كانت الإنجازات التكنولوجية التي تحققت خلال العقد الماضي إنجازات مذهلة، لكنها على الأرجح ما زالت في بدايتها. فنشوء تكنولوجيات جديدة يحدث بمتوالية هندسية، وليس متوالية عددية، والإنجازات تتوالى بوتائر متسارعة دائمًا. ويمكن تشبيه هذا التطور بانهيار ثلجي يبدأ بكرة ثلجية صغيرة على قمة جبل.


عبدالاله مجيد: على سبيل المثال لم يعلن هاتف آيفون عن نفسه إلا قبل سبع سنوات، ولكن معظمنا لم نعد نتذكر كيف كان العالم قبله. وكانت السيارات التي تقود نفسها بنفسها حلمًا جنونيًا حتى عهد قريب، ولكنها لم تعد تثير استغراب أحد اليوم. ويجري الحديث عن جمع معارف العالم كلها في خريطة رقمية، تكون في متناول الجميع بكل سهولة. ومن مظاهر هذا التقدم أن البرمجيات في الولايات المتحدة تدير نحو 70 في المئة من تعاملات البورصة. وما كان جنونًا هو الوضع الطبيعي اليوم.&

تجاوز الزمن
وتحاول عشرات الشركات أن تتوصل إلى طريقة تستخدم بها الطائرات المسيّرة لأغراض تجارية، سواء لإيصال الطلبيات أو جمع البيانات أو غايات أخرى. وتعمل جيوش من المهندسين على إطلاق قدرات الذكاء الاصطناعي. وما زالت الإنجازات تتوالى: آلات يمكن أن تتعلم وروبوتات ذكية. باختصار، نحن بدأنا نتجاوز الخيال العلمي.&

ما زالت هذه الظاهرة غير مفهومة، لا سيما لصانعي السياسة. ويبدو أنهم لم يقرروا حتى الآن قبولها وإعداد إطار سياسي عملي للمستقبل أو الوقوف متفرجين، فيما يصنع الآخرون ثورة. فما نشهده ليس انتصار تكنولوجيا معينة، ولا هو ظاهرة اقتصادية. كما إن الأمر لا يتعلق بالانترنت أو شبكات التواصل الاجتماعي أو الأجهزة التجسسية وإدوارد سنودن أو ما تفعله غوغل بمعلوماتنا الشخصية أو الأعداد الكبيرة من الصحف الورقية التي تشهر إفلاسها أو الوظائف التي يُستعاض عنها بالبرمجيات. ويتعدى الأمر إطلاق خدمة تراسل قيمتها 19 مليار يورو أو أن شبابًا في العشرين يؤسسون صناعات جديدة كاملة.&

ثورة فكرية
ما نشهده ليس أقل من ثورة مجتمعية، لن يستطيع أحد الإفلات منها في نهاية المطاف. إنه تحول من النوع الذي لا يمكن أن يُقارن إلا بالثورة الصناعية في القرن التاسع عشر، سوى أنه تحول يحدث بسرعة أكبر هذه المرة. ومثلما أن الانتقال من العمل اليدوي إلى الإنتاج واسع النطاق أحدث تغييرًا جذريًا في مجتمعنا قبل أكثر من 100 سنة، فإن الثورة الرقمية لا تغيّر قطاعات محدَّدة من الاقتصاد فحسب، بل تغيّر طريقة تفكيرنا وحياتنا أيضًا.&

لكن التغيير يختلف هذه المرة. فقوته الدافعة هي بضع مئات من الأفراد. ولم يعد أفراد هذه النخبة الجديدة يعملون في وول ستريت، بل مقارهم في منطقة سيليكون فالي مركز الصناعات التكنولوجية في جنوب مدينة سان فرانسيسكو في ولاية كاليفورنيا. فهناك بدأت صناعة الرقائق الالكترونية، وهناك بدأ عصر الكومبيوتر، وهناك الآن يتمركز قادة الثورة الرقمية الحالية. إنهم المؤسسون والرؤساء التنفيذيون، من أمثال سيرغي برين رئيس غوغل وتيم كوك رئيس إبل ومارك زوكيربيرغ رئيس فايسبوك.&

