إيلاف من دبي:&عقدت صحيفة "الاتحاد" الاماراتية، الخميس، منتداها السنوي الحادي عشر، بعنوان "العرب بعد 100 عام على سايكس - بيكو"، في مناقشات سلطت الضوء على راهن المنطقة العربية ومدى تشابه ما يحيقها من المخاطر مع ما واجهته في العقد الثاني من القرن الماضي. وقد انعقد هذا المنتدى ليجيب المشاركون فيه على جملة من الأسئلة المحورية التي طرحها منظموه: إذا كان مرور 100 عام على اتفاق سايكس - بيكو يذكّرنا بالأطماع الخارجية والتنافس الدولي على النفوذ داخل المنطقة العربية، فهل يختلف المشهد الراهن كثيرًا عما كان عليه الحال وقت توقيع الاتفاق في عام 1916؟ إلى أي مدى انكشفت الأجندة الخارجية تجاه التعامل مع الأزمة السورية والاضطراب العراقي، وما يتخللهما من ظهور داعش واستفحال النفوذ الإيراني في المنطقة؟ أما زالت المنطقة رهينة الاستقطابات الخارجية وتدور في فلكها بعيدًا عن مصالح عربية حقيقية في الاستقرار والتكامل؟ وهل المنطقة قابلة للتقسيم، أم نضجت شعوبها إلى درجة تجعلها عصيّة على التفتيت؟ كيف يستغل الخارج أقليات الداخل لتمزيق الأوطان؟

كوارث الاستعمار

في محاولة للإجابة عن هذه التساؤلات المصيرية، يقول رضوان السيد، أستاذ الدراسات الإسلامية في الجامعة اللبنانية، إن مرور 100 عام على سايكس - بيكو أمر مهيب يدعو للتذكر والاعتبار، ومراجعة الجهد العربي المبذول ومآلاته خلال قرنٍ من الزمان، لكنه يرى أن المقارنة بالأوضاع الحالية غير واردة وغير ممكنة لاختلاف الظروف والسياقات. ففي عام 1916، ما كانت هناك دولةٌ عربية قائمة غير مصر، "وكانت واقعةً تحت الاحتلال البريطاني، أما باقي منطقة المشرق، فبسقوط الدولة العثمانية، وقع تحت الاحتلالات البريطانية والفرنسية والإيطالية. وفي بلاد المغرب كان الفرنسيون والإسبان موجودين. وفي شبه الجزيرة العربية كانت الحماية البريطانية منتشرة، باستثناء مناطق سيطرة عبد العزيز آل سعود".

أضاف السيد: "الكوارث توالت نتيجة التقاسم الاستعماري، وأبرزها كارثتان: وعد بلفور في 1917، وتقسيم منطقة الهلال الخصيب وجوارها إلى دويلات عليها انتدابات في 1920. أما في عام 2000، فكانت هناك 22 دولة عربية، وجامعة عربية ومجلس تعاون خليجي. وبلغ عدد العرب 350 مليونًا. ولكن كانت هناك دولتان محاصرتان هما ليبيا والعراق، كما كانت هناك هشاشة في البنى، بسبب طول عمر الأنظمة العسكرية والأمنية. لكنّ التهديد بالسقوط في كل مكان ما كان واردًا لولا غزو الولايات المتحدة العراق في عام 2003. ثم تغيّرت سياسات الولايات المتحدة بعد بوش الإبن من الهجوم الاستراتيجي إلى الانسحاب الاستراتيجي، فسقط العراق بيد إيران، وكذلك لبنان. وعندما أراد الشعب السوري التغيير، هجمت إيران وبعدها روسيا على سوريا. وفي مواجهة الهجمات أو بذريعتها اندلع التطرف والإرهاب، فصارت البلدان العربية ملاعب ومناطق نفوذ للدول الإقليمية والكبرى. أيام سايكس – بيكو، كنا نبحث عن الدولة ونناضل من أجلها. والحصيلة المتواضعة لجهود وتضحيات مئة عام، تضيع الآن، تحت وطأة الهجمة الطائفية الإيرانية، ومحاولات موسكو لاستعادة سمات القوة العظمى!".

