مشاركة فرانسوا هولاند في القمة الخليجية بالرياض رسالة إلى باراك أوباما، مفادها أن دول الخليج لن تتردد في أن تبدل تحالفًا بتحالف آخر، فتحل باريس ذات المواقف الثابتة من إيران وسوريا محل واشنطن المترددة في الملفين.

ليال بشارة من باريس وحسن حاميدوي من الرياض: شارك الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند في أعمال قمة مجلس التعاون الخليجي، التي انعقدت في الرياض الثلاثاء، في سابقة أولى تعكس ترحيب الدول الخليجية بمواقف فرنسا الراسخة والثابتة من عدة أزمات إقليمية، بينها ملف إيران النووي والأزمة السورية وعمليات التحالف الذي تقوده السعودية في اليمن ضد الحوثيين وحلفائهم.

ففرنسا، وفي تطابق مع دول الخليج، تسعى جاهدة لعدم الخروج بإتفاق مع إيران لا يضمن سلمية برنامجها النووي، كما أن موقفها لم يتغيّر من الأزمة السورية، ومفاده أن لا حوار مع بشار الأسد. من هنا، لا تخفي مصادر الرئاسة الفرنسية في جلساتها المغلقة أن دول الخليج تقدر وفاء وثبات المواقف الفرنسية حيال إيران وسوريا، غامزةً بذلك من قناة الرئيس الأميركي باراك أوباما، الذي تراجع عن توجيه ضربة للنظام السوري في صيف 2013، ما يدفع بدول الخليج اليوم إلى التخوف من انعطافة مماثلة حيال ملف إيران النووي.

تطابق وجهات النظر

أتت القمة التشاورية لدول مجلس التعاون الخليجي في الرياض، بمشاركة هولاند، في سياق التحضير لقمة خليجية أميركية يستضيفها الرئيس الأميركي باراك أوباما في منتجع كامب دايفيد في 13 و14 أيار (مايو) الجاري لمناقشة ملفات إقليمية بينها ملف إيران النووي، إذ تسعى واشنطن للخروج بإتفاق نهائي مع حلول 30 حزيران (يونيو) القادم.

تراقب السعودية بحذر المفاوضات المتواصلة بين إيران ومجموعة الـ (5+1)، وتنظر بقلق إلى التقارب الأميركي الإيراني في وقت يتسع فيه النفوذ الإيراني عند حدودها، خصوصًا في العراق واليمن.

وقد قال محمد آل زُلفه، عضو مجلس الشورى السعودي، سابقًا لـ"إيلاف": "مشاركة هولاند في قمة مجلس التعاون الخليجي مهمة جدًا، فهي تأتي بعد عاصفة الحزم ضد الحوثيين وحلفائهم في اليمن، وقد كان لفرنسا موقف جيد من مناصرة الموقف العربي الموحد سواء في مجلس الأمن أو في دعم القضايا العربية بشكل عام، ولعل من أهمها الموقف الفرنسي الذي لم يتغيّر تجاه الأزمة في سوريا، وتجاه طموحات إيران في امتلاك السلاح النووي، وفرنسا ترى انه إذا امتلكت إيران السلاح النووي فستكون مصدرًا كبيرًا وجديًا لتهديد امن المنطقة، الذي تهدده أصلًا إيران وهي لا تملك سلاحًا نوويًا، إضافة إلى حرص فرنسا على مساعدة الخليج لتجنب أهم آفة أصيبت بها، ألا وهي آفة الإرهاب التي لم تسلم منها أوروبا نفسها".

الأكثر تشددًا

وتجدر الإشارة هنا إلى أن موقف فرنسا هو الأكثر تشددًا في المفاوضات حول ملف إيران النووي، فهي ترفض تمامًا رفع العقوبات الدولية المفروضة على طهران ما أن يتم التوقيع على الإتفاق النهائي، لما يُمكنُ أن يكون له من تداعيات سلبية تمس توازن القوى في الخليج.

ويبقى التساؤل إن كان بإستطاعة الفرنسيين الوقوف في وجه إتفاق حول ملف إيران النووي، وفقًا لستيفان لا كروا، أستاذ العلوم السياسية في معهد باريس للعلوم السياسية، الذي قال لـ"إيلاف": "ما هو مؤكد اليوم أن هناك تقديرًا خليجيًا للموقف الفرنسي، وإن كانت هناك شكوك حول إمكان أن يؤدي ذلك إلى شيء ملموس".

وعمق العلاقات السعودية الفرنسية وتطابق وجهات النظر في الكثير من القضايا شجع السعودية كمضيفة لقمة التشاور الخليجي على دعوة الرئيس الفرنسي ليكون أبرز المشاركين في القمة التشاورية في خطوة لها دلالات إقليمية ودولية، يصفها آل زلفه بأنها تكمن في موقع فرنسا الرائد في الإتحاد الأوروبي وتأثيرها في توحيد الموقف الأوروبي من مخاطر امتلاك إيران للسلاح النووي، "وكما قال الرئيس الفرنسي نحن نريد من إيران أعمالًا لا أقوالًا، فإيران تلعب بالألفاظ، تلعب بالمصطلحات، ولكنها لا تنفذ شيئًا مما تتعهد به".

