كثيرًا ما وقف صحافيون أمام هذا الرجل متحسرين لو يستطيعون أن يسبروا أغوار عقله وقلبه كي يعرفوا ما فيهما من معلومات وأفكار ومخططات. اليوم، يقفون جميعًا متحسرين ايضًا لأنه لم يختر أيًا منهم ليخبر قصته الكاملة. إنه علي النعيمي، شيخ وزراء النفط وحامل مفاتيح أوبك في بيته أعوامًا عديدة، حكى في كتاب مذكراته كلها، يصدر في الثالث من نوفمبر المقبل عن دار بورتفوليو بنغوين، تحمل عنوانًا معبرًا: "من الصحراء: رحلتي من البدو الرحل إلى قلب النفط العالمي".

تتيح سيرة حياة النعيمي إلقاء نظرة فاحصة على 35 عامًا من السياسة النفطية السعودية، إلى جانب قضايا أخرى كردة الفعل على غزو صدام حسين الكويت في عام 1990، منازلته وزراء آخرين في الحكومة السعودية في اواخر تسعينات القرن الماضي لإبعاد أيدي شركات النفط العالمية عن ثروة المملكة العربية السعودية النفطية.

علي النعيمي... من البادية إلى حقول النفط

البدايات

النعيمي ابن صناعة النفط، عمل فيها عقودًا من الزمن بعدما بدأ بدايات متواضعة ملتحقًا بأرامكو السعودية وهو بعد في الثانية عشرة، ليعمل مراسلًا بين المكاتب. وهو نفسه صار بعد عقود رئيس أرامكو السعودية التنفيذي، متربعًا على عرش اكبر شركة نفطية في العالم.

قلة في هذا العالم تستطيع أن تتباهى بمثل صعوده السريع من درك القاعدة إلى أعلى هرم القيادة، من "صبي بين المكاتب" إلى رجل وثق فيه الملك الراحل فهد بن عبدالعزيز فسلّمه وزارة البترول والمعادن، إلى ملك غير متوج في مملكة الطاقة، بيده الأمر والنهي في سوق كبيرة من يُمسك بها يُمسك بتلابيب العالم.

في مذكراته المنتظرة على أحر من جمر، يتحدث النعيمي عن تيارات غير ظاهرة كانت تؤثر في قرارت سوق الطاقة المضطرب. وبعدما أُتيحت له فرصة أن يكون شاهدًا على قرارات هذا العالم ومؤثرًا فيها، فإنه على ما يبدو يسجل في ذاكرته، ثم في أوراقه، للأجيال الآتية وقائع وحوادث من موقع متميز للغاية.

روسيا غير الملتزمة

في سيرة حياته، يقدم النعيمي خلفية تاريخية لأهم قضايا الساعة، كمشاركة روسيا في أية تخفيضات تقترحها أوبك في الإنتاج، وهي مشاركة تبقى بالغة الأهمية. وللنعيمي أسباب كافية تبرر موقفه المتشدد من الروس، فهذا موقف نتج من عقود من التعامل مع القيادة الروسية في قضايا الطاقة. يوضح النعيمي في مذكراته أنه لم يكن مستعدًا يومًا للوثوق بروسيا، ولا بوعودها، إذ لم تلتزم يومًا التزاماتها، وفي جعبته عشرات المبررات التي تعزز موقفه.

وثقة النعيمي برئيس شركة روسنفت النفطية الروسية العملاقة إيغور سيتشين أقل من ثقته بروسيا. وهو يتذكر كيف أخلف سيتشين وعده بخفض الانتاج خلال الأزمة المالية العالمية في عامي 2008 و2009.

خلال سنواته الأخيرة في منصبه وزيرًا للبترول والمعادن في السعودية، ازدادت قناعته بأن احتمالات أن تنضم دول من خارج أوبك إلى خفض الانتاج "معدومة". وحين سأله احد زملائه عن احتمالات أن تنضم دول مثل روسيا والمكسيك وكازخستان والنرويج إلى مبادرة خفض سقف الانتاج، يقول النعيمي: "رفعتُ يدي اليمنى ورسمتُ علامة الصفر".