رضوان السيد، أستاذ الدراسات الإسلامية في الجامعة اللبنانية

&

مناعة عربية ضد الانقسام

وبحسب السيد، الاندفاع الإيراني إلى العراق وسوريا جلب الاندفاع التركي. وإلى جانب الإيرانيين لدينا داعش، وهي فسادٌ في الدين والدولة معًا. وهو يرى أن النظام الدولي لا يحل المشكلات بل يساعد فحسب، فإذا انقسم تعطّل تمامًا، "لذلك هناك حاجة لنهوض عربي قوامُهُ دول الخليج، وتوسيع الدائرة الاستراتيجية هذه. وأيًا يكن التلكؤ المصري فينبغي استيعابه، بحيث نتوجه إلى أميركا وروسيا وأوروبا بلغةٍ واحدةٍ وصفٍ واحد."

أضاف: "نحن نعاني بشدة الاستقطابات الخارجية، والاستعصاء على العمل العربي المشترك. الاستقطابات الخارجية واضحة وأهمها التدخل الإيراني والتدخل التركي. وحضر الروس والأميركيون بأكثر مما كان عليه الأمر قبل خمس سنوات. والمشكلة في التدخل الإيراني أنه يخرّب طائفيًا، وأمنيًا وعسكريًا، بيد أنّ هذه الظاهرة المهولة ما دعت العرب للتضامُن للدفاع عن أنفسهم واستقرارهم وحدودهم وسيادتهم. فحتى في مجال مكافحة الإرهاب ليس هناك عمل حقيقي مشترك".

وعن قابلية المنطقة للتقسيم، يقول السيد إنها لم تكن موجودة، فالتقسيمات الاستعمارية لعبت دورًا في ذلك، وما كانت هناك قضية في المغرب غير قصة الأمازيغ، وفي المشرق غير قصة الأكراد، بيد أنّ ضرب الأميركيين العراق أحيا كل الشياطين، ومنها شيطان التقسيم الإثني والجهوي والمذهبي. ولا أظن أن مشكلة العراق ستقتصر على المسألة الكردية، بل ستظل هناك استقطابات شيعية - سنية بارزة إن بقي الإيرانيون وميليشياتهم مسيطرين على الحكومة العراقية. وفي سوريا لا خطر حتى الآن، لكنّ بقاء الميليشيات الإيرانية وبقاء الأسد سيجعلان من الاضطراب المسلَّح حالةً دائمة، وهذا فضلًا عن بروز الملف الكردي في سوريا والذي في حال استمرار الاضطراب لن يقتصر على الحكم الذاتي، وخاصةً أنه صار مخرزًا لإزعاج تركيا في سوريا والعراق، كما كان حتى عام 1998. ونحن العرب نتمتع في الأصل بمناعة مشهودة ضد الانقسام".&

أطماع مختلفة

تحدث بهجت قرني، أستاذ الاقتصاد السياسي والعلاقات الدولية في الجامعة الأميركية، فقال إن مرور 100 عام على سايكس - بيكو يذكرنا بالأطماع الخارجية والتنافس الدولي على المنطقة العربية، صحيح أن السياق الدولي والإقليمي بعد مئة عام، قد تغيّر، لكن الأطماع الخارجية ما زالت موجودة بأشكال مختلفة ولن تختفي قريبًا، فهذه إحدى السمات الرئيسية للعلاقات الدولية، في الماضي والحاضر والمستقبل.

أضاف: "لم تنكشف الأجندة الخارجية في الأزمة السورية والعراقية فحسب، بل تجسدت بوضوح. وما يميز التدخل الخارجي في الأزمة السورية هو الدور الكبير الذي تقوم به الدول الإقليمية مثل إيران وتركيا وحتى دور الفاعلين الإقليميين من غير الدول مثل «حزب الله»، ويجيء دور الدول الكبرى مثل روسيا متأخرًا"

يدعو بهجت إلى أهمية وجود استراتيجية عربية مقابلة لمواجهة هذه الاستقطابات. ويتساءل: أين مثلاً عمل المنظمات الإقليمية المختلفة من مواجهة هذا الخطر الكبير؟ وهل لا تزال الجامعة العربية - أو بيت العرب كما يقال - على قيد الحياة في هذا المضمار؟ معترفًا بوجود أطماع خارجية في المنطقة، وبأن وجود هذه الأطماع طبيعي ومتوقع، "لكن المهم جهودنا وسياساتنا الفعالة لقطع الطريق على هذا التدخل الخارجي لاستغلال بعض نقاط ضعف مجتمعاتنا".

