وهو يسرد إلى "إيلاف" قصة هروبه الطويل من سوريا إلى بريطانيا كان الفتى محمد إقبال عيسى (15 عاما) يجهش بالبكاء مرة حين يروي رحلة العذاب التي استمرت أربعة أشهر برًا وبحرًا وجوًا والتي قاده فيها مهربون من جنسيات مختلفة تقاضوا منه أكثر من عشرة آلاف يورو، ومرة حين يتذكر عائلته في منطقة منبج في ريف مدينة حلب الشمالية.

لندن: التقت "إيلاف" في لندن الصبي محمد اقبال عيسى مع أصدقاء لعائلته احتضنته بعد وصوله إلى لندن وتبني مؤسسات بريطانية لرعاية الطفولة قضيته فرتبت له قبولا في احدى المدارس التي سيلتحق بها الشهر المقبل وحيث يؤكد أن رغبته تميل إلى دراسة المناهج العلمية ثم الالتحاق بكلية الطب في طموح كان دافعه للهروب من سوريا بعد أن عطلت براميل النظام المتفجرة الدراسة في مناطق ريف حلب وخاصة بلدة منبج والقت بالمئات من التلاميذ إلى الشوارع وكان هو احدهم.

وفي حديثه المليء ببراءة الطفولة يروي اقبال رحلة الاربعة أشهر من دون ان يلقي عليها ظلالا من دوافع سياسة او رغبات انتقام لكنه من الواضح أنه كان غير مدرك لخطورة ما اقدم عليه بعد أن أصر والده الاستاذ في جامعة الكرامة السورية على اخراجه من سوريا لاتمام دراسته خارجها وضمان مستقبله بعد ان ضيعت الحرب الاهلية مستقبل ما تبقى من الاطفال السوريين الناجين من الحرب والقتال الذي يعم البلاد منذ أربع سنوات.

محمد اقبال تحدث إلى قراء "إيلاف" بعفوية الطفولة ساردًا تفاصيل دقيقة عن رحلة الهروب التي عبرت به أربع دول برًا وجوًا وبحرًا لم يكن يعرف عنها شيئا او يدرك مدى خطورة دخول اراضيها بشكل غير قانوني قد يقوده إلى سجونها:

لا رغبة في مغادرة سوريا

حين وصل القتال إلى منطقتنا في منبج كنت ادرس في السنة التاسعة ناجحا إلى العاشرة ولان هذا المستوى الدراسي غير متوفر في منطقتنا فقد كان علي الانتقال إلى احدى مدارس حلب لمتابعة دراستي لكن تفجر القتال فيها منعني من ذلك.. فبقيت من دون دراسة في الوقت ذاته الذي كان والدي يصر علي بالهرب من سوريا ومساعدتي ماليا عن طريق اصدقاء له في الخارج بالوصول إلى لندن حيث تقطنها عائلة من اصدقائنا.. لكني كنت اتهرب من طلبه لأني لم أرغب أبدًا في مغادرة بلدي.. غير اني وبعد أشهر اصبت بالضجر بدون دراسة فوافقت بعد عام من الالحاح على طلب والدي الذي رتب لي مع صديق له كان يعد للهروب ايضا عملية الوصول إلى تركيا بعد أن أعطاني خمسة الاف يورو.. حيث غادرت مع صديق والدي وعشرة اشخاص اخرين منبج في 29 آذار (مارس) الماضي إلى منطقة الحدود مع تركيا بالسيارة.. ومنها سرنا على الاقدام ليلا لمدة خمس ساعات عبرنا خلالها إلى الاراضي التركية.

الدخول إلى تركيا

دخلنا إلى منطقة "غازي عنتاب" التركية ليلا ثم انتقلنا على التو إلى مدينة اسطنبول بالسيارات.. وفورا ذهبنا إلى ساحة "آق سراي" فيها والتي تعتبر مركز تهريب اللاجئين السوريين إلى خارج تركيا.. وهناك التقينا مع العشرات من السوريين الذين كانوا يجرون مفاوضات مع العديد من المهربين حول ترتيب عمليات تهريبهم إلى دول اوروبية. وقد بتنا ليلتنا في احد الفنادق القريبة من الساحة وفي صباح اليوم التالي تعرف صديق والدي وكنت بصحبته إلى احد المهربين الاتراك فاتفقنا معه على تهريبنا إلى اليونان عن طريق البحر وصولا إلى احدى جزرها في البحر المتوسط.

