تحاول السلطات الفرنسية مواءمة قراراتها الموجهة نحو المسلمين مع نظامها العلماني، من خلال التأسيس لحركة إصلاحية في بنية المؤسسة التي تعنى بشؤون المسلمين في فرنسا، خصوصًا بعد ظهور ميل نحو التطرّف في بعض الجالية المسلمة في البلاد.


باريس: كشف وزير الداخلية الفرنسي برنار كازينوف عن مشروع حكومي يهدف إلى إصلاح كامل للهيئات الممثلة للمسلمين في فرنسا، في عملية غدت ضرورية بعد اعتداءات باريس وفشل المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية بأن يكون جسر تواصل بين المسلمين والدولة، في بلد يضم أكبر جالية مسلمة في أوروبا، يناهز عددها خمسة ملايين نسمة.
&
مشروع كازينوف
&
المشروع يهدف إلى تشكيل هيئة جديدة للحوار مع كافة ممثلي مسلمي فرنسا، تلتئم مرتين في العام، في خطوة تهدف للسماح لكل مسلمي فرنسا بالتعبير عن آرائهم، ودفعهم للتحرك بفعالية داخل المجتمع الفرنسي، تحت إطار ما أطلقت عليه وزارة الداخلية الفرنسية "المساعدة في وضع مبادىء وقيم وليس اتخاذ قرارات عن المسلمين". هذا القرار يتوجه بالأساس إلى كل المسلمين الذين لا يعتبرون أنفسهم ممثلين في المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية، الذي بقي منذ تشكيله في 2003 رهينة في أيدي من تعاقبوا على إدارته على اختلاف إنتماءاتهم، مغربية او جزائرية.
&
وطلبت الداخلية من كافة إداراتها المحلية تزويدها بأسماء الشخصيات المسلمة المهمة في فرنسا، إضافة إلى الجمعيات التابعة لها، غير المنضوية في المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية، لتشارك في جلسات الحوار التي ستبدأ قبل رمضان المقبل، في 16 حزيران (يونيو) القادم.
&
باب الحوار
&
في إطار تنظيمها للهيئات الممثلة للمسلمين، أكد كازينوف أن سياسة الداخلية تقوم على محورين، هما أولًا تأمين حماية أمنية لمساجد فرنسا، وكيفية العمل على إطلاق الرؤية الأفضل للإسلام في فرنسا مع العمل على توعية أكبر بالمبادئ التي تقوم عليها الجمهورية الفرنسية، وثانيًا تدريب الأئمة الذين عليهم بالدرجة الأولى أن يجيدوا اللغة الفرنسية.
&
وأعرب غالب بن الشيخ، رئيس المنتدى العالمي للأديان من أجل السلام، لـ "إيلاف"، عن خشيته من أن يكون كازينوف مخطئًا بالمشروع الحكومي الجديد، "ففي دولة علمانية تفصل بين الدين والدولة، لا تتدخل الحكومة في تنظيم الأمور الداخلية لديانة ما، فعلى المسلمين أن يرتبوا أمورهم داخل بيتهم من دون تدخل الحكومة أو السلطات السياسية، ولو قبلنا بفكرة الحوار مرتين في العام بين السلطات السياسية وممثلي المسلمين، مع أن قضية تمثيل المسلمين شائكة، فعلى من يتكلمون باسم المسلمين أن يلموا بخبايا الأمور وأن تكون لهم باع في الأمور الدينية والفقهية واللاهوتية والفلسفية".
&
&وُلد ميتًا
&
يقول بن الشيخ لـ "إيلاف": "المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية وُلد ميتًا، لأن تأسيس المجلس الفرنسي كان غريبًا ، إذ نرى أن وزير الداخلية آنذاك جمع مستشارين ليساعدوه في ما لا يعرفه عن الديانة الإسلامية، والغريب أن هؤلاء المستشارين غدوا أعضاء المكتب التنفيذي للمجلس الفرنسي للديانة الإسلامية، وكان هو من اختار رئيسًا وأمينًا عامًا وأمينًا للمال، وزعموا أنهم سيخوضون الإنتخابات، والإنتخابات لم تُكرس المكتب هذا، وبعد انتهاء العهدة الأولى تم فرضُ المكتب التنفيذي من جديد، وأعيدت الكرة في ما يخص الإنتخابات التي رفضت أن تكرس مشيئة السلطة السياسية، وبالتالي مثل هذه التصرفات لا نراها اليوم حتى في جمهورية الموز، بل في فرنسا الديمقراطية، ومن جهة أخرى، جميع من تعاقبوا على رئاسة المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية لا يفقهون في الأمور الدينية شيئًا وليست لهم الكفاءة ولا الجرأة ولا النفوذ والقدرة على اتخاذ القرارات، وللأسف الشديد إعتداءات شارلي إيبدو كانت متوقعة بالنظر لمن يتولى اليوم المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية".