فوضى الربيع العربي

يشير عبدالله المدني، أستاذ العلاقات الدولية والكاتب المختص في الشؤون الآسيوية إلى تشابه في الظرف التاريخي بين المشهد الراهن والوضع في العقد الثاني من القرن العشرين، "فالقوى الدولية سعت إلى عرقلة أي مشروع وحدوي عربي، وانغمست المنطقة في مشكلات وصراعات شغلتها عن التنمية. وبعيد حصول بعض الدول العربية على استقلالها، ظهرت تضحيات كبيرة تروم تحقيق النهضة والرقي، لكن ظهرت الانقلابات العسكرية، وأصبحت الدول حديثة الاستقلال في مرمى الاستقطابات الدولية. وإذا كانت المنطقة قد رزحت تحت الاستعمار لفترات طويلة، فإنها الآن تعاني قوى دولية تنتهج سياسات جديدة لنشر الخراب والدمار في المنطقة، وضمن هذا الإطار رأينا سياسة الفوضى الخلاقة والربيع العربي وما جلبه من تداعيات خطيرة، ودعم أنظمة متسلطة كما هو الحال عند التعامل مع النظام السوري، ودعم الغرب نظام الملالي في إيران، وعدم الجدية في القضاء على تنظيمات متطرفة مثل حزب الله وداعش، ودعم التنظيمات الشيعية كما هو الحال في العراق". وينوّه المدني إلى أن المنطقة شهدت في الماضي استقطاباً بين معسكرين عالميين، الآن نجد أن كل الاستقطابات تسير ضد مصالح دول المنطقة، والقوى الكبرى لديها مصالح خاصة بها. صحيح أن هناك أجواءً تشبه الحرب الباردة، لكنها حرب باردة بقطب واحد تقريباً، حيث توجد اختلافات ظاهرية بين روسيا والولايات المتحدة، لكن في الباطن للطرفين الأهداف نفسها. ويحذر المدني من وجود محاولات لتفتيت دول المنطقة، وهناك مجموعات داخلية تساهم في تحقيق هذا الهدف، تحت مسميات مختلفة: مظالم تاريخية، اضطهاد ديني، مظالم عرقية.

الربيع العربي

&

انهيار الدولة العربية

رأى حسن حنفي، أستاذ الفلسفة في جامعة القاهرة، أننا نمر بانهيار الدولة العربية كما مرت الدولة العثمانية بمرحلة انهيار بعد الحرب العالمية الأولى وتقسيم ممتلكات «الرجل المريض» على الدول الاستعمارية الكبرى، فرنسا وإنكلترا من دون مراعاة للحدود الجغرافية أو البشرية. فأخذت فرنسا المغرب العربي والشام. واحتلت إيطاليا ليبيا والصومال. وأخذت إنكلترا مصر والعراق واليمن.

أضاف: "بعد ضعف الدولة العربية ونهاية عصر القومية العربية بوفاة عبد الناصر، وبعد مخطط تفتيت الوطن العربي في العراق وسوريا وليبيا واليمن إلى طوائف، وهي سنة وشيعة وأجناس عرب وأكراد وتركمان، بدأت الحدود الطائفية تظهر كبديل يحارب بعضه بعضًا. إيران تؤيد الشيعة في العراق وسوريا واليمن ولبنان، فظهر (داعش) للاستيلاء على الكل، وتكوين دولة الخلافة. يتفتت العرب ويتجمع اليهود من أقطار العالم في إسرائيل. وتكسب الحرب، ابتلاع فلسطين بلا حرب".

