مسجد في حلب

قسمت الحرب حلب إلى نصفين، أحدهما ينعم بالهدوء والآخر يعج بالرعب

برد قارس بدأ الزحف على مدينة حلب التي تشهد صراعا شرسا بين قوات النظام وفصائل المعارضة السورية، ما ينبيء بأسوأ فترة يمر بها سكان المدينة منذ بداية الحرب التي تقترب من عامها السادس.

وأثناء مرورنا بعدد من نقاط التفتيش في منطقة غرب حلب الخاضعة لسيطرة القوات الحكومية، رأينا أطلال المنازل التي تقف شاهدا على العنف الذي يلتهم سوريا لسنوات.

وأصبح مصير ثاني أكبر مدينة في البلاد كبش فداء للمسار الذي تتخذه المواجهات في سوريا، ما يراه البعض نذير شؤم، بينما يلتمس فيه البعض الآخر فرصا لمكاسب جديدة.

وقال جندي شاب، كان يقف بجوار حافلة تحمل ملصقات تعرض صورا للرئيس السوري بشار الأسد وعلى وجهة ابتسامة عريضة: "سوف نشرب الخمر احتفالا بالعام الجديد واحتفالا بالنصر."

وتحرز القوات السورية، مدفوعة بالمليشيات المدعومة من إيران وغطاء جوي كثيف من روسيا، تقدما سريعا في حلب في المناطق التي يسيطر عليها مسلحو المعارضة شرق المدينة.

ويرى البعض أنها مسألة وقت حتى تحكم قوات الأسد قبضتها على المدينة بأكملها.

في غضون ذلك، تتراجع جميع فصائل المعارضة، من بينها الجماعات المسلحة الموالية لتنظيم القاعدة والفصائل المدعومة من الغرب، إلى المناطق ذات الكثافات السكانية المرتفعة جنوب شرق حلب، على أمل إعادة تنظيم صفوفها والعودة إلى القتال.

وتتلخص قصة سوريا في الوقت الراهن في تحول موازين القوى في أرض المعركة والحصارات المؤلمة التي تستمر لفترات ممتدة. لكن نهاية، أو على الأقل نقطة فاصلة، لهذا الوضع تلوح في الأفق في حلب، لكنها لن تكون نهاية للحرب في سوريا.

وتدوي أصوات القذائف فوق أطلال معاقل المعارضة في جميع أنحاء المدينة مع طائرات مقاتلة تصدر دويها في السماء وأخبار تتردد كل يوم عن رد بالقذائف التي توجهها فصائل المعارضة إلى غرب حلب.

لكن القلب النابض للمنطقة الخاضعة لسيطرة القوات الحكومية السورية من مدينة حلب يظهر بغرابة شديدة حالة من الهدوء تصل إلى حد السريالية. وتحكي حلب أيضا قصة مدينتين تحاصرهما الحرب وتخوض كل منهما معاناة تختلف عن الأخرى.

فالمرور في غرب حلب يتمتع بحالة من السيولة، والأطفال يلهون ويضحكون في الطرقات أثناء التوجه إلى المدارس.

وفي المطاعم الشعبية، تسمع أصوات الموسيقى الصاخبة بينما تمتلأ الأركان بنساء وفتيات في أبهى الثياب، متألقات أثناء الاحتفال بعيد القديسة باربرا، وفقا للتقويم الأرثذوكسي الشرقي.

وقالت نورا، 27 سنة، وهي تتنفس بصعوبة بعد ممارسة الرقص احتفالا بالمناسبة: "أعتقد أن الاحتفال هذا العام أهم من العام الماضي وكل الأعوام التي سبقت الحرب."

وأضافت: "في الحقيقة، نحن لا نضحك، بل نجدل شعرنا استعدادا لهذه المناسبة."

وتابعت: "نحن نصرخ خائفين، لكن هذا الحفل فرصة لنتذكر أننا لا زلنا آدميين."

أسرة سورية في حلب

لم يعد أمام سكان شرق حلب الخاضع لسيطرة المعارضة سوى الهرب

وغلف ضجيج الموسيقى الصاخبة في الداخل زئير الحرب المشؤومة الدائرة خارج المطعم.

لكن أحدا لم يفلت من ويلات الحرب الدائرة في حلب، لكن الوضع أكثر قسوة في الجزء الشرقي في المدينة الخاضع لسيطرة المعارضة، إذ أصبح مستقبل هذه المنطقة خارج نطاق التوقعات، وكأنه نبؤة يُنتظر أن تتحقق.

قال عبد الكافي الحمدو، الذي نشر تعهده أمام العالم على مواقع التواصل الاجتماعي: "إن الموت في سبيل الله أفضل من العودة إلى النظام."

وأضاف: "ماذا تفعل لو كنت مكاني، وهناك من قتل أطفالك، وجيرانك وأصدقاءك، ودمر المدارس، والمنازل والمستشفيات، هل يمكنك العودة إليه ثانية؟"

لكن بعد سنوات من الحرب، وأشهر خضعت فيها المدينة لحصار القوات الحكومية أوشكت أن تدخل بسكان المدينة في مجاعة، هناك عشرات الآلاف يحاولون الفرار في إطار ما تسميه الأمم المتحدة "السقوط في هوة الجحيم بالتصوير البطيء"

وأشارت تقارير الأمم المتحدة إلى أن بعض هؤلاء الفارين يتوجهون إلى غرب المدينة، إذ تنقلهم حافلات تابعة للحكومة إلى منطقة صناعية مهجورة تمهيدا للتعامل مع حالاتهم.

وأصبحت المخازن المهجورة، التي كانت يوما هدفا لقصف متبادل أثناء القتال العنيف، مراكز مؤقتة للمشردين والمتضررين من الحرب.

"لم يعد لي سواه"

كانت سيدة مسنة بملابس سوداء تتحدث بثقة عن رحلتهم التي بدأت ليلا، قائلة: " إنها جنة مقارنة بالمكان الذي كنا نعيش فيه."

واستكملت حكايتها عن خمس عائلات هرب أفرادها معا، متحدين قوات المعارضة التي حذرتهم من أنهم قد يُقتلون على أيدي قوات النظام إذا عبروا إلى غرب المدينة.

وأكدت، كغيرها من الفارين، أن قوات المعارضة فتحت عليهم النار أثناء محاولتهم الهروب.

وأثناء الحديث، اقتربت منا سيدة ودموع تنهمر من عينيها، حاملة رضيعها الصغير بين يديها.

وقالت السيدة الشابة: "اعتقلت القوات السورية زوجي البالغ من العمر 18 سنة للاستجواب، ولا أعرف أين هو الآن."

وكان كل ما تبقى لها في الحياة هو الثياب التي ترتديها والطفل الذي تحمله بين يديها.

وأضافت: "قُتل كل أهلي وأهل زوجي، ولم يعد لي سوى زوجي."

كان هذا هو الوجه الإنساني للحرب العقابية التي تجتاح سوريا منذ ست سنوات - وشعب محاصر بين تحذيرات جبهتي القتال الأعنف على الإطلاق في البلاد - كما كان استعراضا للأزمة الإنسانية الطاحنة هناك.

والخطر الأكبر الذي يلوح في الأفق في الوقت الراهن أن يتحول الوضع من سيء إلى أسوأ باستمرار الحرب.