بعد مرور 20 عامًا على صدور رواية "خبر إختطاف"، تتذكر الصحافية لوث أنخيلا أرتياغا، التي تعاونت مع غابرييل غارسيا ماركيز في التحقيقات التي تضمنها الكتاب، تلك التجربة الغنية التي عاشتها برفقته.&
&
إيلاف من سيدني: كانداريّو أريزميندي، مدير عام 6 أي إم، الراديوالأكثر شهرة في كولومبيا، قد إختار فتاة من بين الطاقم الذي كان يعمل لديه، موجّهًا كلامه إليها: "أنا صديق غابو، وهو في صدد إنجاز عمل خاص جدًا، لست أدري ما هو، لكنه طلب مني أن أعثر له على شخص دقيق، متحفظ، ومتميّز. وقد إخترتك أنت. غدًا &ستسافرين إلى كارتاخينا".

- هكذا، ومن دون سابق إنذار، دخل السيد حياتي.

تتذكر أرتياغا أنه في ظهيرة يوم خريفي في بوغوتا، وكانت حينها تبلغ 51 عامًا، عندما وصلت إلى مدينة البحر الكاريبي الكولومبية، أدارت قرص التلفون على الرقم الذي كانت قد إستلمته من أريزميندي.&

لاحقًا، توجّهت إلى منزل "ذو لون أبيض على الإطلاق"، والخاص بغابرييل غارسيّا ماركيز. في ذلك اليوم إلتقت بشخص "في غاية الجدية، ومحلّل، ومختلف تمامًا عن الصورة التي رسمتها عنه مسبقًا".&

طلب الكاتب الحاصل على جائزة نوبل، كي تتبعه، حيث جلسا مباشرة على مكتب العمل: "إنظري، هذا هو ما أعمل فيه"، قال ذلك قبل أن يشرع في قراءة الفصل الأول من عمله المقبل (خبر إختطاف)، والذي يصادف هذا العام مرور 20 سنة على صدوره. وفي العامين اللاحقين على ذلك اللقاء، أصبحت أرتياغا ظلّ غابو أثناء عودته للصحافة.
&

الصحافية الكولومبية لوث أنخيلا أرتياغا


إقترحت ماروخا باجون وزوجها ألبرتو فيلياميثار على غارسيّا ماركيز في عام 1993 أن يؤلف كتابًا عن تجربتها خلال إختطافها لمدة ستة أشهر قبل عامين على ذلك.&

وكان الروائي قد بلغ حينها مرحلة متقدمة من كتابة المسودة الأولى، كما يروي في مقدمة الرواية، عندما أدرك عدم جدوى فصل عملية الإختطاف تلك عن العمليات التسع الأخرى التي حدثت في ذلك الوقت في كولومبيا، بسبب تفشي تجارة المخدرات، وهيمنة بابلو إسكوبار، شخصية الرواية الضمنية، عليها.&

من هنا إكتسب دور أرتياغا، الحذرة جدًا في حديثها عن الكتاب طوال العقدين الماضيين، أهمية قصوى. حيث تتذكر الصحافية قائلةً "في ذلك اليوم في منزله، حدّثني عن تفاصيل، لا نهاية لها، عليّ أن أتأكد من مدى صحتها. بالنسبة إليه، كان جميلًا أن يفتح جميع الأبطال قلوبهم ليتحدثوا عن شئ فظيع".&

لكن ذلك لم يكن كافيًا. لأن غابو كان يريد المزيد، "كان بحاجة إلى تكييف رواياتهم، والتأكد من كل التفاصيل، ومعرفة مدى برودة الطقس، والإشارات الضوئية الموجودة، وأعيرة الرصاص التي كانوا يطلقونها. كان يرغب في معرفة كل شيء على الإطلاق. تلك كانت مهمتي للعامين المقبلين".

تمحيص التفاصيل
وكما تتذكر ماروخا باجون، أنه وبعد إجراء العديد من المقابلات، كان غابو يذهب ويجيء لتمحيص تفاصيل الشخصيات، وابنة عمه وسكرتيرته الخاصة، كان عليهما نقل ساعات التسجيل.&

بعد ذلك، كان يجتمع بأرتياغا: "لقاء السيد كان يعني مهمة قد تستغرق مدة لا تقل عن شهرين". كان كلاهما يستعرض الملاحظات المتعلقة بمحتوى التسجيل، ومناقشة السيناريوهات. التفاصيل... دائمًا التفاصيل. هناك كانت أرتياغا قد أدركت عظمة الحاصل على جائزة نوبل. "لم تكن هناك أية فسحة للشك، وإذا وجدت، كنا نستمر في التحقق منها. وإذا لم نكن نتوصل إلى التأكد منها، كنا نستغني عنها".