وتابع حنفي: "منطقة الشرق الأوسط غنية بالنفط والموقع الجغرافي بين الشرق والغرب، ووضعت أميركا خطة الشرق الأوسط الكبير أو الجديد لتملأ فراغه هي وإسرائيل، والآن بعد تحالف أميركا وإيران سقطت السعودية ومصر من الحساب الأميركي، وبدأ ظهور الصراع بين روسيا وأميركا في سوريا والتضحية بنصف الشعب السوري، هجرة أو قتلاً. فروسيا تريد منافذ على المتوسط، وأميركا بغزو العراق تريد منافذ على الاتحاد السوفياتي. ولم تبقَ إلا إيران كقوة فاعلة تحتل أربع عواصم عربية. ومصر ملهية بالإرهاب في الداخل والخارج. والعرب فقدوا وحدتهم فتركوا أنفسهم وأوطانهم يلعب فيها من يشاء. ما زالت المنطقة رهينة الاستقطابات الخارجية، روسيا وأميركا وإيران، في غياب قوة جاذبة في الداخل، ومركز قوى تدور حوله الأمة العربية مثل مصر الناصرية.&

وبحسب حنفي، عند الوطن العربي إمكانية للتوحيد، "وهذه ليست المرة الاولى التي&يمر بها بتجربة التفتيت، فوحّدهم صلاح الدين دفاعًا عن القدس، ووحّدهم محمد علي دفاعًا عن وحدة الدولة العثمانية، ووحدهم عبد الناصر ضد الصهيونية والاستعمار. لا يعني ذلك انتظار القائد المخلِّص أو الإمام المعصوم. يكفى الوعي العربي بمخاطر التفتيت والتجزئة، والوعي بالوحدة، وبناء الأوطان من الداخل أولًا على نحو ديموقراطي ومشاركة الجميع في الحكم تحت شعار رُفع من قبل وهو مشاركة لا مغالبة، ورفع كل القيود على الحدود العربية، يكفي شنغن عربي واحد.

وضعت أميركا خطة الشرق الأوسط الكبير

&

السيناريوهات& المخيفة

يجيب عبد الله خليفة الشايجي، أستاذ العلوم السياسية في جامعة الكويت، عن أسئلة المنتدى فيقول إن العرب يدفعون أثمانًا باهظة وبطرائق مختلفة بعد قرن من ذلك المشروع الاستعماري، جراء منطق فرق تسد، وحتى بعد التخلص من الاستعمار وبعد تحول الحروب من الحرب بين العرب وإسرائيل إلى حروب داخلية، "فالعربي يقتل العربي، والمسلم يقتل المسلم باسم الإسلام والفرقة الناجية! المشهد العربي في مئوية سايكس - بيكو يحمل إمكانية تشظي بعض المجتمعات والأنظمة في ظل سيناريوهات تآمرية لتقسيم المقسم، وتفتيت المفتت، على خطوط صدع طائفية وعرقية وإثنية، ناهيك عن احتمالات فشل بناء الدولة المدنية، بسبب الاستقواء بالطائفة والقبيلة والمذهب. ولا تتحول الأجزاء إلى كل".

أضاف: "الخطر الاستراتيجي في المشهد العربي الكسيح يكمن في غياب مشروع عربي جامع وتراجع مفهوم المواطنة وضعف الدولة المركزية على حساب التنظيمات والجماعات المسلحة من الفاعلين من غير الدول، وانهيار ترتيب الكثير من الدول العربية في مؤشر الدول الهشة أو الفاشلة. ويُشكل المشهد الراهن في حقبة ما بعد موجات التغيير في الجمهوريات العربية، التي تُعرف بالربيع العربي، وظهور سياسات المحاور وترويج سيناريوهات مخيفة يروج لها منذ عقود صناع القرار والمفكرين الصهاينة مثل الشرق الأوسط الجديد والفوضى الخلاقة".

