يؤكد الفيزيائي الألماني، فرانك فيلتشك، إن العديد من علماء الفيزياء كان لديهم جميعا الإلهام القائل بأنك إذا كنت تريد أن تكتشف ما هو الله عليك أن تنظر إلى عمله. &


لندن: يقول العالم الفيزيائي الألماني، فرانك فيلتشك، الفائز بجائزة نوبل إن العالم عمل فني يتداخل فيه الجمال مع الفيزياء، وأن العالم مقبل على اكتشاف أكبر من اكتشاف جسيم هيغز. &
&
وأكد فيلتشك انه يقرأ كتباً عن تاريخ الفن، ويدرس صورها، وأعد برنامجاً طموحاً للقراءة خلال الصيف، مشيرا إلى أن رواية الخيال العلمي التي يقرأها الآن تزخر بالرؤى الملهِمة. كما أنه يقضي وقتاً لا يُستهان به في العزف على البيانو. &وبذلك يكون العالم فيلتشك تلميذا نجيباً لغوتة الذي قال إن على المرء ان يسمع شيئاً من الموسيقى ويقرأ شيئاً من الشعر وينظر الى صورة جميلة كل يوم لكي لا تنال هموم الدنيا من احساسه بالجمال. &
&
ويكتب فيلتشاك في عمله الجديد "سؤال جميل" ان الفيزياء ايضا تخاطب احساسنا بالجمال. وعما إذا كان الفن يلهمه حين يدرس قوانين الفيزياء اوضح فيلتشك ان من الصعب القول إن الفن يلهم عالم الفيزياء بصورة مباشرة، ولكنه على اقتناع بأن الفن والعلم يحفزان مناطق واحدة من الدماغ. واضاف فيلتشك في حديث مع مجلة شبيغل أن الدماغ يكافئ الإنسان على تفاعله مع الأشياء الجميلة "وبهذه الطريقة تريد عملية النشوء والارتقاء ان تشجعنا على ان نعمل ما هو لصالحنا. &ويصح هذا على أشياء كثيرة احدها فهم الطريقة التي تتصرف بها الأشياء".&
&
واضاف فيلتشك "أننا نحاول أن نفهم معنى الأشياء، وحين ننجح ننظر إلى ذلك على انه جمال". &
&
وأكد فيلتشك جمال الفيزياء الذي يتبدى، على سبيل المثال، في تطوير معادلات للآلات الموسيقية تكاد تكون مطابقة للمعادلات التي تحكم عمل الذرة. وقال إن الأصوات تحدث في البيانو أو الكمان باهتزاز الواح أو أوتار. وفي الذرة تكون الأشياء التي تتذبذب وتهتز أكثر تجريدا وهي ترتبط بألوان الطيف الذي ينبعث من ذرات معينة أو تمتصه ذرات معينة.&
&
ولاحظ فيلتشك أن هذه هي الفكرة نفسها التي بحث عنها العالم الاغريقي فيثاغورس عندما ربط حركة الكواكب بالموسيقى الكونية التي تقوم فكرتها على أن التناسب والاتساق في حركة الأجرام السماوية شكل من اشكال الموسيقى. &"فالالكترونات تدور حول نواة الذرة كما تدور الكواكب حول الشمس ويمكن النظر الى الذرات على انها آلات موسيقية تعزف موسيقى كونية حقيقية وكاملة". &
&
واعتبر العالم الفيزيائي أن هذا التماثل بين الموسيقى والذرات وحركة الكواكب إذا كان صدفة فهي "صدفة رائعة". &
&
وقال فيلتشك إن للطبيعة أسلوبها مثلما أن لكل فنان أسلوبه المتميز. واضاف "ان العالم قطعة فنية أُنتجت باسلوب خاص للغاية" مشددا على دور التناظر المتميز في هذا العمل الفني. &
&
وأوضح فيلتشك ان مبدأ التناظر كما يُستخدم في الفيزياء والرياضيات يمكن أن يُوصف بأنه "تغيير من دون تغيير". وفي حين أن هذا قد يبدو ضبابياً ومبهماً فانه في الحقيقة يعني شيئاً بسيطاً، كما في حالة الدائرة وما يجعلها شكلا متناظرا بحيث يمكن تحريكها حول مركزها وتبقى دائرة.&
&