كانت دقة غابو لا حدود لها. وتستمر أرتياغا في سرد ذكرياتها: "أردت الذهاب إلى الكوخ الذي وضعوا فيه ماروخا وبيتريس، أردت أن أدخل الحمام... أو في العربة التي نقلوا فيها إلى المكان الذي إلتقيا فيه مع مارينا. ومثلما يذكر الكتاب، قيل لهما إن بإمكانهما التنفس والنظر قليلًا. كان يريد أن يعرف إلى أي مدى. بحثت طوال سنتين عن العربة، لكن الأمر كان مستحيلًا".

خارج الاستخدام
على الرغم من أنها تضحك الآن، فقد كانت المهمة مضنية، بسبب الفحص الدقيق الذي كانت تخضع له تلك المقابلات. وتعرض أرتياغا عينة من الأوراق التي لا تزال تحتفظ بها: قصاصات من الصحف، والمجلات، والوثائق، وحقوق الإلتماس، والتي معظمها لم يتم إستخدامه. إذ كان بعضه مجرد فضول، كما هي الحال مع تلخيص نائب الرئيس الكولومبي السابق فرانسيسكو سانتوس كالديرون للروايات التي كان يطالعها أثناء إحتجازه.

وطوال أكثر من عامين، لم يكن بمستطاع الشابة أرتياغا أن تقول شيئًا لزملائها في المهنة، الذين كانوا يبحثون عن بعض التفاصيل، مثلما هو معروف عن الصحافي، الذي لا يهدأ له بال، حتى يحصل على أجوبته التي تبدو بريئة في أكثر الأحيان.

كان وقت بدء جلسات العمل وجهًا لوجه مع غابو مثبتًا، لكن لا أحد كان يعلم متى ستنتهي هذه الجلسات. كانت أرتياغا تترك كل شيء&جانبًا، كما حدث في يوم أحد ما، حيث أمضت ساعات طوال بانتظار رنين الهاتف، بعدما كانت هيأت الغداء لأطفالها، تقول الصحافية: "إتصل بي من المكسيك، وكان قد تحدث إلى بياتريس، حيث روى لها تفاصيل إهداء أحد المختطفين عطرًا له، وبأنه قال له (حبي). كان قد إشتد به الغضب تمامًا. عاش بعمق ما كان يسمعه من شخصياته، وتفاعل معها، حتى إنتابه الإحساس نفسه من الغضب والإحباط".

درس صحافي
بعد مرور نحو عقدين من الزمن، قررت أرتياغا، أخيرًا، أن تنفض الغبار عن الوثائق الهائلة التي كانت تحتفظ بها منذ ذلك الحين. وقد تحدثت عنها في الأسبوع الفائت في ميديلين، خلال حفل توزيع الجوائز الذي تنظمه مؤسسة غابرييل غارسيّا ماركيز للصحافة الإيبروأميركية الجديدة، التي كان أنشأها الكاتب.&

وكانت هذه المناسبة بمثابة الإحتفال بمناسبة مرور 20 عامًا على صدور الرواية التي قرأها الأديب الكولومبي، للمرة الأولى، أمام مجموعة من طلبة (مدرسة صحيفة الباييس) في مدريد. كانت تلك السنوات بالنسبة إلى أرتياغا درسًا في الصحافة لن تنساه أبدًا، وكذلك أحد اللقاءات الأخيرة التي جمعها بغابو.&

إذ وبعد صدور كتاب (خبر إختطاف)، وعندما علم داريّو أريزميندي أن الروائي الكولومبي كان على وشك القيام برحلة، طلب من أرتياغا التوجه إلى المطار، وإجراء مقابلة معه. وعندما وصلت أرتياغا إلى المطار، وألقت التحية بمودة على غابو، أخبرته بما طلب منها داريّو:
- عفوًا، أنا سوف لن أجيب عن أسئلتك، قالها ضاحكًا.
- سيدي، على الأقل سوف لن يكون هناك من يلومني على المحاولة.
- كلا، كنت سألومك إن كنت لم تفعلي ذلك.