أميركي - روسي

تابع الشايجي: "بعد حرب احتلال العراق ومخاطر تفككه على أسس طائفية ومذهبية وإثنية، نجد سورية تغرق في أتون أكبر مأساة منذ الحرب العالمية الثانية، وما رافقها من ظهور الجماعات التي تستخدم الدين وتروج لخرافة الملحمة الأخيرة، كما استغله تنظيم داعش حول دابق التي سقطت قبل أيام في يد جيش سورية الحر عشية معركة استعادة الموصل، ويشكل تكرارا لمشهد سايكس بيكو بعدم استقلال القرار العربي من التدخل الخارجي. هذه المرة دخلت روسيا لتصبح لاعبًا بنفوذ كبير، وتتدخل بمشروع يرسم معالم جديدة لشرق أوسط مختلف وأقل استقرارًا. حوّل التدخل الروسي المشهد العربي في مئوية سايكس - بيكو من مخطط بريطاني – فرنسي إلى مخطط أميركي-روسي، حيث تقود روسيا محورًا يعزز المشروع الإيراني على حساب المحور الخليجي ويزيد من نفوذ إيران التي تفاخر بسيطرتها على أربع عواصم عربية، لكن الأخطر من ذلك تعزيز الفرز الطائفي بتصدير إيران الطائفية وتقسيم المجتمعات العربية، ما يجعلها هشة قابلة للعطب والتفكك من الداخل، وهذا النوع من التشرذم هو أخطر من الاحتلال والتقسيم الذي رسخه مخطط سايكس بيكو.

التدخل الروسي &في المشهد العربي&

&

تشابه كبير

يرى علي الطراح، أستاذ علم الاجتماع في جامعة الكويت، ومستشار منظمة اليونيسكو لشؤون المنطقة العربية، أن المشهد العربي الراهن يشابه كثيرًا ما حدث في مرحلة توقيع اتفاقية سايكس - بيكو، "فكثير من المؤشرات يؤكد التشابه في الظروف، فالمنطقة العربية تعيش أحلك أوضاعها، ولا نشعر بتحرك عربي موحد، أو على أقل تقدير متقارب حيال الأوضاع التي تعيشها المنطقة، وهذا ما يضعف القدرة على التصدي لأي تقسيم جديد تدفع به بعض الجهات العالمية ونخص الحلفاء التقليديين. فخروج التنظيمات التكفيرية ومنها تنظيم داعش يؤكد لنا بشاعة المخطط والاستهداف لتفكيك المنطقة وإشعال حرائق تستمد قوتها من طبيعة التقسيمات الدينية والاجتماعية. فالحرب على الإرهاب هو الشعار الذي تنطلي تحته كثير من المخاوف وهو النافذة لسياسات جديدة تطل علينا وندرك أبعادها. فتباين المسميات من الفوضى الخلاقة إلى الشرق الأوسط الجديد كلها تصب نحو مزيد من الدمار لدولنا العربية. كل ذلك تم التخطيط له بعناية فائقة وبتمويل يثير الشبهات، ونشتم رائحة التشابه بين الثورة العربية الكبرى، أو الخدعة الكبرى، وبين الربيع العربي".

أكبر الأخطاء التاريخية

أضاف الطراح: "ربما من أكبر الأخطاء التاريخية دخول أميركا وخلع صدام حسين، فلأول مرة في التاريخ تدخل قوى عظمى وتزيح مؤسسة الحكم تحت راية تحقيق الديمقراطية أو الإصلاح السياسي بينما واقع الحال يؤكد لنا فظاعة المخطط، فالعراق الذي عرفناه ليس له وجود اليوم، ولن يعود كما كان وهو اليوم يعيش نزاعات مذهبية بغيضة وتدار في ساحته حروب شرسة تزيد من حدة الانقسام المذهبي. والأزمة السورية وما يحدث في العراق نتاج سياسة التهاون والتراجع العربي، فالعرب يحصدون ما زرعوه لعقود طويلة".

إن المنطقة، بحسب الطراح، مقبلة على أكثر من سيناريو، "التقسيم واحد منها إلا أن هناك إجماعًا على رغبة التغير بالقوة وليس القوة العسكرية، وإنما من خلال إيجاد بدائل مثل تنظيم داعش لتفكيك الدولة العربية الواحدة".

أضاف: "الشعوب غير فاعلة ومهمشة في ظل غياب دولة المواطنة، ونعتقد أن الاختراق يتمثل في السعي إلى تحويل المنطقة إلى كيانات عرقية ودينية على اعتقاد بأن الوضع الجديد قد يحل معضلة الإرهاب أو التطرف كما يُشاع. ونعتقد أن الدولة الفاشلة مصيرها الانهيار من الداخل وما يحدث يقربنا من هذا السيناريو".