وفي حالة المثلث متساوي الأضلاع فان عمليات تدوير صغيرة ستغيره، ولكن تدويره بزاوية 120 درجة سيعيده إلى شكله الأول. وبذلك يكون للمثلث متساوي الأضلاع تناظر، ولكنه اقل من تناظر الدائرة. ويمكن تعميم مفهوم التناظر بوصفه "تغييرا من دون تغيير" على قوانين الفيزياء أو المعادلات التي تعبر عنها. &
&
وأكد فيلتشك أن هذا يساعد كثيرًا في فهم العالم. فان من الفرضيات الأساسية للنظرية النسبية مثلا أنك إذا نظرت الى العالم من شباك قطار منطلق قد تبدو الأشياء مختلفة، ولكن القوانين الطبيعية نفسها تبقى سارية. وفي الديناميكا الكهربائية يمكن احداث تغييرات في المجالين الكهربائي والمغناطيسي مع بقاء المعادلات نفسها صحيحة. &ويمكن البحث عن المعادلات الكاملة التي تبقى نتائجها ثابتة بصرف النظر عن التغييرات. وتكون هذه بمثابة الدوائر بين المعادلات ثم يتضح انها هي التي تحكم العالم. &
&
وتناول الفيزيائي فيلتشك نظرة كثيرين إلى أعمال التعبيريين والموسيقى ذات النغمات الاثنتي عشرة على أنها قبيحة، والسجال الذي كثيرا ما يحتدم حول الفن الذي يستحق ان يُسمى فنا "جميلا". &
&
وفي هذا الشأن قال إن الاتفاق في العلم يتحقق في أحيان كثيرة لاحقاً، كما في الفنون. "ومن الأمثلة على ذلك فيزياء الكم التي تصارع معها العديد من مؤسسيها مثل بلانك وآينشتاين وشرودنغر حتى مماتهم. &وكذلك مفهوم الجمال الذي يتعين تأكيده بحوار واسع مع الطبيعة الى ان ينال ما يستحقه من التقدير". &
&
وقال فيلتشك إن فكرة التناظر ترتبط بالفيزياء الحديثة في القرن العشرين، ولكن أفلاطون تنبأ بها في زمنه. "إذ قدم منظومة تتكون فيها اربعة عناصر هي التراب والهواء والنار والهواء من لبنات لها شكل مجسمات أفلاطونية متناظرة تناظرا أمثل. وتنبأت تلك الرؤية اللماحة عموماً بالفكرة الحديثة القائلة ان الطبيعة تستخدم التناظر لبناء العالم". &
&
واعترف فيلتشك بأنه أدرك جمال قوانين الطبيعة مؤخرا ولم يبدأ بالتفكير في هذه الأشياء إلا قبل خمس سنوات عندما طُلب منه ان يلقي محاضرة عن جمال الكم. &ولكن الجمال كان يوجِّه عمله قبل ذلك دون ان يدري. وقال فيلتشك إنه كان دائما يبحث عن ابسط الأوصاف وأجمالها واكثرها تناظرا دون ان يركز عليها تحديدا. &
&
وكان فيلتشك فاز بجائزة نوبل عن عمل اشتهر به عام 1972 حين كان في الحادية أو الثانية والعشرين من العمر. وقال إن على المرء لكي يفهم ما فعله الفيزيائيون أن يعرف أن هناك أربع قوى اساسية في الطبيعة هي قوة الجاذبية والقوة الكهرومغناطيسية، القوتان الكلاسيكيتان، ثم انتبه الفيزيائيون إلى قوتين أُخريين حين بدأوا دراسة نواة الذرة في القرن العشرين. وهما القوة الكبرى التي تربط بين النويات والقوة الصغرى التي ترتبط بعمليات التحلل المختلفة.&
&
وتوصل فيلتشك مع زميله ديفيد غروس الى وضع معادلات القوة الكبرى من خلال البحث بحدسهما "عن معادلات جميلة ومتناظرة بصفة خاصة"، على حد تعبيره. &
&
وأكد فيلتشك انه كان يعرف أهمية ما توصل اليه قائلا لمجلة شبيغل إنه ابلغ زميله غروس "إذا اسفرت التجارب عن النتائج التي نتوقعها فاننا سنفوز بجائزة نوبل". &وهذا ما حدث.&
&
قال العالم هاينريش هيرتز ذات مرة إن معادلات الكهرومغناطيسية معادلات ذكية جدا، بل أذكى حتى من الأشخاص الذين وضعوها. &واتفق معه فيلتشك قائلا إن هذا صحيح بكل تأكيد. &"فنحن بدأنا بفرضيات قليلة عن الجمال والتناظر والثبات، وكان المفروض أن تتبدى منها كل ظواهر الفيزياء النووية. وهكذا تحصل على أكثر بكثير مما بذلته من مجهود". &
