تخطو العاصمة اللبنانية بيروت في العام الجديد بلا رئيس، مثقلة بملفات ساخنة، أهمها تداعيات الأزمة السورية، بالرغم مما يشكّله حوار التناقضات الاسلامية والمسيحية من فسحة أمل، يراهن البعض على نجاحها اليوم، تأثرًا بحلحلة عقد إقليمية.


بيروت: لا شك في أن الأجواء المواكبة للحوار السني - الشيعي، الذي بدأ قبل انتهاء العام 2014، يؤسس لمرحلة من الاستقرار في لبنان، تمتد في العام 2015، خصوصًا أن لبنان الذي يعاني منذ العام 1975& أزمات متتالية واستحقاقات متلاحقة يحتاج إلى التقاط أنفاسه، سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا. فمواجهة النار السورية، التي تهدد لبنان في حدوده وفي مجتمعه، تحتاج إلى استقرار ووحدة صف ورؤية موحدة للدولة اللبنانية، لا يمكن أن تصل إلى خواتيمها السعيدة إلا بانتخاب رئيس للجمهورية.

حادة أو تجميلية؟

فلبنان يعيش بلا رأس منذ 25 أيار (مايو) الماضي، وهذه الحال مرشحة للاستمرار بعد 16 جلسة برلمانية إنتخابية فاشلة، بسبب ترشّح سمير جعجع، رئيس حزب القوات اللبنانية، عن فريق 14 آذار، وتمسّك النائب ميشال عون بأن يكون رئيسًا توافقيًا لا يحوز توافق الجميع، وطرح النائب وليد جنبلاط مرشّحًا ثالثًا، هو النائب هنري حلو.

ورئاسة الجمهورية، بحسب ما صرّح النائب غسان مخيبر، عضو تكتل التغيير والإصلاح، في صلب الحوارات المستجدة، "التي تشمل أبعد من الرئاسة، أي ما يصبو إليه اللبنانيون من بناء مؤسسات الدولة، من الرئاسة إلى قانون الانتحاب إلى إقرار اللامركزية الادارية الفعالة، وهذا ليس متحصلًا".

إلا أن النائب عن الجماعة الاسلامية الدكتور عماد الحوت أكد لـ"إيلاف" أن العامل الخارجي في اختيار الرئيس أكبر من العامل الداخلي، "فالرئاسة ورقة تفاوضية لا أكثر في الحوارات المستجدة اليوم، وهي برأيي حوارات تجميلية، مهمتها تحضير المشهد العام، حتى إذا جاء الضوء الأخضر الخارجي تم انتخاب الرئيس، وبالتالي ليست حوارات جادة تنتج رئيسًا".

ويتوافق معه ماريو أبو زيد، محلّل الأبحاث في مركز كارنيغي للشرق الأوسط في بيروت، إذ يرى أن الحوار السني الشيعي اللبناني لن ينتج انتخاب رئيس إلا بإيعاز سعودي - إيراني، "يصل إلى تفاهم إقليمي، كالذي حصل سابقًا وأنتج الحكومة الحالية، التي ما كانت لتتشكل لولا تفاهم معين، خصوصًا أن عون لا يرى غيره في بعبدا، مقابل مبادرات قواتية أكثر ليونة".

خط تماس بارد

وبيروت المشرفة على العام الجديد تبقى بيروت التي تتقاطع فيها المصالح المتناقضة. وما حوار المستقبل- حزب الله اليوم إلا تظهير محلي للتناقض العربي - الفارسي المستعر على أشده في سوريا.

لطالما كانت بيروت خط تماس باردًا نسبيًا بين سوريا والسعودية، حتى كانت مبادرة الـ "س-س"، أي "سوريا - السعودية"، لتخفيف التوتر في الحقبة التي تلت اغتيال رئيس الحكومة السابق رفيق الحريري، وسبقت القطيعة السعودية مع نظام بشار الأسد مع اندلاع الثورة السورية، ووقوف السعودية مع الشعب السوري ضد جلاده.

يقول أبو زيد لـ"إيلاف": "انهارت سوريا، وانشغلت بحربها الأهلية التي تبدو طويلة بلا قدرة على حسم عسكري، وبلا أفق لحل سياسي، عادت النغمة اللبنانية القاصرة دومًا عن اجتراح الحلول إلى معادلة بديلة، وهي اتفاق 'س-أ'، أي السعودية - إيران، ليبقى الوضع اللبناني مفتوحًا على احتمالات الاتفاق بين القطبين الاسلاميين، وعلى احتمالات اختلافهما".

المطلوب تحييد لبنان

ويرى مخيبر إن هلال التماس السني الشيعي يتجاوز بيروت، إلى المنطقة بأسرها، "ولا يشكل لبنان في هذا الصراع الجيواستراتيجي المستعر إلا نقطة صغيرة، يعمل الأطراف النافذون على تبريدها، بفعل هذا الحوار المستجد بين الممثلين المحليين لهاتين القوتين الاقليميتين، إيران والسعودية، ما يعكس رغبة في تحييد لبنان عن الصراعات الاقليمية، والحفاظ على استقراره، وهو مرحّب به بل ضروري لتحييد البلد عن صراعات المنطقة".