تفريخ الإرهاب

رأى أحمد عبد الملك الأكاديمي والإعلامي القطري وأستاذ الإعلام بجامعة قطر، أن المشهد الحالي في المنطقة العربية لا يختلف عما حصل قبل 100 عام عند توقيع اتفاقية سايكس - بيكو، حيث قُسِّم العالم العربي بين بريطانيا وفرنسا. الاختلاف هو في الشكل فقط أما الهدف فهو واحد. فالولايات المتحدة تريد أن تلعب من خلف الستار عبر ممثلين لها في المنطقة، وأثبتت الأحداث الأخيرة، وقانون جاستا الذي غُلِّف بمكافحة الإرهاب كهدف واضح لذلك القانون، من أجل إنهاك اقتصادات المنطقة، وتحويلها إلى جزء قاحل وطارد للتنمية في قادم الأيام. كما أن التحالف الأميركي الإيراني الجديد يُنذر بتطورات خطيرة في المستقبل. وإذا كانت هنالك حماية فيزيائية أجنبية في المنطقة العربية سابقًا فإن التدخل الآن يأتي عبر المجسّات الضخمة التي تراقب كل حركة في المنطقة!

أضاف: "تم تفريخ صيصان الإرهاب بمعرفة الدول الكبرى منذ حقبة أفغانستان، وتم التغرير ببعض أبناء المنطقة تحت دعاوى الجهاد الذي لم يثمر شيئًا سوى ضرب الإرهابيين لبيوتهم وتهديد أمن دولهم. كان العراق سداً منيعاً ضد القوى الكبرى لكن خُطط له أن يسقط، وسقط اعتباراً من 2003، ولم تشرق عليه شمس الديموقراطية كما وعد الأميركان، بل فتحت عليه النيران من كل صوب، وإلا ألا تستطيع الولايات المتحدة محاصرة داعش والقضاء عليها بين يوم وليلة؟!".

العلة واحدة

رأى المفكر والطبيب الجراح الدكتور خالص جلبي أن الطبيعة تأبى الفراغ، والضعف يستدعي المرض، والجهل مدخل الشيطان. والمشكلة أن القوى الخارجية هي قوى طبيعية تدخل الأمكنة التي تسمح لها بالدخول، والعالم العربي انكشفت نقاط ضعفه منذ الانهيار العثماني. أما مسألة الأطماع والتنافس فهي قدر مقدور، ونحن لو كان الأمر لنا ورأينا مثل هذه الثغرات، لواجهناها من دون تردد كما يدخل الماء في الطوفان من شقوق الباب، فهذه قوانين اجتماعية مثل تمدد المعادن بالحرارة.

أضاف: "العراق وسورية واليمن وليبيا بل ومعظم العالم العربي علته واحدة، ودرجة المرض مختلفة، وحين تظهر فيروسات داعش وفاحش وتتمدد فارس، فهي نفس قصة الإسكندر حين زحف إلى آسيا الصغرى، ومنحه داريوس ما يريد، فكان جوابه أنا من يقرر ما آخذ كما أشاء وليس أنت".

استطرد جلبي: "منذ عام 1914 لعب بنا لورانس البريطاني وأوهمنا بدولة عربية كبرى، فلم نحصد سوى الكارثة والتفتت، بعدما غابت شمس تركيا التي تحولت إلى الرجل المريض على البوسفور، وجاء الحلم القومي بكارثة أكبر وتمددت إسرائيل، وحاليًا بدأ المرض الطائفي لحرب مائة عام جديدة، فلا الشعوب نضجت، ولا التدين صفا من التطرف والجنون. ونحن نعيش زمن التيه الأعظم، وهو أمر سيدوم فترة طويلة من الاحتراب والاقتتال حتى نفهم طبيعة العصر الذي نعيش فيه، وكلفة هذا حروب ودمار وخراب".

