قبل عامين، احتفى الفنلنديون بمرور مئتي عام على وفاة رحالتهم الأشهر والّين، والذي كان له عظيم الاثر في تعريف الشعب الفنلندي والمنطقة الاسكندنافية عمومًا بطبيعة الحياة العربية، العادات والتقاليد، الموروث العربي، وحتى اللغة العربية، بل للرجل الفضل في جعل اللغة العربية فرعًا مستقلًا في جامعة هلسنكي ابتداء من عام 1851، اضافة الى ذلك يعتبر والّين الباحث الأوروبي الاول الذي نشر الشعر النبطي.


جمال الخرسان من هلسنكي: "إن ما بين النهرين (العراق) له موقع جغرافي يميزه عن الأراضي الزراعية المحيطة ببلاد العرب، ويجعل التبادل التجاري والاتصال بينه وبين سكان الجبلين (أجأ وسلمى) امرًا طبيعيًا.

فالبدو مضطرون لرعي قطعانهم الكثيرة في الدهناء، ولا غنى لهم عن انتجاعها، ويسيرون شمالًا في مراعيها الخصبة متنقلين من مكان الى آخر حتى يصلوا تدريجياً الى ما بين النهرين، البلاد الكثيرة الكلأ والتي تستهويهم، فيضربون خيامهم، ولا يفكرون بالعودة الى اراضيهم الفقيرة في نجد". هكذا يصف العراق الرحالة الفنلندي "جورج اوغست والّين ـ Georg August Wallin" في كتابه الشهير (صور من شمالي جزيرة العرب في منتصف القرن التاسع عشر). في ذلك الكتاب يصف ويوثّق مشاهداته المختلفة اثناء تجواله في المنطقة العربية من شمال أفريقيا الى بلاد الشام العراق والجزيرة العربية.

غواص في اللغة العربية
والّين كتب الكثير عن العرب، فإضافة الى مذكراته، التي في معظمها تدوين لمشاهداته في المنطقة العربية، والتي تصل الى خمسة مجلدات، له ايضًا مجموعة من المؤلفات منها: " أهم الفروق بين لهجات العرب المتأخرين والمتقدمين"، وايضًا "صور من شمالي جزيرة العرب في منتصف القرن التاسع عشر"، اضافة الى "ابن الفارض"، وغير ذلك مما ترك من آثار.

بتاريخ الرابع والعشرين من تشرين الاول (أكتوبر) عام 1811، ولد والّين في احدى جزر أرخبيل أولاند في جنوب فنلندا في احضان بحر البلطيق. مراحل التعليم الاولى قضاها متنقلاً في معاهد فنلندا التعليمية، ثم انتقل الى جامعة سانت بطرسبورغ من اجل الحصول على الدكتوراه التي حصل عليها في العام 1839، وكان موضوع اطروحته حول أوجه الاختلاف بين العربية الكلاسيكية الفصحى واللهجات العربية الحديثة.

يتردد العراق مرات عديدة في آثار جورج اوغست والّين. ففي رحلته الثانية الى المنطقة العربية، والتي بدأت في العام 1847 يتحدث والّين عن مروره بمدينة النجف، التي وصلها يوم& 15/ ايار عام 1848، حيث يقول: "أتينا سهل جفرة العراق قرب قرية قصر الرحيمي، وتوجهنا منه الى القبة الذهبية إلى ضريح الإمام علي، وقد بدت لنا في الافق، وعبرنا - في طريقنا على الارض الرملية المتموجة - قاع قناة شابور القديمة الجافة، ثم مررنا في مضيق جبل سنام المنعزل، وبعد مسير اثنتي عشرة ساعة من دون توقف في الليل، وصلنا الى مشهد علي خاتمة رحلتنا".

وراء الحقيقة
وللتذكير فقط، فإن قناة سابور، التي اشار إليها والّين، هي القناة التي حفرها الملك سابور ذو الاكتاف على مسافة تقارب 600 كيلومتر بين حديثة وام قصر لحماية المناطق الزراعية من الغزوات، التي كان يشنها العرب لطرد الفرس. في الرحلة نفسها سار والّين من النجف الى بغداد، التي وصلها في الرابع والعشرين من حزيران (يونيو)، وتحدث عن مشاهداته هناك.

اكثر ما يميز والّين&عن غيره أنه مستشرق ورحالة يبحث عن تدوين الحقيقة اكثر من أي شيء آخر، حتى وإن مزجها بشيء من استنتاجاته الذاتية، ولم يأتِ الى المنطقة العربية بدوافع سياسية، كما فعل الكثيرون من المستشرقين، الذين قدموا الى المنطقة العربية من جنوب ووسط اوروبا، لهذا فتجربة والّين تتمتع بدرجة عالية من الحياد والموضوعية، مما يكسبها قيمة علمية اكبر.

متعة الصحراء
والّين المتشبع بسحر الطبيعة وأناقتها صيفًا وقسوة ثلجها وبردها شتاء، جاء الى الجزيرة العربية باحثًا عن الصحراء، حيث كانت تستهويه كثيرًا تنقلاته في الرمال وبين التلال الصفراء.

بعد فترة ليست قليلة من التجوال، عاد والّين الى فنلندا، ليدفع الى الامام مجال الاستشراق الذي يمتلك حيزًا كبيرًا في اشهر جامعات فنلندا، والذي تعود بداياته الى العام 1640 حينما تأسست اولى الجامعات الفنلندية. توفي جورج والّين في الثالث والعشرين من تشرين الاول (أكتوبر) عام 1852. وترك وراءه اضافة الى كتب، مذكرات، خرائط، ترك على ضريحه أيضًا حجرًا نقش عليه اسم "عبد الولي" بحروف عربية، ليكون قبره علامة بارزة شكلاً ومضمونًا في مقبرة هيتانيمي في هلسنكي.
&