تحالف بديل

ونقل مراسل "إيلاف" في السعودية عن الدكتور زهير الحارثي، عضو اللجنة الخارجية بمجلس الشورى السعودي، قوله إن تواجد الرئيس الفرنسي كضيف شرف رسالة يريد الخليج إيصالها لبعض الأطراف، لتقاعسها وتضاؤل دورها في حلحلة ملفات المنطقة، "والتقارب الفرنسي الخليجي لا سيما الفرنسي السعودي& يعيش تطورًا ايجابيًا، وقد يعتبر تحالفًا بديلاً عن التحالف مع أميركا، لاسيما مع مرور حالة من الفتور في علاقات الرياض بواشنطن على خلفية تعاطي البيت الأبيض مع الملفين السوري والإيراني".

أضاف الحارثي: "التقارب السعودي الفرنسي سيعمل على خلق توازن جديد للقوى،& وسيملأ فراغ الدور الأميركي الذي لم يعد مهتمًا بتقديم موقف من البرنامج النووي الإيراني، في حين تتطابق الرؤية الفرنسية والخليجية في ضرورة توافر الضمانات لسلمية البرنامج النووي الإيراني، إذ يُعرف عن الموقف الفرنسي في محادثات (5+1) تميّزه بصلابة ودقة أزعجت الإيرانيين، أما في الموقف السوري فيعول الخليج على باريس في إقناع روسيا بتغيير موقفها من الأزمة السورية، لاسيما مع بروز تحول طفيف في الدعم الروسي للأسد بعد لقاء بوتين بالرئيس الفرنسي اخيرًا، كما أن فرنسا بدورها& تعتبر الخليج& منطلقًا لتفعيل علاقتها الدبلوماسية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا".

وختم الحارثي مؤكدًا أن التقارب الفرنسي الخليجي ليس بالضرورة موجهًا ضد&أحد، "بقدر ما هو جهد وحراك دبلوماسي بهدف حلحلة الملفات المتأزمة في المنطقة وتحقيق الانفراج السياسي".

الخليج هو عامل إستقرار

لكن آل زلفه يتصور أن الرسالة موجهة من خلال فرنسا إلى الرئيس الأميركي الذي سيلتقي زعماء دول مجلس التعاون، "وفرنسا لها علاقات متينة وقوية مع الولايات المتحدة، وبالتالي ستكون هناك رسالة واضحة من الرئيس هولاند إلى أوباما في تفهم مخاوف دول مجلس التعاون التي لا تشعر بالأمن، فهي جارة لدولة تريد أن تمتلك سلاحًا نوويًا، وهي تعبث بأمن هذه المنطقة، فعلى الولايات المتحدة أن تكون حذرة في محاولة الارتماء في أحضان إيران، وهي تُخطىءُ إن اعتقدت بأن إيران دولة داعمة للاستقرار بينما في الواقع هي دولة مهددة للاستقرار، وأعتقد أن الرسالة واضحة سينقلها الرئيس الفرنسي سواء مباشرة أو من خلال مشاركته في هذا الملتقى الخليجي الكبير".

وفرنسا تنظر اليوم إلى الدول الخليجية بصفتها عامل إستقرار في منطقة عربية ينخرها الإرهاب، وتطال دولها شظايا الحرب المتواصلة في سوريا.

الخط الأحمر

يقول آل زلفه: "وجود الرئيس الفرنسي في قمة مجلس التعاون الخليجي مؤشرٌ على أن العالم لم يتخلَّ عن الشعب السوري الذي يتعرض لعمليات قتل بشتى أنواع الأسلحة، بما فيها الأسلحة المحظورة التي قالت الولايات المتحدة إنها خطٌ أحمر، في المقابل نجد الرئيس الأميركي يتخلى عن وعوده بمناصرة الشعب السوري، بعكس فرنسا التي وقفت دائمًا إلى جانب الشعب السوري وإلى جانب القضاء على كل مسببات هذه الويلات التي تعرض لها الشعب السوري، بما فيها عدم شرعية نظام الأسد وعدم إعطائه فرصة بأن يكون جزءًا من الحل، وأيضا تلك القوى التي شاركت في الحرب على الشعب السوري سواء إيران بأسلحتها وأموالها أو حزب الله بأمواله وتدخله في الشأن السوري، أعتقد أن دول مجلس التعاون الخليجي أصبحت المحرك الأول للوقوف الموحد للأمة العربية في مجابهة هذه التحديات، وهي التي سترسم الرؤية القادمة مع الأصدقاء المخلصين مثل الرئيس الفرنسي وتأثيره في الإتحاد الأوروبي وربما في المجتمع الدولي".