الدين سلاح

وأجاب الكاتب العراقي رشيد الخيُّون عن أسئلة المنتدى فقال: "أخذت مئوية سايكس - بيكو حيزاً واسعاً في الإعلام، والسؤال هل بالفعل كانت سايكس - بيكو وراء تجزئة الدَّولة العثمانية؟ وهل أن البريطاني مارك سايكس والفرنسي فرانسو بيكو وراء ما حصل؟ أم أن الأمر يتعلق بصخب الثَّورة الرُّوسية عندما كشفت الاتفاقية بعد انضمام روسيا القيصرية إليها تودداً لشعوب الشَّرق؟ على أية حال، ظلت سايكس – بيكو في ملفاتها وأخذ الحديث يجري عنها وعن عاقديها بمبالغات، حتى أن كُرد العراق اتخذوا منها هذا العام سبباً للحديث عن إنهاء تشطير الأمة الكُردية، مع أن نَصّها لا يذكر الكُرد بشيء. ما حصل من تجزئة للإمبراطورية العثمانية كان أمراً حتمياً، فبعد الحرب من العادة أن يكون مصير الإمبراطوريات، شرقية أم غربية، التفكك، وأن تتقاسم الدول المنتصرة النفوذ، والبلدان التي انشطرت عنها كانت أقاليم، كإقليم العراق مثلاً، وشأنها شأن مصر التي استقلت مبكراً بزعامة محمد علي. نعم، هناك أجندات أجنبية بالمنطقة، حتى أصبحت نزاعات على النفوذ، ظهر في إعطاء الضوء الأخضر للأحزاب في الوثوب إلى السلطة، بالبلدان العربية، وإنهاء حالة الاستقرار بالمنطقة، حتى تفجرت النزاعات الطائفية الدينية والإثنية، فظهرت داعش والميليشيات".

لا يظن الخيّون أن شعوب المنطقة قابلة للانقسام، إذا تُركت حرة بعيداً عن التأثيرات السياسية والتدخلات الأجنبية، "فما يحصل من تصاعد طائفي تقوم به أحزاب ومنظمات تمتلك إعلاماً يقدم صورة مشوهة عن التعايش الديني والمذهبي، بينما النزاع يجري بين جماعات وفضائيات لا بين النَّاس. فمع خطورة ما يجري بالعراق من بث كراهية طائفية، لكن حتى هذه الساعة لم تتبنَ عشيرة أو قرية هجوماً على عشيرة أو قرية مخالفة لها في المذهب. لا أعتقد أن ذلك إعادة لما جرى قبل قرن من الزَّمان، فما أسفرت عنه الحرب العالمية الأولى من ظهور الدولة الوطنية على أنقاض الإمبراطورية العثمانية، أمر طبيعي، شأنها شأن ظهور الدولة الوطنية بأوروبا إثر تفكك الدولة الرُّومانية. عدا ذلك فالقوى الدينية، كنظام أو حزب مسلح، وراء عسكرة المجتمعات، وخطف الطوائف".

ألغام دائمة

يرى خالد الحروب أن أي تحليل موضوعي يتأمل في انعكاسات سايكس - بيكو على منطقة المشرق العربي يصل إلى نتيجة مركزية، وهي أن الدمار الذي تعيشه المنطقة حتى اليوم يعود في جذوره الحديثة إلى تلك الاتفاقية وما تناسل عنها من صراعات وحروب وطائفيات، بل وحتى صعود لاحق للعصبيات الدينية والإسلام السياسي. سياسياً وحدودياً، زرعت الاتفاقية مجموعة من الألغام الحدودية والصراعية التي ستظل لاحقاً دائمة الانفجار بكون الحدود المسطرية التي خُلقت قسمت أراضيَ ومجموعات سكانية وقبلية وإثنية بشكل عبثي لم يراع مصلحة السكان الأصليين، ووزعتها على دول جديدة، بما صعب عملية تخليق هوية وطنية جامعة.

