تتقاطر الجثث إلى مشرحة بغداد، وفيها تتكشف الحقائق وتنفضح الأسرار المخفية، بعد تشريح الجثث ومعرفة أسباب موت العراقيين اليوم.


إعداد عبدالاله مجيد: العراق بلد مسكون بالموت، حيث غالبية القتلة لا يقعون ابدًا في قبضة العدالة. فتنظيم الدولة الاسلامية يحصد الأرواح بمنأى من العقاب في المناطق التي يسيطر عليها. وخارج هذه المنطقة تعاني قوات الشرطة من الفساد المتفشي بين افرادها وضعف امكاناتها، حتى انها تعجز عن حل أي قضية جنائية وتكتفي بتسجيل الجريمة ضد مجهول.

المشرحة شاهدة

لكن مشرحة بغداد من الاماكن القليلة التي تقدم اجابات. وتقول الدكتورة ايمان (36 عامًا): "نحن نرى الجانب المظلم من المجتمع، واعتقد اننا نرى الحقيقة وليس فقط ما نراه على التلفزيون أو نقرأه في الجريدة". ويشهد العراق الآن موجة من أعمال العنف تتبدى بأبشع صورها في تقرير الأمم المتحدة، الذي قال إن 1265 مدنيًا قُتلوا في آب (اغسطس) وحده، بالمقارنة مع 716 مدنيًا في الشهر نفسه من العام 2013.

ويحاول العاملون في المشرحة، بمعاطفهم الزرقاء وقفازاتهم الطبية، تطبيق العلم في عالم العراق الذي لا يعرف سوى الفوضى. وهم يعرفون جوانب من حياة العنف لا يعرفها الآخرون، إذ يعرف العاملون في المشرحة أن الموت يلاحق العراقي ليس بتفجير السيارات المفخخة أو رصاص الميليشيات فحسب، بل ولعل السبب الرئيس لموت العراقي هو تسليم مقدراته بيد دولة منهارة.

وعلى سبيل المثال، إن عددًا مذهلًا من العراقيين يموتون متكهربين بسبب حوادث المولدات، لأن الدولة بعد 11 عاما على الغزو الاميركي وتغيير النظام ما زالت عاجزة عن توفير خدمة أساسية للمواطن مثل الكهرباء.

ويعرف العاملون في المشرحة ايضًا أن حالات الانتحار تصاعدت هذا العام، خاصة بين الشابات العراقيات اللواتي يتناولن سم الجرذان أو يضرمن النار في أنفسهن بسبب الكآبة وظروف القمع بين جدران البيت، وانعدام الحياة الاجتماعية والأمن خارج البيت.

فوضى عارمة

ولا يستطيع أطباء المشرحة أن يعوضوا عن واجبات الشرطة غير الكفوءة أو الدولة المنخورة بالفساد، أو أن يحدوا من مجازر تنظيم الدولة الاسلامية (داعش)، لكنهم يستطيعون على الأقل أن يتوصلوا إلى نتائج تعبر عن حقيقة هذا الوضع الكارثي. فمعرفة أسباب الموت الحقيقية تكشف عن جوانب مستورة من حياة العراقيين، وليس الأسباب المعهودة لموتهم.

يُفترض أن تكون مشرحة بغداد العصب المركزي لمعرفة السبب وراء غالبية الوفيات في العراق، وفيها تجري عمليات التشريح بعد الوفاة والاختبارات التي تستخدم تقنيات علم السموم.

وتضم ثلاجات المشرحة عادة ما بين 70 و80 جثة في حين انها صممت لـ 16 جثة فقط، كما قال زيد علي يوسف، مدير المشرحة، لصحيفة واشنطن بوست. لكن وزارة الصحة العراقية تعمل على خطة لتوسيع طاقة المشرحة الاستيعابية، فهي على ما يبدو تتوقع زيادة في ما تستقبله المشرحة في المستقبل.&

وذات يوم في الفترة الأخيرة، كانت 12 جثة ممدة في ممر المشرحة بعد اخراجها من ثلاجاتها، فيما كان موظفو المشرحة يبحثون عن جثة معينة. وقالت الدكتورة آسيا لصحيفة واشنطن بوست: "هناك دائمًا مشاكل في العثور على الجثث، والموظفون يبحثون في هذه الحالة منذ ثلاث ساعات".&
&
محفوف بالمخاطر

تتبع المشرحة لدائرة الطب الشرعي في وزارة الصحة، وترسل نتائج التشريح إلى اقسام الشرطة، حيث في الغالب تُحفظ في ملفات يعلوها الغبار بمرور الزمن دون متابعة.

ويمكن أن يكون العمل في المشرحة مهنة محفوفة بالمخاطر في العراق، حيث كثيرون لا يريدون أن تُكشف الحقائق. ومن هنا كان الاكتفاء بالاسماء الأولى في هذا التقرير. وقالت الدكتورة آسيا": "بعض الأطباء يتجنب رؤية اقارب الضحية وان اسماءنا لا تُذكر في تقارير التشريح".

ولكن اطباء المشرحة يقولون إن عملهم يكشف عن جانب من الحقيقة في بيئة من الصعب معرفة الحقيقة كاملة فيها. وهذه الخدمة تساعدهم في تحمل برك الدم وتعابير الرعب والألم المرتسمة على وجوه ضحايا التعذيب ورائحة الموت التي ترافقهم إلى البيت عالقة بملابسهم وشعورهم حتى أن المارة في الشوارع يلاحظونها.

وقالت الدكتور لينا انه عمل لا بد منه، لكنها لم تعد تطيق أكل اللحوم الحمراء. وتتذكر الدكتورة آسيا كلمات والداها القاضي بأن الطبيب الشرعي هو من يقول الحقيقة باسم الميت لأن الموتى لا ينطقون.&
&
بيت الأسرار

في الأيام الاعتيادية، تستقبل المشرحة نحو 30 جثة، وكل عملية تشريح لمعرفة اسباب الوفاة تستغرق نحو ساعتين.

وذات صباح، قالت الدكتور آسيا انه يوم هادئ لم تتسلم المشرحة فيه إلا 10 جثث حتى الآن. ثم بث جهاز التلفزيون الصغير الموضوع فوق خزانة الملفات نبأ انفجار سيارتين مفخختين في منطقة البياع. وقال الأطباء إن جثث الضحايا ستبدأ بالوصول مساء على الأرجح.

وفي الظهيرة، وصلت جثة طفل عمره سنتان.& ثم تسلمت الدكتورة آسيا ملفًا جديدًا، وقيل لها انه ملف الجثة الموجودة في غرفة التشريح.

انه رجل في الخامسة والخمسين نُقلت جثته من مدينة الناصرية في جنوب العراق. ولم تكن هناك معلومات تُذكر عنه. وقالت الدكتور آسيا إن الأطباء يتحدثون مع ذوي القتيل عادة في محاولة لمعرفة القصة، لكن في هذه الحالة ليس للقتيل أهل يتحدثون معهم.

وعرفت الدكتورة السبب خلال تصفح الملف. وقالت: "آه، انه كان سجينًا ومات في السجن". وعلى اطباء مشرحة بغداد أن يعرفوا سبب وفاته، مع ما قد صاحب الاكتشاف من أسرار سوداء.