قال الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، إن بعض البلدان قلبت مسار هجرة الأدمغة الى هجرة بالاتجاه المعاكس، وهو ما يحدث تمامًا في الإمارات التي باتت تستقطب الأدمغة والأيدي العاملة من مختلف أنحاء العالم، وحافظت على أبنائها داخل بلدهم.

دبي: دعا نائب رئيس دولة الامارات ورئيس مجلس الوزراء الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم الى التصدي لظاهرة هجرة الأدمغة التي تستنزف البلدان النامية منذ عقود.
&
ففي العام 1968، وبينما كان يدرس في المملكة المتحدة، اضطر الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم الى زيارة المستشفى. وهناك تفاجأ بطبيب كان يتحدث اللغة العربية بطلاقة. وقد علم أنّه جاء مؤخرًا الى المملكة المتحدة، فسأله: هل ستطيل البقاء هنا أم تنوي العودة الى بلدك؟ فأجابه الطبيب: داري هو المكان الذي أكسب فيه رزقي.
&
رافقت هذه الكلمات الشيخ محمد لعدة سنوات، لأنها أبرزت التناقض بين النظرة الى "الوطن" وظروف الحياة القاسية التي تدفع بالمواهب إلى الهجرة منه.
ولاحظ الشيخ محمد أن البلدان النامية تنفق من مواردها الشحيحة اصلاً على إعداد اطباء ومهندسين وعلماء بأمل أن يصبحوا محركًا للنمو والازدهار ثم تراهم بحسرة يهاجرون الى الغرب آخذين معهم ما اكتسبوه من مؤهلات وكفاءات واعدة.
&
اختيار الحياة الأفضل
وأكد الشيخ محمد في مقال كتبه وينشر غدًا في الصحف "أن من حق الفرد أن يختار حياة افضل في أي مكان من العالم، ونحن نتفهم سبب رحيله. فالموهبة تجذبها الفرصة كالمغناطيس".
&
"ولكن البلدان التي يخلفها هؤلاء وراءهم تشعر وكأنها تدور في حلقة شيطانية لا تتوقف. فهي تحتاج الى المواهب لتوفير الفرص، ولكن من دون فرصة فإن الكفاءات تنجذب نحو انوار الغرب المتألقة" ، كما يرى نائب رئيس دولة الامارات ورئيس مجلس الوزراء، مشيرًا الى تقارير الأمم المتحدة ومنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية بأن الهجرة من اجل العمل ازدادت بنسبة الثلث منذ عام 2000 وأن واحدًا من بين كل تسعة خريجين من جامعات أفريقيا يعيش ويعمل الآن في الغرب. وكثيرون منهم لن يعودوا.
&
ولكن الشيخ محمد لفت الى أن شيئاً جديراً بالاهتمام يحدث اليوم، منوهًا الى أن بعض البلدان قلبت مسار هجرة الأدمغة الى هجرة بالاتجاه المعاكس. واعتبر الشيخ محمد أن هذا الاتجاه يشجع على التفاؤل بكسر الحلقة الشيطانية، "وتغيير ميزان الأمل والفرصة بين الاقتصادات النامية والاقتصادات المتطورة".
&
الإمارات.. وجهة يقصدها أصحاب الكفاءات
وفي هذا الشأن استعرض الشيخ محمد دراسة جديدة اجراها موقع لينكد إن ، أوسع شبكة للمهنيين والتشغيل في العالم، تابعت صافي حركة الكفاءات والمواهب في العالم. ويقول الشيخ محمد "إن بلدي، دولة الامارات العربية، يتصدر القائمة بوصفه الوجهة التي يقصدها اصحاب الكفاءات والمواهب، حيث حقق كسباً صافياً من هذه الكفاءات بلغت نسبته 1.3 في المئة من القوى العاملة في عام 2013". ومن البلدان الأخرى "الجاذبة لأصحاب الكفاءات والمواهب، العربية السعودية ونيجيريا وجنوب افريقيا والهند والبرازيل"، بحسب دراسة لينكد إن التي اشار اليها الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم.
&
ومما يثير الاهتمام أن البلدان المتطورة تشكل اقل من ثلث البلدان المستوردة لذوي الكفاءات والمواهب، بل أن اكبر البلدان المصدرة لهذه الكفاءات، بحسب الدراسة، هي اسبانيا وبريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة وايطاليا وايرلندا، "وأن بلدانًا غنية كانت حتى الآونة الأخيرة تستدرج عقولنا الفذة بعيداً عن اوطانها ترسل الآن عقولها الينا"، كما يلاحظ الشيخ محمد.
ولا يفوت الشيخ محمد أن يذكر "أن هذه دراسة واحدة وأن العديد من البلدان الفقيرة ما زالت تعاني من هجرة مزمنة في العقول، حيث تبين ارقام منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية أن بلدانًا عديدة في افريقيا واميركا اللاتينية تزيد معدلات الهجرة بين خريجيها على 50 في المئة. فإن هجرة العقول "تكون في احيان كثيرة دالة أمان وأمن بقدر ما هي دالة فرصة اقتصادية"، على حد تعبير الشيخ محمد.