غير أن "أسياد الكون" الجدد - كما تسميهم مجلة شبيغل الألمانية - يختلفون عن أسلافهم. وهمَّهم الرئيس ليس المال، وهم لا يريدون تحديد ما نستهلكه فحسب، ولكن كيف نستهلكه، بل وكيف نعيش أيضًا. وهم لا يحاولون السيطرة على قطاع اقتصادي واحد، إنما على جميع القطاعات، ولا يسيرون نحو المستقبل بخطى متعثرة، بل بأجندة واضحة.& وعدا نجاحهم الباهر، فإن أيديولوجيتهم هذه هي التي تميّزهم عن الآخرين. وإذا كان دين وول ستريت المال، فإن دين سيليكون فالي يذهب إلى أعمق من ذلك بكثير.. إنه الإيمان الراسخ برسالة مؤداها أن التكنولوجيا قادرة على تغيير البشرية إلى الأفضل.&
&
راي كورزويل: صاحب نبوءة
يعتبر راي كورزويل عبقريًا باعتراف الجميع تقريبًا. إنه مدير قسم الهندسة في غوغل، ويحمل 19 شهادة دكتوراه فخرية، ومخترع الماسح الضوئي المسطح وتكنولوجيا تحويل النص إلى كلام، ولديه عشرات من براءات الاختراع الإضافية المسجلة باسمه. ونذر كورزويل حياته للتفكير في التكنولوجيا متوصلًا إلى نتيجة مفادها أن الكومبيوترات ستكون بحلول عام 2019 قادرة على عمل كل ما يستطيع الإنسان أن يعمله، ولكن بطريقة أفضل.&

كان الإيمان العميق بتقدم التكنولوجيا على الدوام عنصرًا أساسيًا في تفكير سيليكون فالي، منذ بدأ المهندسون يصنعون الرقائق المجهرية الأولى قبل 50 عامًا، ومنذ تمكن ستيف جوبز وستيف فوزنياك من تجميع أول كومبيوتر يحمل اسم أبل في كراج البيت. وتنقل مجلة شبيغل عن كورزويل "أن وتيرة التغيّر التكنولوجي ستكون سريعة، وتأثيره سيكون عميقًا، بحيث إن الحياة البشرية ستتحول تحولًا لا رجعة فيه".&

ويوضح كورزويل هذا التغيير بالمثال الآتي: إذا مشيت 30 خطوة بمتوالية عددية ستقطع 30 مترًا، وإذا مشيت 30 خطوة بمتوالية هندسية ستقطع مليار متر.&

سبستيان ترون: المهندس
تمكنت غوغل خلال السنوات الأخيرة من تطوير مشاريع أصبحت تجسيدًا لفرص الخيال العلمي الجديد ومخاطره أكثر من أي شركة في العالم. ومما طورته غوغل سيارة تقود نفسها بنفسها ونظارات ذكية وعدسات لاصقة تقيس مستوى السكر في الدم. تأتي جميع هذه الاختراعات من مختبر أبحاث واحد، اسمه غوغل إكس، مؤسسه عالم الكومبيوتر الألماني سبستيان ترون.&

ترون لا يعتقد بأن الآلة ستحل محل البشر بالكامل ذات يوم، ولكنه يرى أنها ستُغني عن توظيف ما يكفي منهم للبدء بالتفكير في كيف سندرس وكيف سنعمل وحتى كيف سننظم حكوماتنا في المستقبل. وتنقل مجلة شبيغل عن المهندس ترون قوله "إن شخصًا في المنظومة الصحيحة هو اليوم بكفاءة 100 شخص قبل فترة وجيزة". ويبدي ترون قلقه مما يعنيه ذلك في سوق العمل، حيث يعتقد بأن البرمجيات ستحل محل عدد متزايد من الوظائف في عملية لا مرد عنها.&

ولكن ترون يقضي هذه الأيام معظم وقته في شركته هو، وليس في غوغل أو جامعة ستانفورد. إذ جمع 120 شخصًا في مكاتب مزدحمة داخل مبنى يقع في منطقة صناعية بأمل تثوير التعليم. وتُسمى شركته يوداستي Udacity وهي تقدم أعدادًا كبيرة من البرامج التعليمية على الانترنت. ويقول ترون إنه يريد تغيير المجتمع وإنه يسأل نفسه كيف يستطيع تعظيم تأثيره الإيجابي في العالم.&
&
بيتر تيل: المنظِّر
في أواخر التسعينات أسهم بيتر تيل في تأسيس خدمة باي بال للمدفوعات على الانترنت، وجعلته الشركة، التي كانت واحدة من قصص النجاح القليلة في الاقتصاد الجديد، غنيًا للمرة الاولى&في حياته. وأردف ذلك بتأسيس شركة استثمارية بدأت تشغيل استثمارات ضد التيار. وأخذت الأرباح تتدفق مرة أخرى، وازداد تيل ثراء. وأصبح لاحقًا أول شخص يستثمر في الشركة التي أنشأها زوكربرغ حديثًا باستثمار 500 ألف دولار في فايسبوك مقابل 10 في المئة من أسهم الشركة، وأصبح غنيًا للمرة الثالثة.

