يبدو أن الرئيس العراقي الراحل صدام حسين كان يحاول في عام 1990 البحث عن مخرج من الكويت "يحفظ ماء وجهه"، لذلك حاول توسيط رئيس إحدى الشركات الألمانية الكبرى العاملة في العراق. رئيس شركة "شتراباغ" يتحدث&للمرة الاولى&عن دوره كوسيط بين الطرفين.


ماجد الخطيب: كان الهم الأساسي لبيتر يونغن تخليص ما تبقى من مهندسي شركة "شتراباغ" للبناء من الحصار المفروض عليهم كرهائن في عراق ما بعد احتلال الكويت، لكنه تفاجأ بدعوة الرئيس العراقي السابق للقاء معه يوم 25 تشرين الثاني (نوفمبر) 1990.

ونشرت صحيفة "دي فيلت" واسعة الإنتشار أسرار هذا اللقاء مع عرض صورة، للمرة الاولى، تضم صدام حسين ويونغن ومترجم صدام حسين، مأخوذة من أرشيف رئيس الشركة التي نفذت مشاريع كبيرة في العراق وإيران.

اللقاء المهم

بحسب أقوال يونغن، كان يحاول مغادرة مطار بغداد على متن الطائرة المتجهة إلى كولون، حيث مقر الشركة، حين توجه إليه سياسي عراقي رفيع المستوى وسأله إذا كان يملك بعض الوقت من أجل "حديث مهم". وفعلًا، تخلى يونغن عن طائرته وفضل اللقاء مع المسؤول المهم رغم خطر انعدام فرصة أخرى لمغادرة العراق بسبب أجواء الحرب المخيمة.

قرر يونغن الاستجابة للدعوة، بغض النظر عن شخصية طالب اللقاء، لأنه قام برحلات مكوكية بلا نهاية بين بغداد وعمان وبون سعيًا وراء وسيط يخلص 70 مهندسًا ألمانيًا وغربيًا، وضعف هذا العدد من أفراد عوائلهم، ومعهم عشرات العمال الهنود والباكستانيين والفليبينيين الذين كانوا ينفذون أعمال الشركة في العراق، واستخدمهم صدام حسين في محطات استخراج وتكرير النفط دروعًا بشرية ضد حرب تحرير الكويت المسماة "عاصفة الصحراء". نجحت مساعيه وسافر معظم "الأسرى" على متن الطائرة التي فاتته بسبب هذا اللقاء مع الشخصية المهمة.

وفضلًا عن مشروع بناء مطار البصرة الدولي (وقيمته مليار دولار) الذي لم يكن اكتمل بعد، نفذت "شتراباغ" بناء الطريق السريع بين البصرة والموصل بمبلغ مماثل.

تكبدت "شتراباغ" خسائر تقدر بملايين الماركات آنذاك بسبب تعثر تنفيذ المشاريع في العراق نتيجة للحرب العراقية الايرانية. ولاستعادة ما تبقى من أتعاب الشركة، اضطر يونغن إلى زيارة العراق 40 مرة خلال ثلاث سنوات تلت ترؤسه الشركة عام1987.

مقترحات مقبولة

صادف يوم 25 تشرين الثاني (نوفمبر) يوم أحد. في ذلك اليوم استقل يونغن السيارة السوداء في الطريق من مطار بغداد للقاء الشخصية "المهمة".

لم تتجه السيارة إلى المنطقة الصناعية، ولا إلى وزارة الخارجية. يقول رئيس شتاباغ انه عرف حينها شخصية الرجل الذي طلب مقابلته. وقفت السيارة في مرآب قصر حيث تم استبدال السيارات، ثم جرى تغيير السيارات مرة أخرى، وحينها فقط تعرف يونغن على مرافقه الذي كان مترجم صدام حسين الشخصي.

وصلت السيارة الأخيرة بعد ذلك إلى قصر انفتحت أبوابه، وجرى استقباله في قاعة كان صدام حسين يجلس فيها. جلس يونغن في الركن الأيمن من كنبة جلدية عريضة، يفصله متران عن الركن الأيسر حيث جلس الدكتاتور. وبعد تبادل التحيات والتقديم تحدث صدام حسين عن حق العراق المشروع في الكويت، ففضل يونغن دور المستمع.