&
السلام من خلال التنمية
وفي ما يتعلق بمنطقتنا يرى الشيخ محمد "أن من اسباب المأساة التي تجري فصولها في بلدان الشرق الأوسط المبتلية بالنزاعات وانعدام الاستقرار أن ابناءها وبناتها الموهوبين لو أُتيحت لهم فرصة تطبيق مهاراتهم في اوطانهم لأصبحوا جزءًا من الحل: بأن يكونوا عامل سلام من خلال التنمية".
&
وأكد الشيخ محمد أن هذا الواقع يستدعي التوقف عند الأسباب الكامنة وراء نجاح بعض البلدان النامية في قلب هجرة عقولها الى الغرب لتكون هجرة بالاتجاه المعاكس أو "استعادة العقول"، كما يسميها الشيخ محمد.
ويشدد الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم على أن الفرصة هي العامل الأساسي. فالكفاءات "تتدفق بصورة طبيعية الى بلدان تشيع بيئة للنمو الاقتصادي وتجعل الحياة سهلة على المشروع الاقتصادي وتستدرج الاستثمار وتحتضنه وتنمِّي ثقافة الانجاز".
ويعتبر الشيخ محمد أن الفرصة على هذا الصعيد "أخذت تصبح سلعة نادرة في العديد من دول الغرب على النقيض من العالم النامي أو، على الأقل، بين بلدانه التي لديها الرغبة والإرادة لممارسة ادارة قوية في الحكم وتعمل باستمرار على رفع وتيرة المنافسة".
&
توفير حياة أفضل للمواطنين
والعامل الثاني الذي يتناوله الشيخ محمد في معالجته لهجرة العقول هو نوعية الحياة التي يقول إنها تتسم بأهمية بالغة، لافتًا في هذا الشأن الى أنه "قبل جيل كان العديد من ذوي الكفاءات يرون في العمل خارج الدول الغربية نفيًا أو عقوبة، في حين أن مستوى المعيشة في الامارات العربية مثلاً هو من أعلى المستويات في العالم". وقال الشيخ محمد إن الامارات العربية أظهرت "أن مهمة قلب هجرة العقول بالاتجاه المعاكس تتعلق ايضًا بتوفير حياة أفضل للمواطنين والمقيمين. فإن بناء السعادة هو المهمة الأساسية لإدارة الحكم الصالحة في كل مكان".
&
وتابع الشيخ محمد "ان قصتنا هي قصة امل كبير للشرق الأوسط بصفة خاصة، حيث تسببت اجيال من النزاع واليأس في حدوث مستويات مرتفعة من الهجرة"، مؤكدًا "أن افضل الحلول للانقسامات والنزاعات في العالم العربي، الى جانب ادارة الحكم الصالحة، تكمن في التنمية على مستوى القاعدة وتوفير الفرص الاقتصادية".
&
وأظهرت الامارات "أن بالامكان قلب القوى التي استدرجت خيرة كفاءاتنا الشابة"، كما يقول الشيخ محمد، مضيفًا "إن مصدر الأمل الآخر أن هذا الاتجاه يمكن أن يحدث بسرعة كبيرة. فالدراسات تبين أن البلدان الصغيرة تعاني بصفة خاصة من هجرة العقول، ولكن الامارات أظهرت أنه حتى بلد صغير مثلها وفي منطقة تمزقها النزاعات يكون من المجدي بناء جزيرة من الفرص"، على حد تعبير الشيخ محمد.
&
قلب حلقة خبيثة إلى أخرى حميدة
ويوضح نائب رئيس دولة الامارات ورئيس مجلس الوزراء في الختام "أن قلب هجرة العقول الى هجرة معاكسة أكثر من مجرد سد ثغرة تتسرب منها هذه العقول، فهو يعني قلب حلقة خبيثة الى حلقة حميدة". وباجتذاب خيرة الكفاءات من انحاء العالم "نستطيع أن نبني مجتمعاً حيويًا ومتنوعاً يدفع عجلة التجديد والازدهار، وهذا بدوره يجتذب مزيداً من الكفاءات"، كما يلاحظ الشيخ محمد قائلاً إن من شروط النجاح في هذا المسعى "الايمان بالشعب. فالبشر ، افكارهم ، ابداعاتهم ، احلامهم وارتباطاتهم، هم رأس مال المستقبل. وبهذا المعنى، فإن "استعادة العقول" ليست انجازاً بحد ذاتها بقدر ما هي مؤشر رئيسي الى التنمية لأنه حيثما تذهب العقول العظيمة ستحدث اشياء عظيمة في الغد"، كما يقول الشيخ محمد الذي ظل محفورًا في ذاكرته منذ دراسته العسكرية في بريطانيا عام 1968 لقاء جمعه مع طبيب يتحدث العربية بطلاقة. وحين سأله الشيخ محمد إن كان يعتزم البقاء في المهجر أو العودة الى وطنه أجابه الطبيب إن الوطن حيث يجد لقمة العيش.