يقول تيل إنه لا يفهم لماذا أصبح العالم مهووسًا بالانترنت اليوم. ويشير إلى أن الهواتف الذكية وشبكات التواصل الاجتماعي كلها عظيمة، "ولكن التفكير أصبح ضيقًا للغاية".& ويتساءل تيل عمّا حدث "للأحلام الكبيرة حقًا" التي عرفها عقدا الخمسينات والستينات عندما كانت طموحاتنا ترمي إلى بناء "مدن تحت الماء"، وإنتاج وسائل نقل تفوق سرعتها سرعة الصوت.&

جو غيبيا: الفاتح
يقول جو غيبيا ، أحد مؤسسي شركة إير بي أن بي لإيجار المنازل ومدير الإنتاج فيها، إن الشركة موجودة في 190 بلدًا و34 ألف مدينة، "ولديها الآن في هذه الليلة 400 ألف ضيف، وتتلقى 277 حجزًا للإقامة في بيوتها كل دقيقة".&

وبلغ الطلب على خدمات الشركة حجمًا أخذت معه تغيّر وجه السياحة العالمية. وتقدم الشركة الآن أكثر من مليون محل إقامة، بما في ذلك بيوت على أشجار. وخلال بطولة كأس العالم كان من البيوت التي أجرتها الشركة لزبائنها بيت نجم الكرة البرازيلي رونالدينو، بما فيه من سينما ومسرح لرقص السامبا.

تتمثل رؤية غيبيا للمستقبل في أن شركة إير بي أن بي لا تعتزم توفير محل إقامة للأشخاص، بل تريد تمكينهم من "الغوص عميقًا في الرحلة بكاملها" بتوفير نزهات وسيارات برسم الإيجار ومأكولات، وكل ما يحتاجونه، من مصدر واحد "وفي أي مكان على كوكب الأرض". ولتحقيق ذلك، يعتمد غيبيا طريقة تُسمى التفكير المتمحور حول البشر. وهي طريقة تفكير كثيرًا ما يجدها المرء في منطقة سيليكون فالي، في غوغل وأبل مثلًا.&

وتعتبر الشركة نفسها حركة أكثر منها مشروعًا تجاريًا. وهدفها أن تكون رائدة في إيجاد نموذج اقتصادي عالمي أكثر عدالة وأعلى كفاءة من النموذج السائد اليوم. وهي تعتمد رؤية اجتماعية ـ اقتصادية مثالًا لها في النشاط الاقتصادي.&

غلق الدائرة أم لا؟
هل ستتحقق الرؤية الوردية لهذه النخبة التي تتمركز في منطقة سيليكون فالي، أم ستؤدي إلى نقيضها الكالح، كما يتوقع منتقدوها بتحذيراتهم وتشاؤمهم الدائم؟، من بين هؤلاء المنتقدين الروائي ديف ايغرز مؤلف رواية "الدائرة" التي كثر الحديث عنها في العام الماضي.&

قد يتطلع "أسياد الكون الجدد" إلى فردوس على الطريق الممتد أمامهم، ولكن إيغرز يصفه بالجحيم الذي يُبنى شيئًا فشيئًا بالحجر، وكأنه سجن رقمي عملاق. وفي رواية إيغرز، فإن القوى الرقمية تحقق كثيرًا من الأحلام للبشر، ولكنها تجرّدهم من حريتهم أيضًا ـ بل من كل ما يجعلهم بشرًا.&

الفرد يختفي في "دائرة" إيغرز، ولا تعود له قيمة. إنه يختفي بإرادته في عالم شمولي لا تعود فيه سياسة ولا دولة. وكل ما يبقى هو الدافع الذي لا يقاوم لنشدان السعادة من شركة رقمية. فهل تتحقق رؤية المتشائمين من أمثال إيغرز أم رؤية المتفائلين العاملين في مختبرات سيليكون فالي الرقمية؟.