&
غير موجود
&
يقول عمر المرابط، نائب عمدة مدينة اتيس موس في ضاحية باريس، ورئيس شبكة المغرب للتنمية التي تُعنى بشؤون المغاربة: "لا وجود للمجلس الفرنسي للديانة الإسلامية منذ تأسيسه حتى الآن داخل الجالية المسلمة بصفة عامة، نظرًا لأنه منتخب من مسؤولي المساجد، وبالتالي يمثل المساجد وليس الجالية المسلمة".
&
اضاف: "الهدف من الإصلاح الذي أعلنت عنه السلطات الفرنسية هو إدخال بعض الشخصيات المسلمة التي لا تنتمي إلى المجلس الفرنسي، من المثقفين وربما السياسيين والجمعيات، لبناء قاعدة عريضة، يكون لها وقعٌ وازن داخل الجالية، وأهميتها أنها تأتي بعد هجمات شارلي إيبدو الإرهابية، وهي أحداث أعطت إنطباعًا أن هناك تطرفًا في بعض أفراد الجالية، وهو صحيح، لكن المشكلة الحقيقية أمام السلطات الفرنسية هي توعية المسلمين من الناحية الدينية وتكوين الأئمة، وفرنسا بصفتها دولة علمانية لا يُمكنها أن تقوم بهذا الدور مباشرة، وفي نفس الوقت لا يُمكنها أن تغفل عن هذه الأمور لأنها أعطت فرصة للمتطرفين كي يقوموا باستقطاب بعض الناس من الجيلين الثاني والثالث، وممن انتموا حديثًا إلى الدين الإسلامي كي يقوموا بهذه الهجمات و دفعهم لاتباع الفكر المتطرف الذي يجعل هؤلاء يقومون بممارسات لا تمت إلى الإسلام الصحيح بصلة".
&
تمييز وإسلاموفوبيا
&
ويشير المرابط إلى أن غالبية مسلمي فرنسا مندمجون في المجتمع الفرنسي، "لكنّ لديهم إحساساً اليوم بالوسم أو العنصرية من طرف الآخرين كونهم من أصول عربية مغاربية إضافة إلى الإسلامافوبيا، ما يؤدي إلى نشأة مجموعات صغيرة تعمل على التخريب، ناهيك عن الدور السلبي الذي يلعبه الإعلام في فرنسا، وأذكر على سيبل المثال انه عندما تكون هناك نجاحات داخل أفراد الجالية المسلمة يتناساها الجميع، لكن عندما يكون هناك مجرم من أصول مغربية أو جزائرية أو تونسية، يجري تعميم الاتهام على كل من له أصول عربية مغاربية، وهذا ما يجب أن تنتبه له السلطات الفرنسية".
&
وأضاف: "إلى ذلك، غالبية مسلمي فرنسا هم من الفئات الإجتماعية الضعيفة أو المستضعفة، ما يدفع بالبعض إلى رد فعل سلبي، لأن وضعه الإجتماعي لا يسمح له بأن يكون مثقفًا، فيلجأ إلى الدين للإنتقام من المجتمع الذي يُحمّله مسؤولية فشله".
&
تدريب الأئمة
&
تسعى الحكومة الفرنسية اليوم إلى مضاعفة الشهادات الجامعية التي تقوم على تدريب الأئمة مدنيًا في مسعى لجعلهم يلمون أكثر بمبادئ العلمانية و القيم الفرنسية التي تقوم عليها الجمهورية، و أن يكون في فرنسا أئمة يجيدون اللغة الفرنسية بالأساس ووضع دورات تدريبية للمرشدين الدينيين في السجون والجيش، كما تعمل على توسيع نطاق البحوث الجامعية التي تقوم على إعطاء المواطن الفرنسي أفضل معرفة عن الإسلام الذي هو الديانة الثانية في فرنسا.
في هذا الإطار، اعتبر غالب بن الشيخ أن هناك ما هو مقبول ومرحب به في مشروع وزير الداخلية الفرنسي خاصة عندما يتحدث عن الأئمة و ضرورة أن يكون لديهم إلمامٌ باللغة الفرنسية، لأنها من البديهيات والغريب أن يكون هناك أئمةٌ لا يجيدون الفرنسية كما هي الحال اليوم، ولا بد أن نتعامل مع الدين الإسلامي بطريقة أكاديمية علمية، حضارية، و هنا إذا ما أرادت الإدارة السياسية أن تُعطي بعض الإعانات أو تسهل الأمور فمرحب بها ولكن إذا ما أرادوا أن يتوغلوا داخل الأمور الإسلامية فهذا مرفوض".
