لا يختلف اثنان أن مصر هي المثال الأبرز على عودة الجنرالات مع وصول الرئيس عبدالفتاح السيسي إلى سدة الحكم. ورغم أنّ ليبيا تختلف عن مصر، أسفر "تمصير" النزاع فيها عن صعود جنرال آخر هو اللواء السابق في الجيش الليبي خليفة حفتر.


إعداد عبد الاله مجيد: استبشر العرب بانتفاضات الربيع العربي منذ ثلاث سنوات على أمل أن تطوي صفحة الدكتاتورية في بلدانهم وتدشن حقبة جديدة من الحريات والديمقراطية.

وتوالت الاستطلاعات التي تبين أن أعداد المصريين والأردنيين والمغاربة الذين يعتقدون أن الديمقراطية هي أفضل أشكال الحكم تزيد على أعداد الأميركيين أو البولنديين مثلا الذين يعتقدون ذلك. ولكن الديمقراطية مجردةً يمكن أن تعني أي شيء طالما أنها فكرة ايجابية. فالايمان بالديمقراطية شيء وممارستها شيء آخر تماما.

تجربة مصر

في مصر كانت خيبة الأمل بالديمقراطية لافتة على نحو خاص بعد تجربة المصريين مع الإخوان المسلمين بل إنهم فقدوا الثقة بجدوى السياسة نفسها. ومن هنا كان التأييد الواسع لعزل الرئيس الإخواني محمد مرسي في 3 تموز (يوليو) 2013.

وكان حكام المنطقة الدكتاتوريون سواء في تونس أو سوريا أو اليمن شغوفين قبل انتفاضات شعوبهم عليهم بتذكير الغرب بأنهم حماة السلام وضامنو الاستقرار رغم ممارساتهم القمعية الدموية. واعلن الرئيس المصري المخلوع حسني مبارك قبل عشرة أيام على خلعه أن أحداث الأيام القليلة الماضية تتطلب من المصريين شعبا وقيادة "ان يختاروا بين الفوضى والاستقرار".

وحاول الحكام الدكتاتوريون تبرير هذه المقايضة بدعوى عدم نضوج الشعب وانقسامه إلى مذاهب وايديولوجيات وطوائف وقبائل. وجاءت انتفاضات الربيع العربي لترفع الغطاء عن هذه الاحتقانات والنزاعات الداخلية التي كانت تغلي تحت السطح وكان الحكام يوظفونها لمصلحة بقائهم في السلطة.

قضايا الهوية

صحيح أن تحسين الأوضاع الاقتصادية بمكافحة البطالة وتوفير فرص العمل ومحاربة الفساد وتوفير الحد الأدنى من العيش الكريم كانت في مقدمة مطالب المحتجين في تونس ومصر ولكن مراقبين يشيرون إلى أن قضايا الهوية سرعان ما تقدمت الواجهة.

ولم يعد لدى الأحزاب والحركات الفاعلة، إسلامية أو ليبرالية، ما تقوله عن الاقتصاد سوى البديهيات. فلا احد يختلف على مكافحة البطالة والفقر. وتصدرت الخلافات بشأن الاسلام ودوره السجال بين المثقفين العلمانيين من جهة والنخبة الاسلامية الصاعدة من الجهة الأخرى.

وامتد السجال إلى أسس المجتمع والدولة. وتبدى الخلاف بأسطع اشكاله في السجال حول معنى الدولة القومية الحديثة ووظائفها ثم حول دور الدين في الحياة السياسية.

ودفعت حدة النقاش في مصر عددا متزايدا ممن يسمون أنفسهم ليبراليين وديمقراطيين إلى الرهان على الجيش وخاصة على ضابط كاريزمي اسمه عبد الفتاح السيسي لانقاذ الدولة المصرية وحماية طابعها المدني. ولم يتردد السيسي في قبول المهمة. ونزل آلاف المصريين إلى الشوارع لرد الجميل. ولاحظ محللون ما وصفوه بالحنين إلى القائد الأب.

الخبرة الملموسة أقوى من التنظير الديمقراطي

كان عام من حكم الاخوان المسلمين في مصر كفيلا بدفع كل ما يتذكره المصريون من مرارات ارتبطت بحكم العسكر إلى الظل، من حركة الضباط الاحرار في 1952 إلى فترة المجلس الأعلى للقوات المسلحة بعد اسقاط مبارك.

وتوجه ليبراليون ويساريون بل صانعو ثورة 25 يناير بأنظارهم إلى الجيش لتصحيح الخلل الذي حدث في العملية السياسية واطلاق بداية جديدة. فهم كانوا يتابعون بخوف وقلق تسلل الاخوان المسلمين إلى مفاصل الدولة المصرية من القضاء والاعلام إلى جهازها الاداري الضخم، تمهيدا لاعادة بناء المجتمع المصري على صورتهم بالاكراه. وإزاء مثل هذا المصير الذي كان شبحه يطارد مصر بدا خطر الانكفاء إلى حقبة الانقلابات العسكرية كلاما لا معنى له.

كانت مصر المثال الأسطع على عودة الجنرالات التي تكللت بصعود عبد الفتاح السيسي إلى الرئاسة. ولكن خيبة الأمل بالديمقراطية التي فتحت الباب للاسلاميين امتدت إلى خارج مصر. وسواء في ليبيا او سوريا، في مصر أو تونس فان سقوط الدكتاتور كان يعني اضعاف الدولة ونشوء فراغ كبير في السلطة سارعت إلى استغلاله جماعات اسلامية متطرفة، مثل انصار الشريعة في ليبيا.

في هذه الأثناء لاقى المؤتمر الوطني العام الليبي، المنتخب ديمقراطيا، صعوبة في فرض سلطته وهيبته وسط ميليشيات مدججة بالسلاح، كانت بين حين وآخر تطوق مبنى المؤتمر للتأثير على اصوات الأعضاء بما يخدم مصالحها.

