لشبيغل أونلاين إن صديقه سمير أُصيب برصاصة في ذراعة في اليوم السابق، عندما كان يحاول أن يساعد والده، الذي كان يحاول أن يجر جارًا جريحًا من خط النار.
&
يقول الصبيان انهما كانا يخرجان مع عائلتيهما أيام الجمعة، ويذهبان إلى الريف لزيارة اجدادهما أو ربما إلى نهاية الشارع لشراء الآيس كريم. ويتذكر ماجد قائلًا: "نعم، كان ذلك لطيفًا". قال ماجد ذلك بصوت خافت أقرب إلى الهمس، وكأنّ هناك خطرًا في العودة إلى الذكريات.
&
نفتقد المدرسة
&
تلاشت المدرسة، وأصبحت شيئًا يمت إلى الماضي. قبل عامين ونصف العام، كانت الدروس مستمرة رغم القتال، كما يتذكر ماجد. يضيف: "ثم جاءت الصواريخ وصرنا ننتقل من مدرسة إلى أخرى ثم إلى القبو".&
&
بدأ عدد التلاميذ يقل بعد نزوح آبائهم أو مقتلهم أو خوفهم على أطفالهم. ويؤكد ماجد انه يفتقد المدرسة، ويفتقد أكثر الشقيقتين نور ابنة الستة عشر عامًا وريم ابنة السبعة عشر عامًا، اللتين كانتا تعلمانه القراءة والكتابة والانكليزية في ساحة اللعب. ويتذكر ماجد: "كانتا لطيفتين معنا".
&
الآن، ترقد الشقيقتان تحت الأرض التي يلعبون فوقها، يضم رفاتهما افضل قبر في الساحة، عليه بلاطة من الرخام حُفرت فيها اسماء افراد العائلة الذين قُتلوا بقنبلة في الربيع الماضي.&
&
أيهما اسوأ
&
تأتي والدة الشقيقتين كل يوم، ترافقها احيانًا صديقة لها. وتناقش المرأتان أيهما اسوأ، فقدان الأطفال أم فقدان الزوج كما حدث لصديقتها. وعندما حان وقت المغادرة، استمرتا في النقاش من دون اتفاق على أيهما اسوأ، تاركتين بلاطة الرخام للأطفال حيث يحبون الجلوس تحت شمس الخريف بعد ساعات الظهيرة.
&
حين سُئل الأطفال أين سيذهبون عندما تمتلئ ساحة اللعب بالقبور أو يتعين عليهم الرحيل هربًا من قوات الأسد، يجيبون بصوت واحد تقريبًا: "سنذهب للعب في مكان آخر". ويؤكد ماجد انهم سيعودون، ويهز الآخرون رؤوسهم كأنهم تذكروا شيئًا فاتهم للحظة.
&
ثم قال ماجد: "علي أن أسقي أمي".