بأسلوب بسيط ومباشر، وبلغة واضحة تنفذ إلى عمق الموضوع من دون لفّ أو مراوغة، يتحدث المفكر والمؤرخ المغربي عبد الله العروي في كتابه الجديد "استبانة" عن مختلف التطورات التي شهدها بلده، على مختلف الصعد التاريخية والسياسية والاجتماعية، سواء خلال فترة الاستعمار، أو مرحلة ما بعد الاستقلال.

إيلاف من الرباط: تقوم فكرة الكتاب في طبعته الثانية الصادرة حديثًا، بعد نفاذ الطبعة الأولى، في ظرف زمني وجيز، على لعبة السين والجيم، فالمؤلف، هنا، هو السائل، وهو المجيب، الذي لا يتردد في التطرق إلى أكثر القضايا إثارة للاهتمام، مثل الوطنية وغيرها.

ولأنه اعتمد المباشرة في كتابه الجديد، فإنه تجنّب وضع مقدمة له، بل دلف إلى السؤال الأول، من دون أي تمهيد، وفيه يتطرق إلى معنى وأصل العروي "بفتح ثم سكون"، مشيرًا إلى أنه يتضايق كلما سمع اسمه محرّفًا.

امتهان التاريخ بين الأندلس والمغرب
من خلال اسمه يتعرّض إلى أصول وجذور أسرته ونشأته في مدينة أزمور. يقول في هذا الصدد: "عندما يقال لي ولدت في أزمور فأنت دكالي، (نسبة إلى منطقة دكالة)، أو اسمك العروي، (استحضارًا لجبل العروي)، فأنت ريفي، (نسبة إلى الريف في شمال المغرب)، أبتسم بدون أن أثبت أو أنفي..".

لعله من مكر الصدف أن يعثر الكاتب الذي يمتهن التاريخ على أن أول من أرخّ للأندلس، يحمل اسم العروي، وقد اعترف أنه اندهش لذلك: "عقلي يقول هذه مصادفة، والوجدان يصرّ على أن الاعتقاد بأن كل شيء مسطر".

&

عبد الكريم &الخطابي وعلال الفاسي&

يمضي العروي متسائلًا: "كيف حصل أني توجّهت، رغم ميولي، إلى امتهان صناعة التاريخ؟، كيف حصل أني أكتب التاريخ، أدرس التاريخ، ولا أكل من نقض مفهومه والحط من قيمته؟". ويتذكر الكاتب: "عندما نشر كتاب "تاريخ المغرب"، "كاتبني أحد القراء، ويدعى هو الآخر العروي يسألني هل بينه وبيني أية قرابة؟".

سيرة ذاتية وفكرية في شكل حديث&
يشبه الكتاب، رغم طابعه الذي صاغه مؤلفه في شكل سؤال وجواب، يشبه سيرة ذاتية وفكرية، يتوقف فيها عند محطات ومعطيات ساهمت في تكوينه الفكري وتشكيل وجدانه العلمي والأدبي والتاريخي، بارتباط تام وتفاعل مع الأحداث التي كان المغرب مسرحًا لها.

مرور العروي كان عابرًا في المسجد القرآني، لم يتعدَّ السنة الواحدة، قبل أن يسجله والده في المدرسة العمومية. وحين سأل نفسه عن مستوى التعليم آنذاك؟، جاء جوابه سريعًا: "كان عاليًا جدًا".

فقد كان المعلمون الفرنسيون، من وجهة نظره، في تلك الفترة، التي كان المغرب يخضع فيها للاستعمار، يشتغلون "كما لو كانوا يسكنون مناطق نائية من التراب الفرنسي، يعملون بالحزم نفسه، وبالإخلاص نفسه، هذا ما تدربوا عليه في معاهدهم التكوينية. يعطون لكلمة تعليم معناها الحقيقي، معنى التنشئة والتثقيف".

وعند انتقاله إلى الرباط، لمتابعة دراسته، لاحظ أن أي أحد من هؤلاء الأساتذة، لم يكن "يكلمنا عن الوضع السياسي، مع أننا كنا نعلم جميعًا، أن العلاقات الفرنسية - &المغربية، كانت تمر بأزمة حادة".

الإرادة السياسية لإصلاح التعليم لا تكفي
اعتبارًا لأهمية التعليم ودوره في تكوين الأجيال، فقد خصص له حيزًا واسعًا عبر صفحات الكتاب، سواء في عهد الحماية، أو بعد بزوغ فجر الاستقلال.

