أراد الليبيون الخلاص من القذافي، وتحويل بلادهم إلى دبي جديدة، لكنهم غرقوا في الحرب الأهلية وفوضى السلاح ونشوء التنظيمات الإسلامية المتطرفة، ويدخلون العام الجديد بحكومتين وبرلمانين وإحباط شديد.


مروان شلالا من بيروت: حكم العقيد معمر القذافي ليبيا 42 عامًا، وحوّلها مزرعة خاصة له تحت مسمى الجماهيرية وبقانون الكتاب الأخضر، فأخلاها من كل روح مبادرة، وقتل في مجتمعها كل خلية حية. فما أن تمكنت منه الثورة وقتلته مزلزلة حكمه، حتى دخل الليبيون نفقاً آخر من القهر، إذ يبلغون العام 2015 بليبيا مقسومة بين حكومتين وبرلمانين يتنازعان الشرعية، ومنزلقة إلى أتون حرب أهلية طاحنة، ومتورطة في تطرف إسلامي سيزيد ركامها ركامًا، وليس في الأفق ما ينذر بانفراج.

دبي جديدة؟!
لا تنتهي التحليلات التي يسوقها الخبراء حين يحاولون قراءة اللوحة الليبية المزدحمة، خصوصًا أن المتغيرات الليبية لا تشي بالكثير من الاستقرار على المدى المتوسط، بالرغم من مبادرات أممية جادة، تسعى إلى الوصول بليبيا إلى سلام أهلي استباقي، فتنجو من سطوة الإسلاميين، وتنجو من ويلات حرب تفرض نفسها.

يقول الأستاذ الجامعي سالم النيهوم إن الليبيين أسقطوا نظام القذافي، وكلهم أمل في أن تتحول ليبيا إلى دبي جديدة، "أما اليوم فكلهم مساهم في صوملة بلادهم أو عرقنتها"، خصوصًا أن حالة الفلتان الأمني حصدت ألف قتيل حتى الآن، وتسببت في نزوح أكثر من 100 ألف من بيوتهم، بحسب المفوضية العليا للاجئين التابعة للأمم المتحدة.

غياب العقل الرشيد
من المسؤول عن وصول ليبيا إلى هذا الدرك؟، يلقي المحلل السياسي سليمان المجبري الأخطاء التي أوصلت ليبيا إلى ما هي فيه الآن على شماعة المؤتمر الوطني العام، أي البرلمان الليبي المنتهية ولايته، "بدءًا من عدم إنهائه لولايته في مطلع شباط (فبراير)، وعدم إقراره الدستور الدائم للبلد، وعدم دعوته إلى انتخابات دستورية، وفق ما تقتضيه مواد دستور&لا يزال قيد الإعداد".

أما المحلل السياسي محمد الشريف فيردّ الأزمات التي تعصف بالبلد إلى غياب العقل السياسي الرشيد، الذي يمكن أن يخلص ليبيا من بركة الوحل الذي علقت فيه، "فالاقتتال والتنازع على السلطة والحروب القبلية والجهوية والأيديولوجية تثبت فعليًا أن لا انفراج قريباً في أفق ليبيا".

الخوف الكبير اليوم آتٍ من التأثير الكبير الذي يبدو أن تنظيم الدولة الإسلامية يتركه في المجتمع الليبي، إذ بات يجذب العديد من المؤيدين، وخصوصًا الشباب في الأوساط الراديكالية في ليبيا. فمدينة درنة صارت إمارة إسلامية، يرى فيها الخبراء موطئ قدم للتنظيم، ليس في ليبيا وحدها، ولكن في شمال أفريقيا.

العاصمة ساقطة عسكريًا
يخطّئ بعض المراقبين السلطات الانتقالية التي تشكلت مع انهيار "جماهيرية القذافي" في العام 2011 لأنها كلفت الثوار أنفسهم بضمان الأمن، فانقسموا في عشرات، بل مئات الميليشيات، تشكلت على أسس عقائدية أو قبلية، ورأوا أنفسهم من القوة ما يشرّع لهم تحدي الدولة عندما تمس مصالحهم، ما هدد السلم الأهلي وعملية بناء المؤسسات في البلاد، وخصوصًا إعادة بناء الجيش والشرطة. وكيف لا وهم يرون السلطة عاجزة عن وقف تنامي هذه الميليشيات، وخصوصًا المتطرفة منها، التي بايعت تنظيم الدولة الاسلامية (داعش)، متخذة من الشرق الليبي حصنًا لها، وخصوصًا في بنغازي، التي كانت مهد الثورة الليبية على القذافي.

وأمام ضعف الحكومة الانتقالية، شنّ اللواء خليفة حفتر (صار فريقًا الآن)، الذي شارك في الثورة على القذافي، هجومًا في أيار (مايو) على الميليشيات الليبية الإسلامية متهمها بـ "الإرهاب". فاتهمته السلطات الانتقالية بمحاولة الانقلاب عليها، ثم اضطرت لتغيير موقفها بعدما نال تأييد وحدات الجيش والمواطنين. إلا أن العاصمة طرابلس تبقى في يد ميليشيات مصراتة، التي اتخذت اسم "فجر ليبيا"، منذ آب (أغسطس) الماضي.

أقره وأبطله
وبعد رفض، انتقلت حكومة عبد الله الثني والبرلمان المنتخب في 25 حزيران (يونيو) الماضي، والاثنان يتمتعان باعتراف الأسرة الدولية، إلى طبرق الخاضعة لسيطرة حفتر، فيما شكلت ميليشيا فجر ليبيا حكومة إسلامية برئاسة عمر الحاسي، وأحيت المؤتمر الوطني العام الذي انتهت ولايته.

ما زاد الطين بلة إبطال المحكمة الدستورية الليبية تعديلاً دستورياً أنتج البرلمان المعترف به. هذا الإبطال أربك المجتمع، ووضع ليبيا أمام حكومتين وبرلمانين يتنازعان الشرعية على السلطة.

وحمل الأستاذ الجامعي خالد الفلاح البرلمان المنتهية ولايته مسؤولية هذا الخطأ، "فهو من أقر تعديل الإعلان الدستوري الذي انتخب بموجبه مجلس النواب، وهو من هرول إلى القضاء للطعن في تعديله ليتشبث بالسلطة".

أدهى من حكم القذافي
تبددت آمال الازدهار الاقتصادي والتحول الديموقراطي السلمي في هذا البلد الغني بالنفط، حيث يتم تدمير ما تبقى من مؤسسات هشة وبنى تحتية متهالكة أصلًا بسبب القتال.
وحذر مصرف ليبيا المركزي في مطلع الشهر الجاري من أن البلاد ستشهد عجزًا حادًا في موازنة 2014، يناهز 50 بالمئة بسبب تدني العائدات النفطية وإغلاق موانئ التصدير في ليبيا لأشهر طويلة. وهذا ما يضع الليبيين أمام وضع تكاد مأساويته تتجاوز مأساوية "الجماهيرية" المقتولة.

ويقول الطبيب الليبي صلاح محمود: "الفوضى أنهكت الليبيين والصراعات الجهوية والأيديولوجية والقبلية أدهى من القبضة الأمنية والحكم الديكتاتوري السابق، ولا أرى انفراجًا للأزمة في العام 2015".

&