أطفأت الثورة السورية شمعتها الثالثة على صيغة لا حسم عسكري ولا حل سياسي ولا خيار سوى القتال والقتل وتهجير ما تبقى من السوريين، فيما تلوح في الأفق أحلام تقسيمية يرفضها السوريون.


بيروت: ما فكّر أحد، من العرب أو العجم، في أن رياح التغيير العاتية ستعصف بسوريا. فبينما كان العالم يتفرّج على جحافل المصريين في ميدان التحرير وسط القاهرة تطيح بحسني مبارك، ويساعد الليبيين على خلع حكم الجماهيرية وقتل عقيدها معمر القذافي، لم يكن يطرأ في بال احد أن شيئًا من هذا ممكن الحصول في سوريا. فحكم آل الأسد لأربعة عقود متتالية نجح نجاحًا باهرًا في خنق أي خلية حية من خلايا الشعب السوري، حتى صار الاعتراض ndash; اللهم إلا خلف أبواب مغلقة ndash; من سابع المستحيلات.

quot;قمعيةquot; بوجه quot;سلميةquot;
أما حين أخطأ أولاد أغرار درعاويون في 26 شباط (فبراير) 2011 بخط شعار المرحلة، quot;الشعب يريد إسقاط النظامquot;، على جدار مدرستهم، فما كان من النظام الحاكم بحديد المخابرات ونار التقارير إلا أن اخطأ الخطيئة الكبرى، محولًا هذر أولاد إلى ثورة فحرب فأزمة دولية، عرف الجميع كيف كان مبتداها، ولا أحد يعرف كيف منتهاها، ذهب ضحيتها حتى اليوم اكثر من 146 ألف قتيل.
أراد السوريون تقليد المصريين في الثورة على الحاكم، وأراد بشار الأسد تقليد الليبيين في إطلاق النار على الشعب. وكان الخروج الأول، في 15 آذار (مارس) 2011، لسوريين لا يزيدون عن بضع عشرات، يرفعون شعارًا واحدًا: quot;سلميةquot;. فأحاط بهم الأمن والشبيحة بالمئات أولًا، ثم بالآلاف، يرفعون شعارًا لا يفهمون غيره: quot;قمعيةquot;.
ثابر السوريون عامًا كاملًا على سلميتهم، ولو كانوا بدأوا يحتمون بالسلاح في صيف العام 2011، حتى حل 17 شباط (فبراير) 2012، وسقطت أول قذيفة مدفعية من مرابض الأسد على حمص، مفتتحة عصر عسكرة الثورة، ومطلقة حربًا ضروسًا من عقالها القاسي.
كرة النار
بلمح البصر، انقلبت سوريا كرة نار مشتعلة، وتحوّلت سوق سلاح وقتال، ثم ساحة جهاد يتقاطر إليها الجهاديون من أربعة أصقاع الأرض. وبلمح البصر، دخلت الدول، عربية وإقليمية وعظمى، المعمعة السورية، وانقسم العالم وأممه المتحدة ومجلس أمنها إلى مشروع قرار أميركي أوروبي شبه عربي يواجهه فيتو مثن سوري صيني بدعم إيراني.
على وقع الانقسام الدولي، رقصت سوريا بأجمعها على صفيح ساخن. وقامت حرب لا يمكن وصفها إلا بالأهلية، بينت بوضوح مدى الحقد الكمين بين مكوني سوريا، السني والعلوي. فساد الكر والفر، والذبح والجزر. تفتت الدولة، وتعاظمت حالات الانشقاق عن النظام السوري وجيشه، ليتشكل الجيش السوري الحر، تحضنه تركيا وتمده دول خليجية بالمال والسلاح. وبدا للجميع أن بشار الأسد على قاب قوسين أو أدنى من السقوط.
وتشكل الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية في قطر في تشرين الثاني (نوفمبر) 2012، في محاولة لتوحيد جبهة سياسية توازي جبهة القتال المناوئة للأسد، وما زال حتى الآن في طور التشكل، إذ لم يصل بعد إلى مستوى يخوله فعلًا أن يكون الممثل الشرعي للشعب السوري.