انطلاقًا من مرصده كمؤرخ وباحث يرى أن "حكومات المغرب المستقل الموحد أخفقت في تصور إصلاح شامل يحظى بموافقة الجميع، الأحزاب، النقابات، أولياء التلاميذ، الخ". وحين يقول البعض "إن سبب الإخفاق المتكرر عدم وجود إرادة سياسية"، فإنه يرد: "حتى لو توافرت تلك الإرادة، لما سهل تصور وتطبيق الإصلاح".

تأسيسًا على ذلك، فإن الخلاصة التي توصل إليها، تفيد أن "الإرادة السياسية لا تكفي، لا بد من قناعة بنجاعة الإصلاح وضعف المعارضة الداخلية". &

" استبانة "كتاب العروي الجديد&

يتوقع العروي أن تتوالى "الحلول الترقيعية الجزئية، بعضها يصيب الهدف، بسبب حيوية المجتمع، ومواكبة نمو الاقتصاد، فيكون رفع مستوى التعليم نتيجة، لا سبب التطور"، إلى أن تتوافر الظروف المطلوبة للنهوض بقطاع التعليم.

لماذا لم يكتب الزعماء الوطنيون مذكراتهم السياسية؟
المقاومة المسلحة والحركة الوطنية أيضًا، بكل رموزها وأسمائها ووجوهها الفاعلة والمؤثرة في تاريخ كفاح المغرب، مثل عبد الكريم الخطابي في الريف، وعلال الفاسي وغيرهما، خلال الحقبة الاستعمارية، كان لها نصيب كبير من اهتمام المؤلف.

لكن لماذا لم يكتب الزعماء الوطنيون مذكرات توضح الملابسات التي ترتبط بالمفاوضات والمطالب الممهدة للاستقلال؟. العروي يرد بمزيد من الأسئلة: "هل يدل الأمر على تدني المستوى الثقافي في المغرب؟". هل يعني أن الكتابة مكسب متأخر لدينا، لم نتقن بعد استعماله؟، هل هناك أسرار فاضحة لا يود أحد أن يطلع عليها الجمهور؟، هل ذلك من أثر "الحشمة" التي هي من ثوابت تربيتنا أم خشية إدعاء القوة والاستطاعة؟.

مهما يكون الجواب، فهذا عطب قديم فينا"، ليتوصل المؤلف إلى القول إن ندرة المذكرات السياسية، تنمّ في نظره "عن تخوف واحتراز، رعاية لمصلحة الأسرة أو الفصيل".

النخبة المغربية.. والتعريف الآخر للوطنية
يتوسع العروي كثيرًا في الوطنية كمفهوم وممارسة ومبدأ، لكنه حين يسأل نفسه: "هل النخبة المغربية الحالية المسيرة للدولة، أقل وطنية من التي سبقتها؟"، هنا ينبري للجواب، بأنها أقل "وطنية"، بالمعنى الذي يتصوره للوطنية، قبل أن يزيد في الشرح: "لا أعني أنها أقل غيرة على مصلحة الوطن، أو أقل تعلقًا برفاهية الشعب، لكنها إما جاهلة، وإما رافضة للتصور الذي حددناه، وإن أقسمت بالثلاثي الشهير المذكور في النشيد الوطني، (يقصد شعار: الله، الوطن، الملك).

ويقول إنها تشتغل يوميًا بلغة، وحسب معايير موروثة، عن عهد الحماية. "لو طرحت على أعضاء هذه النخبة الحاكمة الأسئلة التي أحاول الإجابة عنها الآن، لعجزت عن فهم المقصود منها أو لاستخفت بها. لهذه النخبة تصور آخر، تعريف آخر للوطنية".

لربما، حتى يكون وقع كلامه مقبولًا لدى من يعنيهم الأمر، فإنه يختم جوابه بالتأكيد على أن "هذا تخمين وتخمين بريء". وفي ظهر غلاف الكتاب الصادر من "المركز الثقافي للكتاب" في الدار البيضاء/ بيروت، يبرز بعض معاني الوطنية، فهي "شعور وسلوك وتطلع. الشعور هو الاعتزاز بالذات وبالأجداد. السلوك هو الإيثار والتضحية. التطلع هو طلب الحرية والتقدم والرفاهية".
&
&
&
&
&