أضاف: "استعمارياً واحتلالياً، كانت سايكس – بيكو التوأم والمُمهد لوعد بلفور الذي أسس لقيام إسرائيل، حيث منحت الاتفاقية فلسطين آنذاك لبريطانيا، التي كانت تتعاطف مع الفكرة الصهيونية وترعى فكرة قيام دولة يهودية فيها. ومثل قيام إسرائيل في المنطقة بركاناً من الصراعات والحروب والإنهاكات التي استنزفت بلدان وشعوب المنطقة، وليس فقط الفلسطينيين، وحرمتهم من وطنهم وحقهم في تقرير المصير. طائفياً وقبلياً، اشتغلت الإدارات الكولونيالية الفرنسية والبريطانية في كل من سوريا والعراق والأردن وفلسطين على تغذية الصراعات القبلية والطائفية تبعاً لقاعدة فرق تسد بهدف الإبقاء على السيطرة المطلقة على السكان والشعوب. والشواهد التي تشير إلى فعالية هذه السياسة تبدأ ولا تنتهي سواء في العراق، حيث كان يتم استثارة التعايش المعقول الذي كان سائداً بين السنة والشيعة، أو في سورية حيث قسمت الإدارة الفرنسية البلد إلى ست مقاطعات متنافسة (دمشق، حلب، اللاذقية والجيب العلوي، جبل الدروز، لبنان بغالبية مسيحية)، وبحيث لا تكون تابعة لأي مركز سياسي أو سيادي في دمشق، وبالتوازي رعت استقطاع لبنان ومنحه الاستقلال".

كانت سايكس – بيكو التوأم والمُمهد لوعد بلفور الذي أسس لقيام إسرائيل

&

أربع جلسات

تضمنت أعمال المنتدى 4 جلسات محورية، عالجت الأولى فكرة تقسيم المنطقة إلى مناطق نفوذ خدمة لقوى دولية كبرى، يديرها الكاتب والباحث البحريني عبدالله المدني، وقدم فيها الأكاديمي الموريتاني السيد ولد أباه ورقة بعنوان "المنطقة كساحة للصراع على النفوذ منذ انهيار الدولة العثمانية"، وقدم وحيد عبد المجيد، رئيس تحرير مجلة السياسة الدولية، ورقة بعنوان "تأخر ظهور الدولة الوطنية وتأسيسها وفق اعتبارات تخص القوى الكبرى وليس الشعوب". وعقب على الورقتين الكاتب والباحث الإماراتي محمد خلفان الصوافي.

عالجت الجلسة الثانية مسألة "أقليات المنطقة معول هدم وتفتيت أم يمكن دمجها عبر أجندة قوية للتكامل الوطني؟"، أدارها عبدالله محمد الشيبة، قدم فيها الكاتب والمحلل السياسي عبدالوهاب بدرخان ورقة تتمحور حول استقواء الأقليات العرقية بالخارج ورفعها شعار الانفصال الحالة الكردية أنموذجًا، وقدم الأكاديمي المغربي المتخصص في القانون والعلوم السياسية الدكتور عبدالحق عزوزي ورقة ثانية عنوانها "دول المغرب العربي... كيف تدرأ خطر الأجندات التفكيكية ذات البعد الثقافي". وقدمت عائشة أحمد المري الورقة الثالثة تحت عنوان "سوء استخدام التمايزات الطائفية في المنطقة مثل حزب الله اللبناني والحوثيين في اليمن". عقب على أوراق الجلسة رضوان السيد، أستاذ الدراسات الإسلامية في الجامعة اللبنانية.

خصصت الجلسة الثالثة لرصد الاستقطابات الدولية وتأثيرها الهدام داخل المنطقة، وادارتها أماني محمد العمران. قدم عمار علي حسن، الباحث في علم الاجتماع السياسي، ورقة حول الحرب الباردة الجديدة في الشرق الأوسط بعد أفول الدور والحضور الأميركيين. وقدم أحمد يوسف أحمد، أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة، ورقة بعنوان "التكامل القومي كوسيلة لصد الاستقطابات والتحصن ضدها"، وعقب على الورقتين علي الطراح، أستاذ الاجتماع في جامعة الكويت ومستشار اليونيسكو للشؤون العربية.

انعقدت الجلسة الرابعة والختامية تحت عنوان "سيناريوات ومخططات تقسيم تدق طبول الخطر"، أدارها الإعلامي والكاتب الصحفي محمد حسن الحربي، وقدم أسعد عبدالرحمن، رئيس مجلس أمناء الموسوعة الفلسطينية، ورقة بعنوان "مؤسسات غربية تروّج لخطط تقسيم المنطقة وفق أطر طائفية". وقدم محمد السماك ورقة بعنوان "كيف نحصن المنطقة من التقسيم والمحاصصة"، وعقب عبدالله الشايجي أستاذ العلوم السياسية في جامعة الكويت على الورقتين.