لن يركع!
شارفت المعركة على النهاية، حتى بدا للجميع أن روسيا نفسها تقر بخسارة حليفها. وحدها إيران قررت أن الأسد لن يركع، quot;ما دام في حزب الله طفل يرضعquot;. فدخل حزب الله ومقاتلون شيعة من العراق، بمؤازرة خبراء عسكريين من إيران، إلى الميدان، فغير ذلك في ميزان القوى، إلى جانب تراجع كل الوعود عن دعم الجيش الحر، بعد ظهور الكتائب الجهادية، التي تحجج فيها الغرب، متهمًا إياها بالإرهاب.
عاد جيش النظام وحزب الله إلى التقدم في حمص مع إسقاط القصير، وفي ريف دمشق، خصوصًا مع استخدام السلاح الكيميائي، فزاد انقسام المعارضة عسكريًا وسياسيًا. وهكذا، التقط بشار الأسد أنفاسه، بعدما تلقى تنفسًا اصطناعيًا من حسن نصرالله، أمين عام حزب الله. ومنذ كانون الثاني (يناير) الماضي، تدور اشتباكات بين مقاتلي المعارضة بخصوص أحقية السيطرة على المناطق الخاضعة لها، ما أغرى الجيش السوري بتكثيف ضرباته، والزحف على مناطق جديدة للمعارضة، آخرها يبرود التي توشك على السقوط.

كابوس التقسيم
العالم مقتنع بأن لا حسم في سوريا، بعد 1095 يومًا من القصف والقتل والذبح. والسوريون أيضًا مقتنعون بأن الحسم العسكري مستحيل، من الجانبين. لكن الأطراف السورية المتقاتلة تجد حرجًا كبيرًا في القبول بصيغة لا غالب ولا مغلوب، التي يعنيها الحل السياسي، خصوصًا أن جولتين من المباحثات المباشرة في جنيف، سميت بجنيف-2، لم تصلا إلى أي حد أدنى من التوافق.
وفي غياب الحسم والحل السياسي القريب، يخاف السوريون على بلدهم من شبح التقسيم، خصوصًا أن هذا التقسيم يجد فعليًا من يروج له، ويرى فيه خلاصًا لسوريا من ماض اسديّ مقيت ومستقبل ديمقراطي هو أقرب إلى أحلام اليقظة. وما يشجّع البعض على هذه الأحلام إصرار الأسد على ترشيح نفسه لولاية رئاسية جديدة، معللًا ذلك بأن 70 بالمئة من الشعب السوري يريده رئيسًا. إن كان الأمر كذلك، ثمة سؤال محيّر فعلًا: quot;لماذا ينزح عشرات الألاف من المدن التي يتركها المسلحون المعارضون ويستعيدها الجيش العربي السوري يا ترى؟ لماذا لا يبقون فيها طالما يؤيدون سيادته؟quot;.
أسوأ كارثة
وعلى هامش ذلك، تتعاظم مآسي اللاجئين السوريين في دول الجوار السوري، خصوصًا في لبنان والأردن. وبحسب الشبكة السورية لحقوق الإنسان، تجاوز عدد اللاجئين السوريين منذ بداية الأزمة 9.8 ملايين سوري، 3.5 ملايين منهم خارج البلاد. وقالت الشبكة إن عدد النازحين داخل سوريا وصل إلى 6.495 ملايين، مع اقتراب انتهاء الربع الأول من العام الحالي، بعدما كان في تشرين الأول (أكتوبر) 2012 نحو 4 ملايين نازح، وتبلغ نسبة الأطفال من النازحين 48 بالمئة، حيث وصل عددهم إلى 3.1 ملايين. وهذا يجعل الحرب الأهلية في سوريا سببًا لأسوأ كارثة إنسانية في التاريخ الحديث.
أغلب اللاجئين السوريين بحاجة إلى جميع أنواع المساعدات الإنسانية العاجلة، و60 بالمئة منهم، أي نحو 4.5 ملايين، يحتاجون إلى مساعدات غذائية عاجلة، ما يشكل خطرًا حقيقيًا.
والأمرّ من كل هذا أن 65 بالمئة من اللاجئين السوريين في الأردن يخشون من عدم تمكّنهم من العودة إلى سوريا، بحسب استطلاع قامت به منظمة أوكسفام الدولية.