استجمع يونغن شجاعته بعد ذلك، وتحدث عن خطأ اعتقال الغربيين كرهائن في العراق، كما تحدث عن الأسباب التي تدعو الولايات المتحدة وبريطانيا إلى رفض الحوار. ويبدو، بحسب أقوال يونغن، أن ذلك كان بالضبط ما كان صدام حسين ينتظره، فتحدث عن دور وسيط ألماني يفتح له قنوات الحوار مع واشنطن. يقول يونغن إنه يعرف الشرق الأوسط ويعرف كيف يتعامل مع الناس هناك، لذلك اكتفى بأن وعد صدام بقناعته بالأمر وبأنه سيفعل ما يقدر عليه مع الحكومة الألمانية.

دار الحوار ساعتين، وكانت عبارة "كل مقترحات كول مقبولة" الجملة المركزية التي تكررت أثناء ذلك، وفهم منها المهندس الألماني انها "الرسالة الأساس" التي يريد صدام حسين منه نقلها إلى الحكومة الألمانية.

والظاهر ان صدام حسين كان على معرفة بجهود يونغن لتحرير الرهائن والتي استدعت منه الاتصال يوميًا بـ"غرفة العمليات" التي شكلتها وزارة الخارجية بهدف تخليص الرهائن الألمان، كذلك اتصالاته الشخصية المستمرة مع هورست تيلتشيك، مستشار هيلموت كول في شؤون الشرق الأوسط.

لك فقط!

كان صدام حسين من اللطف، أو ربما من الخبث، بحيث سأل يونغن في نهاية اللقاء إذا كان يستطيع أن يفعل شيئًا شخصيًا له.

وكتب يونغن انه توقف لثوانٍ عن الإجابة لمعرفته بأن كل شيء قد ينقلب رأسًا على عقب؛ إذ تبقى فقط 4 مهندسين انجليز من مهندسي الشركة لم يطلق سراحهم، وكان يونغن يتساءل مع نفسه إذا كانت الفرصة مؤاتية للمطالبة بإطلاق سراحهم. لكن الرئيس العراقي سبق افكاره قائلًا: "لك فقط، وليس لمرغريت ثاتشر".

ويقول يونغن ان سؤال صدام له "إذا كان يستطيع ان يفعل شيئًا له شخصيًا" كانت منقبة غير معروفة عن الرئيس العراقي، ويمكن اعتبارها بادرة لطف غير مسبوقة في حياة صدام. ورغم ان يونغن لم يطلب اطلاق سراح الأربعة إلا ان صدام أطلق سراح ثلاثة منهم، بينما كان رئيس الشركة الألمانية ببغداد، ربما كبادرة حسن نية. وكان يمكن للثلاثة التوجه مع يونغن إلى عمان بعد أيام، إلا أنه طلب منهم انتظار المهندس الرابع، وفعلًا اطلق سراح الرابع بعد يومين، ونجح الأربعة في العودة إلى بلدهم الأربعاء.

جيمس بيكر حسم الوساطة

يعرف يونغن ان المستشار الأسبق هيلموت كول لم يكن متحمسًا تمامًا للحرب، ولا لمشاركة قوات برية فيها، ولا إلى تحمل عواقب الحرب في الشرق الاوسط. لذلك فكر فعلًا في الوساطة. ويضيف انه عمل ما عليه، وأخذ سيارة أجرة مباشرة من مطار كولون-بون إلى دائرة المستشار في العاصمة السابقة بون حال وصوله ألمانيا، ونقل كافة وقائع اللقاء وطلب صدام حسين إلى المسؤولين.
لم يتحدث يونغن عن موقف الموظفين في الدائرة، ولا عن المسؤولين الألمان الذين التقى بهم، لكنه يشير فقط إلى أن وزير الخارجية الاميركي جيمس بيكر حسم قضية الوساطة حينما أعلن ان لا مجال للحوار، وان على صدام حسين الانسحاب من الكويت من دون شروط.

زار رئيس شركة شتراباغ بغداد (عبر عمان) للمرة الأخيرة قبل الحرب في كانون الأول (ديسمبر) 1990 في محاولة أخيرة لتحرير 260 عاملاً آسيويًا كانوا يعملون في مشاريع الشركة في العراق، ونجح في ذلك.

ويقول يونغن الآن ان مساعيه تكللت بانقاذ اكثر من 900 غربي واجنبي من التحول إلى دروع بشرية عند انطلاق الحرب يوم 17 كانون الثاني (يناير) 1991. ولم يتحدث يونغن عن اللقاء مع صدام وعن " كل مقترحات كول المقبولة" إلا الآن، بعد مرور 25 سنة.