تمصير ليبيا

كانت ليبيا تختلف عن مصر، على ما يُفترض. وبدا من المستبعد ان يتمكن الاخوان المسلمون من تكرار وصولهم إلى السلطة في مصر ونسخ ما حققته الاحزاب الاسلامية من صعود في عموم المنطقة. إذ لم تكن في ليبيا نخبة علمانية كما في مصر أو تونس وحتى احزاب "علمانية" مثل تحالف القوى الوطنية بقيادة محمود جبريل كانت أكثر ارتياحا إلى الكلام بلغة الدين والشريعة الاسلامية منها بلغة العلمانية والليبرالية.
ومع تعاظم سطوة الاخوان المسلمين الليبيين بقوة التنظيم التي تفتقر اليها الأحزاب والأطراف الأخرى ازدادت ايضا مخاوف الليبيين من سيطرة الاسلاميين على الدولة.
&
واسفر "تمصير" النزاع الليبي، على حد تعبير الباحث في معهد بروكنز شادي حميد، عن صعود جنرال آخر هو اللواء السابق في الجيش الليبي خليفة حفتر. وقدم حفتر نفسه باسم ما سماه "المجلس الأعلى للقوات المسلحة" مستعيرا التسمية المصرية للهيئة العسكرية التي اخذت مقاليد السلطة بيدها بعد سقوط مبارك.

وفي صفحة أخرى مستعارة من الكتاب المصري ظهر حفتر على التلفزيون في شباط (فبراير) لاعلان "خارطة طريق" هدفها انقاذ ليبيا من الميليشيات الاسلامية والسياسين الاسلاميين. وفي ايار (مايو) هاجمت قوات حفتر مبنى المؤتمر الوطني العام.

واعتبر محللون ان حفتر هو الوجه الجديد لحقبة ما بعد الربيع العربي وصوتها، مثل السيسي من قبله المنقذ الذي ينبئ عهده بعودة الاستقرار والأمن بعد العملية الديمقراطية وما يقترن بها من اضطراب وتعطيل للحياة الاقتصادية. ومن هذه الناحية كانت مصر مصدر الهام لجاراتها ولكن ليس على النحو المنشود بالضرورة.

إنقسام ذو أبعاد اقليمة متزايدة

كان الانقسام بين معسكر الاسلاميين ومعسكر العلمانيين حقيقيا قبل انتفاضات الربيع العربي ولكنه كان انقساما ذا طابع محلي. وكان دور الاحزاب الاسلامية متفاوتا في بلدان المغرب العربي.

ولكن صعود الاخوان المسلمين وسقوطهم في مصر اضفى على هذا الانقسام بعدا اقليميا يعكس معركة تُخاض بالوكالة مع وقوف قطر وتركيا المنعزلتين بصورة متزايدة إلى جانب الاسلاميين فيها، كما يلاحظ الباحث شادي حميد في مجلة شبيغل مشيرًا إلى ان حركة النهضة الاسلامية في تونس كانت حريصة على تمييز نفسها والنأي بها عن نظيرتها جماعة الاخوان المسلمين في مصر التي كانت تسيء إلى سمعة الاسلاميين، بنظر قيادة النهضة.

ولكن غضب الاسلاميين في تونس أصبح ملموسا بعد عزل مرسي وتعاطفوا بالطبع مع نظرائهم وخاصة بعد سقوط ضحايا خلال فض اعتصامات الاخوان المسلمين في رابعة العدوية وميدان النهضة. ولكن الاسلاميين التونسيين خافوا ايضا من تكرار السيناريو المصري في بلدهم مع تهديد المعارضة العلمانية بمزيد من الاحتجاجات الجماهيرية إذا أصرت حركة النهضة على البقاء في الحكم.

واليوم التحمت فروع جماعة الاخوان المسلمين وتضافرت مع حلفائها على نحو لم يُعرف له نظير منذ عقود. وشهدت الدوحة واسطنبول وعواصم أخرى اجتماعات ومؤتمرات عديدة لبحث الاستراتيجية والتكتيك ودروس المرحلة وبصورة أعم الخطوة التالية لانقاذ مشروعها "الاسلامي" المتراجع.

واخذت حركات اسلامية تستخدم العنف بأشكال مختلفة من الزجاجات الحارقة واضرام النار في سيارات الشرطة إلى استهداف افراد الأمن. وفي سوريا وليبيا اصبح العنف نفسه شكلا من اشكال السياسة، وتحالفت تنظيمات الاخوان المسلمين في هذين البلدين مع جماعات مسلحة أو بادرت إلى تشكيل ميليشياتها.

وهناك الآن احساس بالتضامن بين الاخوان المسلمين وخوضهم نضالا مشتركا في بيئة اقليمة ودولية معادية. وكانت فروع الاخوان المسلمين واجهت تهديدات وجودية من قبل ولكن هذه هي المرة الأولى التي امتد فيها الخطر اليها بالجملة في وقت واحد.

ويرى محللون ان هذا التحدي هو من تداعيات الربيع العربي. فالاسلاميون في عموم المنطقة بعدما انكشف ضعفهم أمام اغراء الظهور والسلطة أخذوا يراجعون أنفسهم من جديد وخاصة استراتيجيتهم على المدى البعيد.

وما هذا بجديد على الاخوان المسلمين. إذ ينقل الباحث شادي حميد عن حمدي حسن رئيس كتلة الاخوان المسلمين النيابية سابقا قوله "في عمر البشرية 80 عاما ليست طويلة بل كأنها ثماني ثوان"، في اشارة إلى عمر جماعة الاخوان المسلمين منذ ظهورها على الساحة.