النعيمي يلخص تجربته في كتاب يصدر في ديسمبر

أزمة ثقة

يقدم النعيمي أول عرض يُنشر لوقائع اجتماعه مع سيتشين ومسؤولين فنزويليين ومكسيكيين في فيينا في نوفمبر 2014 عندما رفضت روسيا والمكسيك خفض انتاجهما. يتذكر أنه قال: «لا أحد على ما يبدو يستطيع التخفيض، لذا اعتقد أن الاجتماع انتهى".

يلاحظ مراقبون أن هذه الوقائع، وغيرها، تبرر عدم ثقة النعيمي بالروس. ففي وقت سابق، تعهدت روسيا بالانضمام إلى أوبك في خفض الانتاج النفطي. وبعد يوم واحد، صرح سيتشين لوكالة رويترز بكلمات لا تقبل التأويل أن شركته لن تخفض انتاج النفط أو تجمده في إطار اتفاق ممكن مع أوبك.

كثيرًا ما تجنب النعيمي حين كان وزيرًا أن يتحدث بصراحة عن قضايا حساسة، وبقي موقفه من مسألة خفض إنتاج النفط طي نفسه إلى أن كشفه في سيرة حياته. يقول: "إذا قمنا نحن، السعودية أو اوبك بصفة عامة، بخفض الانتاج من دون مشاركة دول من خارج أوبك، فإننا سنضحي بالعائدات فضلًا عن تضحيتنا بحصة من السوق".

وفي معرض شرحه أسباب القرار الذي اتخذته أوبك في نوفمبر 2014 بإطلاق يد الدول الأعضاء في إنتاج النفط، يقول النعيمي: "سوق النفط أكبر من اوبك وحدها، ونحن حاولنا جاهدين أن نجمع الكل، من داخل أوبك ومن خارجها. لكن لم تكن هناك نية لتقاسم الأعباء، فتركنا الأمر للسوق بوصفها أشد الطرائق فاعلية لإعادة التوازن بين العرض والطلب".

قرار غير موفق

يعيدنا الكتاب إلى أيام كان فيها الملك الراحل عبد الله بن عبد العزيز ولي العهد، وزار الولايات المتحدة حيث دعا شركات النفط العالمية الكبرى إلى الاستثمار في قطاع الطاقة في المملكة. وقاد الأمير الراحل سعود الفيصل مبادرة فتح الباب لدخول الشركات الأجنبية قطاع الطاقة الاستخراجي.

وفي قراءة للحدث النفطي الراهن، منذ كان وزيرًا بعدُ، يقر النعيمي بأنه كان مخطئًا في دفاعه عن بقاء سعر النفط عند عتبة 100 دولار للبرميل، بوصفه سعرًا عادلًا للمستهلكين والمنتجين. ويستخلص النعيمي مما يجري اليوم أوجه شبه بالوضع في أوائل ثمانينات القرن الماضي، عندما كانت السعودية توافق على زيادة الانتاج أو خفضه لإعادة التوازن إلى السوق. لذلك، ينتقد دور "المنتج الترجيحي" الذي أدته السعودية في عام 1983، حين كان الشيخ احمد زكي يماني واقفًا بعد يدير الدفة النفطية في السعودية والعالم. يقول النعيمي إن القبول بدور المنتج الترجيحي كان "قرارًا غير موفق".

وينقل موقع بلومبرغ عن النعيمي قوله في الكتاب: "نحن في حالة موقتة تجرى خلالها إعادة تسعير أهم سلعة في العالم للمستقبل، وستجد الامدادات الجديدة طلبًا جديدًا بالسعر المناسب".

وبعد عقود، ما زال النعيمي يعتقد أن على المملكة العربية السعودية ألا تؤدي دور المنتج الترجيحي على الرغم من المآسي المالية الناجمة عن الهبوط الراهن في أسعار النفط. وإذ يعد النعيمي مهندس سياسة أوبك التي تستند إلى قوانين السوق في العرض والطلب، يكتب في خاتمة الكتاب: "سأترك التاريخ يحكم على نجاح سياستنا المستندة إلى السوق. فهذه السلعة، شأنها شأن السلع الأخرى، دورية من دون أي شك"... فليحكم التاريخ على شيخ أوبك الكبير.