وقد دفعت إلى المهرب التركي 4 الاف و500 يورو هي معظم المبلغ الذي اعطاني اياه والدي.. وبعد ثلاثة ايام اخذنا المهرب بالسيارة إلى مدينة أزمر.. ومنها إلى بلدة بودروم.. وقد كنت مرعوبا من عملية الهروب عبر البحر.. وبقينا في احد فنادق هذه البلدة لمدة يومين.. ثم اخذنا المهرب مجددا ليلا بالسيارة وبعد حوالى نصف ساعة وصلنا إلى منطقة ساحلية لا اعرف اسمها.. وكان ينتظرنا شخص اخر ومعه زورق مطاطي صغير اشتركنا جميعا في نفخه وكنا حوالى 15 شخصا انحشرنا فيه.. وحين دخولنا البحر كان القارب يسير ولم نكن نرى سوى ماء البحر حولنا وغيوم السماء فوقنا بينما كان المهرب يسير بنا عن طريق استخدام البوصلة.. وقد كنت مرعوبا واخذت ابكي لكن الكبار معي شجعوني رغم ان ذلك لم يخفف عني لكني كنت مرغما فقد انسد طريق العودة بوجهي (وهنا اجهش بالبكاء حين تذكر تلك الرحلة المرعبة التي يبدو انها حفرت في ذاكرته مشهدا مخيفا لن ينساه).. وبعد رحلة استمرت حوالي ثلاث ساعات وصلنا إلى مسافة 50 مترا من شاطئ جزيرة كوس اليونانية في البحر المتوسط.. وهناك انزلنا المهرب وابلغنا بأن علينا العوم لهذه الامتار وصولا إلى الشاطئ..

الوصول إلى الاراضي اليونانية

ثم دخلنا أرض الجزيرة وكان فيها عدة مخيمات للاجئين سوريين.. ثم مرت دورية للشرطة شاهدتنا ونحن نسير فأخذتنا إلى احد تلك المخيمات.. فبقيت هناك عدة ايام حيث انفصلت عن صديق والدي والمجموعة التي هربت معها من سوريا إلى تركيا.. حتى حصلت على ورقة من الشرطة كوني طفلا بحسب القوانين الاوروبية بالمغادرة إلى آثينا مع عدد من الاشخاص السوريين في الجزيرة.. فاستقلينا باخرة من الجزيرة إلى مدينة سالونيك.. ومنها برا إلى آثينا.

فبقيت في آحد فنادق آثينا لعشرة آيام بعد&أن اتصلت خلالها بصديق لوالدي مقيم فيها فحضر للاهتمام بي.. وكان والدي اوصل له مبلغ 5 الاف يورو لتدبير جواز سفر مزور لي.. وفعلا قام هذا الرجل باللازم واستحصل لي عن طريق مهربين اخرين على جواز سفر بلغاري مزور باسم اخر وقطع لي تذكرة سفر إلى باريس.. ثم اخذني إلى مطار آثينا وهناك طلب من احدى المسافرات اليونانيات بمساعدتي في المطار وارشادي إلى كيفية انجاز اجراءات مغادرتي على اني ابنه.. حتى حلت بنا الطائرة في احد المطارات الفرنسية في باريس والذي لا اعرف اسمه.

ودخول الاراضي الفرنسية جوا

وفي المطار الباريسي بقيت حائرا وخائفا ولا اعرف من اين اخرج حتى سألت عن ذلك رجلا يبدو انه افريقي فارشدني إلى طريق الخروج واخذ القطار إلى وسط باريس.. وفعلا وجدت فندقا صغيرا هناك ولم يكن قد تبقى من المبلغ الذي زودني به والدي سوى 500 يورو... بقيت يومين هناك لا اعرف احدا ولا اكلم شخصا.. حتى خطرت لي فكرة بالدخول على الانترنت لمعرفة كيفية الوصول إلى ميناء كالية الفرنسي على البحر المتوسط للهروب عبره إلى بريطانيا بواسطة احدى الشاحنات.. وكان صديق والدي ابلغني باسمه حين كنت في آثينا.. وفعلا سألت عن كيفية الوصول إلى هذا الميناء فارشدوني في الفندق إلى محطة قطارات ومنها استقل القطار إلى كاليه.. وهذا ما حصل فوصلت اليها وحين خرجت من المحطة لم اكن اعرف إلى اين اتجه.. وصادف مرور اشخاص كانوا يتحدثون العربية فعرفت فورا انهم سوريون.. فشرحت لهم وضعي واخذوني إلى منطقة فيها مئات السوريين الذين يعيشون في خيام.. فبقيت معهم وكانت هناك منظمات اسلامية فرنسية تتفقدنا في الاسبوع مرة او اثنتين وتوزع علينا المأكل والملبس والدواء وتسأل عن اوضاعنا.. وقد بقيت هناك حوالى الشهرين ونصف الشهر.

وفي كاليه كان السوريون جميعهم يتحدثون عن كيفية الهروب إلى بريطانيا نظرا لانها تمنح امتيازات بالسكن والمعيشة للاجئين.. لكن الهروب اليها صعب جدا نظرا لشدة الحراسة في الجانب البريطاني من البواخر التي تغادر ميناء كالية محملة بالشاحنات التي كان اللاجئون يبذلون محاولات مضنية ليستقلوا بعضها خفية والعبور على ظهرها إلى الاراضي البريطانية.

