حلل فريق دولي من علماء اللغات بيانات 3750 لغة عالمية ومحلية للكشف عن تأثير المناخ على تطورها، فتوصلوا إلى أن اللغات الموسيقية متعددة النغمات نشأت وتطورت في مناخ رطب، في حين نشأت اللغات ذات النغمة الواحدة في مناخ جاف.


ماجد الخطيب: يمكن للروبوت اليوم أن يتحدث الانجليزية بشكل مفهوم للانجليز، لكنه لايصبح مفهومًا حينما يتحدث مع الصينيين، لأن الصينية لغة نغمية لم يتأقلم روبوت معها بعد.

وربما يعود الفرق بين اللغتين إلى عوامل الطقس، بحسب أبحاث فريق دولي من علماء اللغات وعلم الإنسان، بمشاركة علماء من معهد ماكس بلانك الألماني المعروف.

طيات صوتية

للمفارقة، لفظ كلمة "ما" بالصينية بنبرة عادية يعني الأم، في حين أن نطق الميم بنغمة نازلة والألف بنغمة صاعدة يجعلها تعني كلمة "حصان"، في حين يجري التحدث باللغتين الانجليزية والألمانية بوتيرة واحدة الأمر الذي يجنبها حصول مثل سوء الفهم هذا.

وأثار المقال المنشور على صفحات مجلة(Proceedings of the National Academy of Sciences) جدلًا واسعًا في الصحف الألمانية عن دور الطقس في نشوء وتطور الإنسان.

ولا يستبعد معدو الدراسة أن تكون للأمر علاقة بالفم والشفتين، إضافة إلى أن اللغات المتعددة النغمات والنبرات التي تنطلق عن "الطيات الصوتية" في الحنجرة بحاجة إلى محيط رطب كي يمكن التفوه بها واتقانها.

ومواصلة الحديث بمثل هذه النغمات المتعددة من قبل البشر ستصيب أية حنجرة بالبحة، وربما بمشاكل أخرى، لولا رطوبة الطقس التي تعين على تزييت هذه الطيات الصوتية. فالرطوبة تحافظ على مطاطية وحيوية الحبال الصوتية، وتعين الإنسان في اختيار علو وعمق النغمة المطلوبة عند التحدث. وثبت علميًا أن الحبال الصوتية ترن أفضل في جو رطب منها في جو جاف.

تباين موسيقي

لاحظ البروفيسور شون ج. روبرتس، من معهد ماكس بلانك لعلوم سيكولوجيا اللغات في نيمجن الهولندية، أن تطور اللغات والبشر فرض على سكان المناطق الجافة، والأقل رطوبة من غيرها، الحديث بلغات ذات نبرة واحدة تجنبًا لحدوث التباسات في الفهم، لأن الحنجرة الرطبة فقط قادرة على تنغيم الكلمات والحروف بنغمات متعددة.

أضاف: "لو ساد جو عالي الرطوبة في ألمانيا منذ البداية، أي جو شبيه بأجواء المناطق شبه الاستوائية، لكان الألماني اليوم يتحدث بلغة متعددة النغمات، وليس اللغة المونوتونية الحالية. والنغمات العالية والواطئة وتبايناتها تصنع الموسيقى، وهو ما يجعل اللغات مختلفة بين لغات موسيقية وأخرى نمطية".

وذكر الباحث داميان بلازي، المشارك في الدراسة من معهد ماكس بلانك للرياضيات والعلوم الطبيعية، أنهم استخدموا بنك معلومات كامل من اللغات في تحليل علاقة هذه اللغات بالجو، وواجهتهم العديد من الصعوبات بسبب توارث اللغات بين الشعوب وتأثرهم ببعض لغويًا، ناهيكم عن هجرة بعض الشعوب.

خريطة اللغات النغمية

وضع الباحثون خريطة لغوية تظهر العلاقة بين المناخ واللغات على المستوى العالمي، يتبين منها انتشار اللغات المتعددة النغمات في جنوب شرق آسيا والصين ووسط أفريقيا، والمناطق الاستوائية وشبه الاستوائي، كما تبين الخريطة انتشار اللغات ذات النغمة الواحدة في وسط أوربا والمناطق الأخرى الأقل رطوبة، والجافة.

