لا يبدو إردوغان جادًا أو متحمسًا للقضاء على تنظيم الدولة الإسلامية المتطرف، وما غاراته وضرباته الأخيرة في سوريا والعراق سوى ضرب عصفورين بحجر واحد: إسكات الغرب وإيهامهم بأنه بدأ يقتنع بضرورة مكافحة الإرهاب المتمثل أساسًا في داعش، واستمرار مسلسل مطاردته لحزب العمال والأكراد ومنعهم من إقامة دولتهم الخاصة.


لميس فرحات: الصراع التركي الكردي ليس بجديد على الساحة الإقليمية، لكن اللاعبين الجدد يضيفون المزيد من التحديات والتعقيدات إلى هذا النزاع، الذي يهدد بجرّ تركيا نحو حرب أهلية لا تحمد عقباها.

تصريحات الرئيس رجب طيب أردوغان وقيادات حزب العمال الكردستاني تظهر بوضوح أن عملية السلام بين الحكومة التركية والأكراد وصلت إلى نهايتها. ودوامة الصراع التي تدور منذ سنوات بين هذين الفريقين تبتلع مقاتلين من حزب العمال الكردستاني والجيش التركي، الذين يقتلون يوميًا بسبب الغارات الجوية والهجمات المتبادلة.

عدو عدوي؟
لكن التطورات الأخيرة أضافت عامل اشتعال آخر يزيد من تعقيد المسألة، إذ إن أردوغان يستخدم "القتال ضد داعش" كذريعة لشنّ هجمات على الأكراد، وفقًا لصحيفة "دير شبيغل" الألمانية.

الصحيفة تعتبر أن أنقرة تقاتل ضحايا داعش، أي الأكراد، بدلًا من شن الهجمات على مواقع التنظيم الإسلامي المتشدد، فهي تقصف مواقع حزب العمال الكردستاني، الذي يقاتل داعش، ويحرز تقدمًا جيدًا في دفعها بعيدًا عن الحدود.

في الأسبوع الماضي، بدا كما لو أن إردوغان قد فعل أخيرًا ما يأمل به الغرب منذ فترة طويلة، إذ اتخذ إجراءات ضد الدولة الإسلامية (داعش) بعد سنوات من التسامح وغض الطرف. الإجراءات الجديدة تسمح لسلاح الجو الأميركي باستخدام القواعد العسكرية التركية المتعددة، فضلًا عن قاعدة أنجرليك الجوية التابعة للناتو، لشن ضرباته الجوية ضد مسلحي داعش.

هذا الأمر يجعل رحلات الطائرات الأميركية أقصر مسافة بشكل كبير في طريقها للوصول إلى الأهداف، فبدلًا من إقلاعها من قواعدها في الخليج العربي والتزود بالوقود في الجو، تسلك الطائرات اليوم ما لا يزيد علىن 150 كيلومتر (93 ميلًا) من قاعدة أنجرليك قبل الوصول إلى الأراضي الواقعة تحت سيطرة داعش.

يوم الجمعة الماضي، وبعد أربعة أيام من التفجير الانتحاري في سروج - الذي لم تعلن أية جهة مسؤوليتها عنه بعد - شنت القوات الجوية التركية هجومًا على مواقع تابعة لداعش.

شماعة لشن الحرب
لكن نوايا أردوغان الحقيقية سرعان ما أصبحت واضحة، فهو يريد استغلال هذه الأحداث والهجمات، ليس لقتال داعش، بل لمحاربة الشر الأكبر والعدو الأول بالنسبة إلى حزبه وهو حزب العمال الكردستاني.

وفقًا لشبيغل، فهذا يعني أن تركيا تشن هجماتها اليوم بشكل أشرس وأكثر فعالية ضد داعش وأهم خصومها في الوقت عينه، أي الأكراد. وفي ضوء ذلك، يبدو أن تركيا تستخدم التفجير الانتحاري في سروج كذريعة واهية لشن الحرب ضد الأكراد، في مفارقة مثيرة للسخرية، لأنها تستهدف ضحايا التنظيم الإرهابي، وليس التنظيم نفسه.

المقاتلات التركية تقلع ليلًا ونهارًا لمهاجمة مقر حزب العمال الكردستاني الذي يصعب الوصول إليه في جبال قنديل في شمال العراق، فضلًا عن مواقعه الأخرى في تركيا. وقد أطلقت الدبابات التركية أيضًا نيرانها على مقاتلي كتائب حزب العمال الكردستاني في سوريا، الذين كانوا على مقربة من مواقع تنظيم الدولة الإسلامية.