محاولات فاشلة للهروب

وكان العديد من السوريون يحاولون الهرب عن هذا الطريق لكنهم في كل مرة كانوا يمنون بالفشل اثر اكتشافهم من قبل الشرطة.. وقد صحبتهم عدة مرات في بعض هذه المحاولات ولم انجح.. حيث كنا ندخل الشاحنة كل اربعة او خمسة اشخاص خفية حين يذهب السائق لقضاء حاجاته او تناول الطعام حيث نمزق جزءا صغيرا من غطاء الشحنة التي تحملها ونختبئ تحتها.. لكن حين نصل إلى مسافة 20 مترا من الباخرة تكتشفنا الشرطة البريطانية المجهزة بأحدث الالات الالكترونية لاكتشاف الاجسام الغريبة على ظهر الشاحنات. ثم حاولنا العبور عن طريق موانئ اخرى على بعد ساعات من كاليه ولم ننجح ايضا حيث كانت الشرطة تتركنا حين اكتشافنا.

وفي احدى المرات نجحتُ بالوصول إلى احدى البواخر وبقيت في احد الكافتريات التي تحتويها لفترة ساعة لكن اصابني الرعب فغادرتها خائفا فعدت إلى المخيم حيث سمعت تقريعا من السوريين في المخيم لاني عدت بعد نجاحي في الوصول إلى الباخرة.

وقبيل رمضان الماضي بأيام قليلة نصحني رجل سوري كبير السن في المخيم بأن احاول لوحدي الهروب عن طريق احدى الشاحنات لصغر سني حيث ان الشرطة لن تشك في امري.. وابلغني انه حتى في حال اكتشفتني الشرطة فانها لن تتخذ اي اجراء ضدي نظرا لصغر سني. وفعلا صحيتُ صباح اليوم الثاني مبكرا واديت صلاة الصبح وذهبت لوحدي.. وحين وصلت إلى الميناء اجتزت ثلاثة حواجز تفتيش باستغفال حراسها ويبدو انهم لم يشكوا فعلا لصغر سني ولبشرتي البيضاء فاصبحت داخل الميناء فجلست في كافتيريا وكانت الشاحنات تتوالى الدخول إلى الباخرة بعد تفتيشها عن طريق الكلاب البوليسية فأخذت اراقب حركة الشاحنات حتى تسلقت على احداها بغفلة من الجميع.. وكنت احمل كالعادة شفرة مثلما يفعل جميع الساعين للهروب على ظهر الشاحنات حيث قمت بتمزيقه واختبأت تحته وكان العطش قد اخذ مني ولحسن الحظ وجدت الشاحنة تحمل صناديق ماء طبيعي فرنسي مشحون إلى بريطانيا فأخذت اشرب منه.

الوصول إلى الاراضي البريطانية

وبعد ساعة وصلت الشاحنة إلى ميناء دوفر البريطاني وتوقفت لحوالى اربع ساعات وانا مختبئ فيها.. لم أكن اعرف اين اذهب لكن الذي ادركته اني وصلت إلى الاراضي البريطانية.. ثم تحركت الشاحنة وسارت حوالى 5 ساعات حتى وصلت مدخل مدينة لندن حيث توقف السائق قرب احد الاسواق ونزل ليأكل فتسللت من الشاحنة وذهبت ايضا حيث اكلت وغسلت وجهي ويدي.. ثم خرجت واستقليت سيارة اجرة واستطعت ان افهم سائقها بكلمات بالانكليزية كنت تعلمتها في المدرسة باني اريد الوصول إلى وسط لندن وفعلا اخذني إلى هناك بعد ان دفعت له حوالى مائة يوريو.. ومن هناك اتصلت هاتفيا بعائلة صديق والدي فوصفت لهم المكان الذي انا فيه فحضروا واصطحبوني إلى منزلهم وكان ذلك في 17 حزيران (يونيو) الماضي لتنهي رحلة هروبي من سوريا بهذا الشكل.

وبعد ايام اتصل رب العائلة بمحامي وكلفه بمتابعة قضية اقامتي ولجوئي.. ثم ذهبنا إلى قسم التربية في بلدية المنطقة وتم تسجيلي في احدى المدارس التي سألتحق بها بداية الشهر المقبل وابلغوني انهم سيدخلوني في دورة مكثفة لتعلم اللغة الانكليزية.

وفي ختام حديثه سألت محمد اقبال عن مشاعره وهو بعيد عن والديه واخوته فأجهش في البكاء.. وسألني اذا كان يستطيع طلبهم للم الشمل ولما أخبرته ان الامر ربما يحتاج لسنوات وبعد ان يكون هو حصل على الاقامة الدائمة لاحظت علامات الحزن العميق على ملامح وجهه.. لكني شجعته وأكدت له ان جميع الذين يعرفونه سيساعدونه على اجتياز هذه المرحلة الصعبة من حياته.. وبدوره أكد لي انه سيبذل كل جهده للنجاح بمراتب عليا في الدراسة وتحقيق رغبة والده والالتحاق بكلية الطب.