بين سبعة آلاف لغة لا تزال حية اليوم، لا تنجو من تراكمات الزمن إلا قليلة، أفضلها الإيطالية، وأقلها فضلًا التايوانية، وما بينهما تبرز الانكليزية، طبعًا، والألمانية.


ساره الشمالي: لكل لغته، التي يعتزّ بها، يكتب بها، ويشعر بأنها الأكثر قدرة على الاستجابة لرغباته التعبيرية. في العالم نحو 7 آلاف لغة حية، لكن اللغات التي يهتمّ لها البشر اليوم قليلة، لا يتجاوز عددها العشرة. أما البقية فباقية، رغم أنها تتحدر من ثقافات أكل الدهر عليها وشرب، وهي بحكم المنقرضة حكمًا.

أربعة أو ثمانية؟

ونقل مقال للكاتب غافين ماكينز في موقع "تاكي ماغازين" أبرز مثال على هذا الرأي اللغة التايوانية. فأهل تايوان اليوم هم بقايا شعب، حاول الزعيم الصيني شيانغ كاي شيك، الذي حكم الصين بين 1928 و1975، إبادته عن بكرة أبيه، من أجل أن تولد تايوان الحديثة. ففي اللغة التايوانية يمكن تحميل كل كلمة ثمانية معانٍ مختلفة، بحسب النبرة الصوتية التي تلفظ فيها، بينما هي أربعة معانٍ في الصينية. في حين تبقى الكلمة الانكليزية بمعنى واحد، كيفما كان لفظها.

إلى ذلك، بمجرد أن يعرف المرء أن القطة بالتايوانية هي "مياو" يدرك أن لغة تسمّي حيواناتها بحسب الأصوات التي تصدرها ليست لغة قادرة على المنافسة في العصر الحديث.

الآسيويات الشمطاوات

من اللغات "الحية المهمة"، التي تحيا اليوم بفضل استخدامها البشري، لغات شرقية وغربية. بينها الكورية مثلًا، التي استغنت عن حروفها التي تحتاج ريشة رسام لكتابتها، واستعاضت عنها بدوائر ومربعات سهلة الاستخدام، ترمز إلى صوتيات أقل عددًا من الصوتيات الانكليزية. لكنها تبقى تلك اللغة الآسيوية، التي لا يميزها سامعها من أخرى.

إلى جانب الكورية تقف المندرية، التي يستحيل تعلمها. فمن يريد حسن لفظها، عليه أن يقوّر أصابع قدميه، ويشد عضل معدته، ويحول عينيه، وكأن عليه أن يرمي كرة غولف بعصا غليظة، ويدخلها في كوب على بعد 40 ميلًا... حتى إن الصينيين أنفسهم لا يتقنونها، لذا تبث المحطات الصينية كلام حوار الأفلام على الشاشة كي يتمرّن الناس، ورغم ذلك لا يتقنونها، إلا وهم في سبعيناتهم، أي وهم على فراش الموت.

إلى هاتين اللغتين تنضم الكانتونية واليابانية. وعلى الرغم من التقدم الذي أحرزته اليابان، تبدو المرأة غبية حين تتكلم، بينما يبدو الرجل غاضبًا على الدوام.

السرّ في الليونة

في الشرق الأوسط لغتان، العربية والعبرية. وهما صعبتان لفظًا، عصيتان فهمًا. أما الروسية، فحدث ولا حرج. إنها من الصعوبة والغلاظة بمكان أنه يستحيل أن يبرع "كوميدي" في إضحاك الناس بروسيته، إذ يبدو وكأنه يمضغ أسنانه.

لا بأس بالألمانية، بفاعليتها وكفايتها، المردودتين إلى تدخل الانكليزية فيها. لكن، أي لغة غير لغة الألمان يمكنها أن تختصر جملة "الفكاهة السوداء التي تسخر من معاناة الآخرين" كاملةً في كلمة واحدة: Schadenfreude.

أما الانكليزية، فالشهادة فيها مجروحة، خصوصًا أنها لغة معظم العالم اليوم، أكانت لغة أم، أو لغة ثانية، تتميز بليونتها وسهولة إتقانها، حتى إذا تعلمها أجنبي في سبعة أيام، من دون معلّم، نبذ لغته الأم واعتنقها في حياته اليومية.

من الجانب الهندي من الدنيا، تبدو لغة الأوردو كحفلة صاخبة مضحكة في الحلق. فإن سألت بياري لاركي (فتاة جميلة): "كي هال شيلّي، يار؟ (كيف حالك، صديقي؟). يأتيها الجواب: "تيك توك" (جيّد). بالله عليكم، من اخترع هذه اللغة؟.

لبس وارتباك

من اللاتينيات، تبرز البرتغالية، الأقبح بين الأوروبيات. بينما الإسبانية جميلة، إلا إذا تكلمها أهل بورتوريكو، فتصبح كالفرنسية متى تكلمها أهل كيبيك، فتعمها الفوضى، وتتساقط الأصوات عن حروفها، وتخرج الكلمات وكأنها تسرب من فم رجل سكير قبل لحظات من فقدانه الوعي.

وبمناسبة الكلام عن الفرنسية، فهذه لغة تقيد نفسها بالكثير من قواعد الصرف والنحو، موقعة الناس في اللبس والارتباك، ومصعّبة تعلمها، وتلفّظها. كل ما يمكن فعله هو الاقتراب قليلًا من الأبد اللغوي. والفرنسيون يزعمون أن لديهم طريقتهم في تجاوز جنون اللغة، لكن... ما إن تسأل فرنسيًا أن يلفظ لك أنفاسه بجملة معبرة ومفيدة، تراه يغمض عينيه ويتمتمها أولًا ليتأكد من حسنها. وهذا دليل قاطع على أن السبيل الوحيد لفهم هذه اللغة هو حفظها عن ظهر قلب.

اللغة الرابحة

اليونانية من الإبهام، ما جعلها مضرب مثل بين الأوروبيين أنفسهم، إذ يقولون لكل ما يفهمونه: "إنه يوناني بالنسبة إليّ" (It’s all Greek to me). وهذا كافٍ.

أما اللغة الرابحة فهي الإيطالية بلا منازع، بليغة المعنى بالكلمات الأقل. Bella figura كلمتان تعنيان جمال الهندام، وهناء الشعور، وحسن السلوك. ويندر أن يمضي سائح أيامًا في إيطاليا من دون أن تعلق في وجدانه كلمات كثيرة، يستطيع أن يسوقها في جمل شبه معبرة، إذ تنتهي كلمات هذه اللغة بصوتيات تزيدها رومانسية وإثارة، تصاحبها إيماءات وإشارات يتقنها الإيطاليون، تعطي للغة بعدًا أكثر إنسانية.