في الوقت الذي تنحدر فيه دول الشرق الأوسط إلى المزيد من العنف والاضطراب، كانت عملية السلام بين تركيا وحزب العمال تشكل بصيص أمل نادرًا. لكن هذا الأمل تحطم مع المجريات الأخيرة، لأن أردوغان يتعامل مع السياسة كما لو أنه يتعامل مع الحرب، فمهاجمة حزب العمال الكردستاني تثير نوعًا من الاضطرابات التي من المرجح أن تمهد الطريق لإجراء انتخابات جديدة في الخريف.

تسهيل صعود
حتى الآن، نفت الحكومة التركية باستمرار التقارير التي تشير إلى أنها تدعم تنظيم الدولة الإسلامية، لكن في المنطقة الرمادية بين الدعم النشط وغضّ الطرف، سهلت حكومة أردوغان "صعود داعش نحو القوة".

منذ صيف عام 2012، عندما بدأت أعداد كبيرة من الجهاديين الأجانب بالتدفق إلى سوريا من تركيا، سمحت السلطات التركية بدخولهم وخروجهم عبر المطارات المحلية في الجنوب، إلى جانب استخدام المعابر الحدودية. وفي وقت لاحق، بدأت أنقرة بتغيير موقفها. في مقابل تقديم الدعم للتحالف الدولي ضد داعش، دعت الحكومة التركية منذ فترة طويلة لإنشاء "منطقة وقائية" في شمال سوريا، والآن وافق الأميركيون على اقتراحها.

تمتد هذه المنطقة نحو 100 كيلومترًا من بلدة أعزاز الحدودية في شمال حلب إلى جرابلس - حوالى 50 كيلومترًا داخل سوريا - في المناطق التي لا تزال تسيطر عليها. لكن الخطة لطرد الجهاديين من المنطقة، بخلاف زيادة الهجمات الجوية، ظلت غامضة، ولا تتحدث إلا عن أن المقاتلين المدعومين من الولايات المتحدة والأتراك سيتقدمون في المنطقة. ولكن عن أي مقاتلين تتحدث وكيف سيتم إنجاز ذلك؟.

وفقًا للهدف الرسمي للتحالف المناهض لداعش، فإن المقصود من المنطقة الواقية هو المساعدة على تعطيل خطوط الإمدادات وطرق التهريب التي تستفيد منها داعش. ولكن للحكومة التركية على ما يبدو هدفًا آخر، وهو منع الأكراد من السيطرة على منطقة متماسكة على طول حدودها.

إجهاض مشروع دولة
وحدات حماية الشعب، أو ما يسمى فرع حزب العمال الكردستاني في سوريا، استولت على مساحة كبيرة من الأراضي بعدما أرغمت داعش على التراجع، الأمر الذي أثار فرح واشنطن وذعر أنقرة. في منتصف تموز/ يونيو، تمكن الأكراد من الاستيلاء على بلدة تل أبيض على الحدود السورية، وأصبحوا على بعد 30 كيلومترًا الرقة (عاصمة الدولة الإسلامية).

هذه الإنجازات ساعدت على خلق ممر بين اثنين من "الكانتونات الكردية الثلاثة" المعزولة سابقًا في شمال سوريا. وإذا تمكن الأكراد، جنبًا إلى جنب مع متمردين آخرين، من دفع داعش بعيدًا عن الحدود تمامًا، فهذا سيعني أن كل "الكانتونات" الكردية ستصبح متصلة ببعضها البعض. أردوغان تنبه إلى هذا الأمر، وبدأ يلوّح بالحرب منذ استيلاء الأكراد على تل أبيض، فقال "لن نسمح تحت أي ظرف من الظروف بإنشاء دولة جديدة في شمال سوريا"، في إشارة إلى قيام دولة كردية.

وأفادت منظمات وسائل الإعلام الموالية للحكومة أن 18.000 جندي تركي يستعدون لغزو المنطقة التي تضم الآن "المنطقة الوقائية". إذا نفذ الجيش التركي هجمات إلى داخل سوريا، "سننظر الى هذه الأعمال على أنها غزو، وسوف ندافع عن أنفسنا"، قال زعيم الذراع السياسي لحزب العمال الكردستاني، صالح مسلم، في حديث لصحيفة شبيغل.

لكنه أضاف: "نحن لا نريد الصراع مع تركيا. إذا أرادت أنقرة أن تطرد داعش، فنستطيع أن نفعل ذلك معًا، بالتعاون مع الجماعات المحلية الأخرى والعرب والتركمان والأكراد. لكن بدلًا من ذلك، حزب العدالة والتنمية يعمد إلى إغلاق الباب علينا، ويحاول إضعاف الأكراد الذين يقاتلون ضد داعش".
&