ويتوقع الحوت أن تستمر الحال، وأن يكون التبريد المتوقع من حوار الفريقين شكليًا وآنيًا، "فالبنود المطروحة على مائدة حوار المستقبل وحزب الله لا تلامس الاشكاليات الكبرى الموجودة، وبالتالي هي هدنة موقتة لا أكثر، بانتظار كلمات سر خارجية، بتثبيت الهدوء أو الرجوع إلى التجاذب".

وإذ يعلق أبو زيد بعض الأمل على الحوار بين المستقبل وحزب الله، لينتج تهدئة معينة، لا يراهن كثيرًا على حوار جعجع - عون، مستعيدًا نمط العلاقة الشخصية بين الزعيمين المسيحيين منذ حرب الالغاء في 1988- 1989. يقول: "نلاحظ تهدئة إسلامية بعد كل حوار، بينما نرى تشنجًا مسيحيًا بعد كل حوار، كما يحصل في الجامعات".

القبضة المزدوجة

تبقى بيروت في العام الجديد رهينة القبضة القوية للصراع بين حزب الله من جهة وبين جبهة النصرة وتنظيم الدولة الاسلامية (داعش). فالتنظيمان السوريان يؤكدان أن حربهما على حزب الله مردّها إلى وقوفه صفًا واحدًا مع الطاغية بشار الأسد، وحربه على الشعب السوري، بينما يدافع الحزب عن تورطه في الميدان السوري بتبرير يسميه "الحرب الاستباقية على التكفيريين"، حتى يقول إن لولا تدخله في سوريا لكان داعش اليوم في وسط بيروت.

ويشير مخيبر لـ"إيلاف" إلى إن الاشارات الناتجة من الحوار إيجابية، وتسمح بتحييد لبنان عن الصراعات، وعلى اللبناني استثمارها، "وثمة إرادة محلية جامعة لتعزيز قدرات الجيش اللبناني بصفقة السلاح الممولة سعوديًا، لتعزيز مناعة لبنان بوجه الارهاب، وأعتقد أن التطور الجديد في تسليح الجيش يحوز دعم كل القوى اللبنانية، وبينها حزب الله والمستقبل، لذا لم يجد الارهاب المتمثل في النصرة وداعش جذورًا له في الساحة اللبنانية".

ويربط الحوت في حديثه مع "إيلاف" الواقع اللبناني بالواقع الاقليمي، "المتراقص على الإيقاع السوري، فلا تبديل في لبنان إلا بتطور نوعي في الثورة السورية". وكذلك يفعل أبو زيد، إذ يقول لـ"إيلاف" إن السياسة اللبنانية تابعة وغير مقررة، "وهذه السياسة العاجزة تضع المواطن على تماس شخصي مع أمنه، وتضع الطوائف الخائفة من الارهاب ومن حزب الله على السواء على تماس مع أمنها الذاتي".

تجاذب اللحاف

مخيبر مؤمن بأن الملف الأكثر صعوبة داخليًا هو التوافق على قانون انتخابي جديد، "كونه المعيار لتحديد الأوزان السياسية في البلاد، علمًا أن لبنان يعيش أوليغارشية طائفية فاسدة، وتنوع الاوليغارشيات الطائفية فيه تمنع تزعم طائفة على أخرى، وبالتالي لا سطوة لطائفة على أخرى، أو فريق على آخر، ما يمنع نشوء ديكتاتورية أحادية، وبالتالي يعيش لبنان في ديمقراطية غير مكتملة، تسمح باستمرار التجاذبات، والتحديات التي تواجه البلاد تتمثل في تفعيل العمل البرلماني، بعد انتخاب مجلس نيابي جديد، والانتهاء من مهزلة التمديد بناءً على قانون جديد، يمنع تجاذب اللحاف اللبناني، ويضع في متناول السلطات أدوات تسمح باتخاذ قرارات منتظمة وفاعلة".

وبحسب مخيبر، المطلوب التطوير في الثقافات، بتطوير الحوارات السياسية، تستمر على المستوى المسيحي - المسيحي، وصولًا إلى حوارات بناءة داخل المؤسسات اللبنانية، "فالتجربة اللبنانية على شوائبها تمكنت من الصمود بفضل تنوعها، بالرغم من التجاذبات، لأن التنوع شكل ضمانة للبنان في مرحلة صعبة، من خلال توافقات تحفظ الاستقرار في منطقة انهارت فيها الحدود والأنظمة وبقي لبنان".

حبال الهواء

هذا الهامش الضيق دفع باللبناني إلى التمسك بحبال الهواء، تدفعه الهزائم النفسية المتراكمة إلى التهليل للمنجمين متى "رأوا" بارقة أمل تطل من عالم الغيب. ويرفض مخيبر ذلك، ويقول إن كثرة الكلام وقلة العمل أوصلت لبنان لأن يصنف دولة فاشلة، بسبب سوء التخطيط، "فأدعو إلى صحوة من التنجيم، والانطلاق في العمل والتخطيط".