ورسم العلماء هذه المناطق باللون الأحمر، ويعتقدون أن وجود بعض مناطق اللون الأحمر القليلة إلى الشمال من خط الاستواء (القارة الاميركية)، ومناطق صغيرة أخرى في روسيا، يشير بالتأكيد إلى هجرة بعض هذه الأقوام التي نقلت ارثها اللغوي معها من المناطق الاستوائية وشبه الاستوائية.

ويعتقد العلماء أن الجو الرطب لم يفرض نوع اللغة فحسب، وإنما ترك تأثيره واضحًا على طرق التفاهم وتبادل المعلومات الأخرى بين بشر المنطقة الرطبة. وسبق لدراسة أخرى أن لاحظت اختلافًا بين لغات سكان الناطق الجبلية، من ناحية كثرة الحروف الصامتة والتكلم من الحنجرة، عن سكان المناطق المنبسطة.

المناخ وانقراض اللغات

هذا يعني أيضًا أن التغيّرات المناخية الدراماتيكية الجارية على الأرض، في حالة استمرارها، ستؤثر على المستقبل البعيد هذه اللغات أيضًا. فهناك آلاف اللغات المختلفة على الأرض اليوم، لكن العلماء يتوقعون انقراض الكثير منها في وقت قريب لا يتجاوز 100 سنة.

وربما ستلعب الرطوبة دورها مستقبلًا في تقريب أو ابعاد شبح الانقراض عن هذه اللغة أو تلك، إذ يتوقع العلماء اللغويون اختفاء أكثر من 90٪ من لغات العالم خلال قرن واحد.

وهناك اليوم في العالم حاليًا أكثر من6000 لغة مستخدمة، إلا أن أقل من 600 لغة فقط مرشحة للبقاء والصمود والتداول بحلول العام 2115، أي بعد قرن من الآن. وربما يعجز التطور التكنولوجي، ورواج أدوات الترجمة المتقدمة عن الحفاظ على اللغات المتداولة اليوم في العالم.

وتنبأ عالم اللغة الدكتور جون ماك ورتر، الفيلسوف والاستاذ في جامعة كولومبيا ، في جريدة "وول ستريت جورنال" الأميركية قبل فترة، بتلاشي أكثر من 90٪ من اللغات في العالم، وبقاء نحو 600 لغة فقط موجودة في ذلك التاريخ.

خمس لغات

تسود في عالم اليوم خمس لغات هي الأكثر انتشارًا واستخدامًا، أولها المندرين، وهي المستخدمة في الصين بشكل أساسي، تليها الانكليزية، ثم الاسبانية التي تتحدث بها غالبية دول وشعوب أميركا اللاتينية.

أما الرابعة فهي الهندية التي تندرج في إطارها اللغة الأردية، وهي اللغة التي يتحدثها سكان شبه القارة الهندية ذات الكثافة السكانية العالية، ثم تحل العربية في المركز الخامس عالميًا.

ويؤكد خبراء علم اللغات أن الإنسان من الممكن أن ينسى اللغة إذا توقف عن استخدامها، وان كان قد تعلمها جيدًا لفترة طويلة، بل قد ينسى لغته نفسها إذا توقف عن ممارستها لمدة 30 عامًا. ومن يتوقف عن سماع أو تحدث لغة معينة، فإنه من الممكن أن ينساها حتى لو كان يسمعها ويتحدثها كثيرا وهو طفل.

ويرتبط مستقبل وتطور اللغة بشعوبها، ويمكن أن تضمحل إذا قل عدد الأشخاص الذين يتحدثون بها. وغالبًا ما نسمع عن الانقراض عندما نتحدث عن أنواع من الحيوانات والنباتات، لكن اللغات تنقرض أيضًا عندما يأتي يوم ولا يتحدث بها أحد في العالم.

ومن اللغات المنقرضة في عالمنا، اللغة الهيروغليفية التي كان يتحدث بها المصريون القدماء، واللغة اللاتينية التي كان يتحدث بها الناس في أوروبا قبل 3- 4 قرون.