في المقابل، لم تخفِ الدول الخليجية إنزعاجها من تصريحات أوباما لصحيفة نيويورك تايمز، التي اعتبر فيها أن أكبر التهديدات التي يواجهها حلفاء واشنطن من العرب السنة قد لا تكون قادمة من إيران، وإنما من الإستياء داخل بلدانهم.

تعزيز التبادل

قال الخبير الاقتصادي عبدالله العمودي لـ"إيلاف" إن باريس والرياض تجمعهما مصالح اقتصادية متنوعة، أبرزها التقنية النووية السلمية، فضلًا عن ملفات عسكرية ودفاعية آخرها& تسلم الجيش اللبناني أسلحة فرنسية موّلتها المملكة، وزيارة هولاند تأتي ضمن سعي الطرفين إلى توثيق علاقاتهما الاقتصادية والتجارية وتنشيط الاستثمارات المتبادلة، إذ تعتبر السعودية أول شريك تجاري واقتصادي لفرنسا في الخليج".

وأضاف: "شهدت العلاقات التجارية الفرنسية السعودية خلال عامين وثبات متقدمة، فبلغ حجم التبادل التجاري 9 مليارات يورو، وبلغت منها قيمة الصادرات الفرنسية 3 مليارات يورو, فيما وصلت الصادرات السعودية إلى 6 مليارات يورو، ووفقًا لذلك فإن الميزان التجاري يميل& لصالح السعودية، حيث إنها تمثل المصدر الأول للنفط إلى فرنسا، فيما تعتمد باريس في صادراتها إلى السعودية على الصناعات الغذائية والمستحضرات الطبية وقطاع الطيران والسيارات ومستحضرات التجميل والعطور".

قطاعات واعدة

وبين العمودي أن القطاعات الواعدة بالنسبة إلى البلدين تشمل الطاقة المتجددة والطاقة النووية المدنية لإنتاج الكهرباء والصحة وتقنيات الاتصال وسكك الحديد والنقل داخل المدن، ولذلك& فإن باريس تعتبر أن ثمة هامشاً يمكن اللعب عليه لتحسين موقع فرنسا في السوق السعودية، لا سيما أن حصة فرنسا من السوق السعودية تعتبر في المرتبة الثامنة بعد الدول الرئيسية مثل الولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا.

أضاف: "في مجال& الطاقة والنقل، حظيت الشركات الفرنسية خلال العامين 2013 و2014 بمجموعة من العقود المهمة، من أبرزها حصول شركة ألستوم الفرنسية على جزء من عقد مترو الرياض بقيمة 12 مليار يورو، وعقد تزويد محطة ينبع بتوربينات بقيمة& 700 مليون يورو، كما حصلت شركة سيدم الفرنسية على عقد إقامة مصنع تحلية لمجمع صدارة البتروكيماوي بقيمة 400 مليون يورو، وفي& قطاع تحلية المياه والقطاع النفطي اقامت شركة توتال الفرنسية اكبر مصفاة لتكرير النفط في ينبع".

صيدٌ ثمين

وتجري فرنسا محادثات لإبرام عقود بالمليارات مع السعودية في شتى المجالات، بينها الدفاع والطيران المدني والنقل والطاقة، في خطوة يسعى من خلالها هولاند إلى حصد آثارها داخليًا في فرنسا عبر النهوض بالنمو وخلق فرص عمل جديدة قد ترفع شعبية هولاند قبل الإستحقاق الرئاسي في 2017.

وقال ستيفان لا كروا، أستاذ العلوم السياسية في معهد باريس للعلوم السياسية، إن تقارب الآراء بين فرنسا والسعودية هو السبب الرئيس الذي أدى إلى علاقات إقتصادية جيدة بين البلدين، ومع مصر، حليفة السعودية، التي اشترت مقاتلات رافال الفرنسية، "إضافة إلى صفقة تسليح الجيش اللبناني عبر الهبة السعودية، وتم في الأمس القريب إتمام صفقة بيع طائرات رافال إلى قطر، وهذا مهم جدًا للإقتصاد الفرنسي لأن فرنسا في أزمة إقتصادية، وهي تحتاج إلى هذه العقود، وهو ما من شأنه تقوية العلاقة بين فرنسا والخليج".

تابع: "هولاند يواجه مشاكل إقتصادية كبيرة، ولم يبقَ سوى عامين من فترة رئاسته، وهو كان وعد الفرنسيين بتخطي أزمة البطالة، وما زالت البطالة في تزايد، فمهم جدًا سياسيًا لهولاند أن يبحث عن أي دعم للإقتصاد الفرنسي، وهو يعول على الفوز بعقود إقتصادية كبرى في دول الخليج، منها صفقات بيع أسلحة فرنسية وعقود تتعلق بالبنى التحتية، فمنذ وقت طويل هناك مفاوضات بين فرنسا والسعودية لإنجاز مترو الرياض، وفرنسا تؤمن بأن التطورات الأخيرة ستنعكس إيجابًا على الإقتصاد الفرنسي، والسعوديون يستطيعون أن يستثمروا في فرنسا وهو ما يسعى إليه هولاند الذي يعتمد الديبلوماسية الإقتصادية".