ويرفض أبو زيد أيضًا ما تقوله التوقعات والتنجيمات، التي صارت طابعًا أساسيًا في السياسة اللبنانية، ويفضل الدخول في التحليلات التي مفادها أن التجاذبات اللبنانية ستتطور نحو الانفجار السياسي فقط، "في غياب رئيس، وتمديد غير شرعي لمجلس النواب، وبداية تفكك الحكومة إلى رؤوس تنفذ أجنداتها الخاصة، لكن لا إنفجار عسكري متوقع، خصوصًا مع تعزيز قدرة الردع لدى الجيش اللبناني، بفضل الأسلحة الفرنسية الممولة سعوديًا، فالجيش سيتمكن من ضبط الحدود، وضمان الاستقرار، وهذا مؤشر كبير على أن ما يقال عن تفجر أمني أمر مستبعد".

أياد بيضاء لبنانية

من خلف هذه التراكمات، كان وزير الصحة اللبناني وائل أبو فاعور نجم الربع الرابع من العام 2014، وهو مرشح للاستمرار في نجوميته في خلال العام الجديد، بحملته لمكافحة الفساد الغذائي.

وكعادة اللبنانيين، يحاولون تجيير أي عمل، ولو كان بريئًا، لمصلحة سياسية أو طائفية، وهذا ما تتعرض له الحملة ضد الفساد. فبعدما حاول بعض المسؤولين اللبنانيين الحد من "خطورة" الحملة في بدايتها بالاحتجاج من طرح اسماء المؤسسات المخالفة في الاعلام، ومن التهويل بخطر أبو فاعور على السياحة الوطنية، يحاول بعض اللبنانيين رد حملة أبو فاعور إلى مصالح سياسية وانتخابية، تصب في صالح فريقه السياسي.

وتقول مصادر في وزارة الصحة اللبنانية لـ "إيلاف" إن الحملة مستمرة، شاء من شاء وأبى من أبى، لأن الفساد وصل إلى لقمة المواطن اللبناني، وهذا ما لن يسمح الوزير أبو فاعور باستمراره، مؤكدين أن أبواب الوزارة وإداراتها ومختبراتها مشرعة أمام كل من يريد التأكد من جدية الحملة ونزاهة العاملين فيها.

سلة تشريعية

والفساد بالنسبة إلى مخيبر لا يقتصر على الملفات الغذائية والصحية المفتوحة الآن، "فالطائفية هي العقبة الكبرى أمام الديمقراطية لأنها تنتج الأوليغارشية، وأمام النمو لأنها تنتج الانكماش، وأمام المساواة لأنها تنتج اللاتوازن".

ومع ترحيبه الكبير بما يقوم به أبو فاعور، يدعو إلى انتقال الهمة المستجدة ضد الفساد إلى مؤسسات تطبع هذا الجهد بطابع الاستمرارية، من خلال إنشاء المؤسسة الوطنية لسلامة الغذاء وتفعيل دورها، وتفعيل عمل البرلمان في المساءلة والمحاسبة، وتطوير قانون انتخابي يمنع الفساد الانتخابي، إعلاميًا وتمويليًا، من خلال سلة تشريعية تشمل هيئة مكافحة الفساد، وإقرار قوانين لكشف المفسدين، وللذمة المالية، وللشفافية في الوصول إلى المعلومات، وصياغة موازنة عامة، وتفعيل الهيئات الرقابية وتطوير القضاء".

بيروت القدوة

بيروت 2015 تبقى بيروت، بلا تبديل في مكانتها الثقافية العربية والاقليمية، "وهي مركز الثقل الثقافي في المنطقة، لأنها مركز التنوع والانفتاح والليبرالية، والحفاظ على هذه السمات هو معركة ثقافية بوجه الارهاب، لا تقل أهمية وضراوة عن المعركة الأمنية والعسكرية"، كما يقول مخيبر.

ويضيف لـ"إيلاف": "لا عاصمة تنافس بيروت في هذا البعد الثقافي، ولا حتى في البعد الاعلامي، فالبرغم من تقدم عواصم عربية وإقليمية على بيروت بالتقنيات الاعلامية المستخدمة، لكن تبقى حرية التعبير والاعلام السائدة في لبنان قدوة".

ويؤكد أبو زيد أن ليس هناك ما يؤشر إلى فقدان بيروت ثقلها الاقليمي ثقافيًا وإعلاميًا، "إلا إذا أرادت أن تتنحى، وهي بالتأكيد لا تريد ذلك، ولا يريد البيروتيون لها أن تتنحى، خصوصًا أنها أفضل مكان في المنطقة لالتقاء المتناقضين دينيًا وايديولوجيًا، ولإدارة أزماتهم، وهذا متى حصل يعز مكانة بيروت ولا ينتقص منها".
&