&
وأصبحت النظرية التي وضعها فيلتشك اليوم جزءا مما يُسمى "النموذج المعياري" الذي يصف عالمنا بطريقة دقيقة ساحرة. ولكن فيلتشك قال إن "النموذج المعياري" يعاني نواقص جمالية وان كلمة الطبيعة الأخيرة يجب ان تكون أجمل من ذلك. &
&
وأوضح فيلتشك ان للنموذج المعياري نهايات سائبة ففيه تدخل اربع قوى مختلفة في حين الأفضل أن يكون هناك وصف موحد لجميع القوى. &كما ان هناك مواد مختلفة والأفضل اختزالها الى مادة واحدة. والمثير في وضع الفيزياء اليوم ان هناك مقترحات لمعالجة العديد من هذه الثغرات. &
&
واضاف فيلتشك ان فحوى هذه المقترحات يتمثل في أن المبادئ التي يستخدمها العلماء لصوغ نظرية الكهرومغناطيسية الحديثة مبادئ متشابهة. وهي تتوسل أن يجري توحيدها في نظرية عامة واحدة، إن جاز التعبير.&
&
ويمكن تحقيق ذلك رياضياً بسهولة، ولكن القوة الداخلية لجميع القوى يجب ان تكون متساوية. وهي ليست متساوية حين تُرصد. "لذا بدا في البداية اننا دخلنا طريقا مسدودا ثم أدركنا ان علينا ان نضيف مؤثرات الكم في المسافات متناهية الصغر. وحين تؤخذ هذه في الحسبان تصبح القوى الثلاث متشابهة أكثر فأكثر كما تتوقع النظرية الموحدة". &
&
وشدد فيلتشك على أن القوى الثلاث تكاد تصبح واحدة ولكنها ليست كذلك. &ولن يحدث ذلك إلا بفرضية تناظرية أخرى تُسمى "التناظر الفائق". &وهي، &كالتناظرات الأخرى، تقوم على مبدأ "التغيير دون تغيير". &وبهذه الطريقة وحدها يمكن تبادل الجسيمات والقوى دون تغيير القوانين. ولفت فيلتشك مجددًا إلى أنه "في المسافات متناهية الصغر تصبح قوة القوى الثلاث كلها قوة واحدة تماما". &
&
وقال فيلتشك إنه لحسم هذا الموضوع يتعين العثور على الجسيمات الاضافية التي يتبنأ بها التناظر الفائق. وهذا يمكن أن يحدث الأسبوع المقبل في المنظمة الأوروبية للأبحاث النووية "سيرن"، ولكن الأرجح أن يحدث في غضون عام أو عامين أو ربما خمسة أعوام، بحسب فيلتشك. &واضاف "بحسب نظريتنا فان هذه الجسيمات لا يمكن أن تكون ثقيلة جدا، الأمر الذي يعني ان هناك احتمالا كبيرا ان يعثر عليها معجِّل سيرن". &
&
وكشف فيلتشك انه راهن بمئة قطعة تشكولاتة من نقود نوبل على اكتشاف جسيمات التناظر الفائق بحلول عام 2020. &وأوضح ان قطع نوبل المصنوعة من الشكولاتة والمغطاة بغلاف ذهبي تُوزع خلال مراسم تقديم الجائزة في ستوكهولم. &وأضاف "ان بامكانك ان تغترف منها وتهربها" خارج القاعة. &
&
وقال فيلتشك انه يعتبر اكتشاف جسيمات التناظر الفائق حدث أكبر من اكتشاف جسيم هيغز واصفاً جسيم هيغز بأنه "شيء عظيم ولكنه، بمعنى ما، مجرد وضع النقاط على الحروف في نظرية النموذج المعياري في حين ان اكتشاف جسيمات التناظر الفائق سيكون خطوة عميقة أبعد منذ لك". &
&
وعن محاولة العلماء اكتناه اسرار الكون، اعلن فيلتشك في ختام حديثه "لا تنسوا ان العديد من أبطالي مثل غاليلو وماكسويل ونيوتن وبقدر أقل من الصراحة آينشتاين، كانوا يعتقدون بأن ما يفعلونه هو ان يكتشفوا ما هو الله. &وكان لديهم جميعا هذا الالهام القائل بانك إذا كنت تريد ان تكتشف ما هو الله عليك ان تنظر الى عمله. &وأنا أُريد ان اكتشف ما هو الواقع ثم سموه ما تشاؤون". &