&
خطوة ضرورية
&
تقوم خطوة وزارة الداخلية الفرنسية بالأساس على إطلاق عجلة الإصلاح داخل مؤسسة الديانة الإسلامية، في خطوة غدت ضرورية بعد هجمات باريس ورصد جنوح الخطاب نحو التطرف في بعض المساجد والأحياء الفرنسية المهمشة، وفق رؤية فرنسية أن العلمانية ركيزة الجمهورية الفرنسية ليست معادية للإسلام وإنما تساعد المسلمين على إيجاد مكان لهم في الجمهورية.
&
والخطوة لا تهدف إلى عزل المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية وإنما توسيع الرؤى وإعطاء الكلمة لكافة مسلمي فرنسا لإظهار تمسكهم بديانتهم كما بقيم الجمهورية الفرنسية. واكدت الداخلية الفرنسية أن الهدف لا يقوم على إعادة تنظيم الديانة الإسلامية وإنما على إطلاق حوار بين الدولة والمسلمين، والعمل على تدريب الأئمة ورجال الدين، في ما يتعلق بنشر المعرفة بمبادئ الجمهورية، فالجهل هو الباب الذي دخلت منه الوحشية و الظلامية.
&
جنوح نحو التطرف
&
في هذا السياق، اعتبر غالب بن الشيخ أن الحالة التي غدا عليها الإسلام اليوم في فرنسا هي نتيجة لعدم وجود إطارات لديها الكفاءة اللازمة للتحدث باسم هذا الدين، "فنحن أي المجتمع الفرنسي في مأزق اليوم، ولا بد& للمواطنين الفرنسيين الذين يدينون بالديانة الإسلامية أن يأخذوا الأمور بجدية، وإذا تدخلت السلطات السياسية فيجب عليها التدخل فقط في إطار إعطاء فرصة والمساعدة في تكوين هذه الهيئات من دون أن تتدخل مباشرة، فنحن لا نراها تتدخل في شؤون الديانة المسيحية أو اليهودية، و يبقى الأهم هو كيفية الخروج من هذه المعضلة، وأن يرتكز تنظيم الديانة على أسس علمية اكاديمية، بفضل أناس لديهم الكفاءة والقدرة في أن يسيّروا تطبيق الشعائر الدينية في فرنسا".
وأكد أن ثمة جنوحًا في الخطاب الإسلامي نحو التطرف في فرنسا، خصوصًا في السجون وبعض الكهوف والدهاليز، أي المساجد غير المعروفة علنًا، وعبر الإنترنت وحتى في بعض المساجد، حيث يتحدث خطيب الجمعة عن هول القبر وعن علامات الساعة وعن الكفار الغربيين وعن الجهاد في سبيل الله في مفهوم العنف المقدس.
&
ويرى المرابط أن على السلطات الفرنسية اليوم التوجه إلى المجتمع الفرنسي للتأكيد على أن الجالية المسلمة هي جزء لا يتجزأ من الشعب الفرنسي، "لكن للأسف ما نراه اليوم واقع آخر، يعكس الهوة بين الخطاب والسياسات المبرمجة التي تقوم الحكومة بتطبيقها'.
&
تحرير الإسلام
&
كشف رئيس الوزراء الفرنسي مانويل فالس عن عزمه اتخاذ إجراءات لمنع أي تمويل لمسلمي فرنسا عبر دول أجنبية، في إشارة إلى دول الخليج. هنا تكمن المعضلة الأساس أمام السلطات الفرنسية، فقانون 1905 ،الذي يقوم على مبدأ فصل الدين عن الدولة ويمنع الدولة من تمويل الأديان وبناء دور عبادة، يضمن حرية التعبير والمعتقدات للمواطن الفرنسي. وكشف فالس عن توجه نحو إنشاء جمعية تتجاوز حدود المسؤولين الدينيين، وتسمح في أن يتمتع الإسلام في فرنسا بالأدوات اللازمة لإبراز تراثه، لكن يبقى التساؤل: كيف ستوائم السلطات الفرنسية ذلك مع مبادئ العلمانية؟
&
يقول المرابط: "مشكلة التمويل مشكلة حقيقية، لأن الجالية المسلمة في فرنسا فقيرة، ليس فيها أغنياء يمكنونها من بناء مراكز ثقافية ومساجد تسمح للجميع بأن يطبق تعاليم دينه، والمشكلة تكمن في كيفية استخدام المال وليس في الهبات التي يُمكن أن تأتي من الخارج، لهذا على السلطات الفرنسية أن تتعامل مع من تختاره الجالية المسلمة دون أن تعمد إلى اختيار من تراه هي الأنسب لكي يمثل المسلمين،& وهنا يكمُنُ الإشكال الحقيقي".