تناول دايفيد بريس في كتابه الجديد الدفتر السري لرئيس الولايات المتحدة. وهو كتاب عنوانه «دفتر أسرار الرئيس». هذا الدفتر يتلقاه الرجل الأقوى في أقوى بلد في العالم صباح كل يوم، ستة أيام في الأسبوع، من «وكالة الاستخبارات المركزية»، ويتضمن الخلاصة اليومية للمعلومات المصنَّفة «سرِّية للغاية» التي تعطى فقط للرئيس الأميركي والدائرة الضيِّقة من المسؤولين العاملين معه. أما المعلومات المتضمنة في الدفتر المذكور فإنها تأتي من البلاغات السريِّة، ومن التنصت على الاتصالات، والبرقيات الصحافية والديبلوماسية حول العالم.
&
كان الرئيس ريتشارد نيكسون قارئاً متفحصاً ودؤوباً لدفتر الخلاصات السرِّية. بل كان ينظر اليها بعين الشك والحذر، لأنه، كما قال عنه وزير خارجيته هنري كيسنجر، كان يعتبر وكالة الاستخبارات المركزية منحازة الى «وجهات النظر الليبرالية». والحقيقة أن سوء الفهم هذا كان متبادلاً بين الرئيس نيكسون ووكالة الاستخبارات.
&
وفي رأي كيسنجر أن القائمين على وكالة الاستخبارات المركزية كانوا في حيرة من أمر نيكسون وحقيقة ما يريد، ربما لأنهم لم تكن لهم صلة وصل مباشرة معه. وكيسنجر يعرف ذلك لأنه كان أحد حرَّاس أبواب الرؤساء الذين يريدون إبقاء وكالة الاستخبارات المركزية على بعد مسافة من عملية اتخاذ القرارات في المكتب البيضاوي بالبيت الأبيض.
&
لكن الرئيس جيرالد فورد، الذي خلف الرئيس نيكسون، غيَّر هذا النمط من التعاطي مع وكالة الاستخبارات المركزية، وجعل هذا التغيير نهجاً لمن خلفه من الرؤساء، بأن سمح لضابط كبير في الاستخبارات بأن يجلس مع الرئيس ويجيب عن الأسئلة الموجهة إليه، ويعرض معلومات استخباراتية حسَّاسة جداً لا تريد الوكالة أن تتقدم بها خطياً. ففي عهد الرئيس فورد لم يكن يطَّلع على دفتر الخلاصات سوى الرئيس، ومعه المستشاران للأمن القومي هنري كيسنجر وبرنت سكوكروفت.
&
وعندما تولَّى الرئيس جيمي كارتر سدَّة الرئاسة، كانت وكالة الاستخبارات المركزية تتعاطى مع البيت الأبيض عن طريق زبيغنيو بريجنسكي مستشار الرئيس للأمن القومي. فكان مدير الوكالة في حينه، ستانفيلد تيرنر، يقابل الرئيس مرتين في الأسبوع فقط لمدة 30 دقيقة، وبحضور بريجنسكي في كل مرة. ويذكر تيرنر حالة استثنائية واحدة مشهودة، وذلك عندما طلب من مستشار الأمن القومي أن يغادر الاجتماع ليختلي بالرئيس على انفراد.&

وقد فسَّر تيرنر ذلك بقوله: «أبلغت الرئيس أنه إذا تسرَّب اسم مصدر معلوماتنا، وهو على سبيل المثال، مسؤول بارز في الكرملين، فإننا نكون قد كتبنا نهايته. فعندما تكون حياة المصدر عرضة للخطر، فإنك تشعر بمسؤولية جسيمة، ولذلك فإنك لا تبوح بالأمر الى شخص آخر زائد عن اللزوم. أما إذا أراد الرئيس أن يطلع بريجنسكي على ما أبلغته فإن ذلك يكون خياره لا خياري».
&
بعد انتخاب الرئيس رونالد ريغان في شهر نوفمبر من عام 1980، لكن قبل تسلُّمه مهام منصبه في منتصف شهر يناير من عام 1981، قدمت له وكالة الاستخبارات المركزية خلاصة عن منظمة التحرير الفلسطينية وبقية الفصائل الفدائية، وقادة تلك الفصائل. فأخذ ريغان التقرير وقرأ فيه لمدة عشر دقائق، ثم قال لضابط الاستخبارات الذي حمل اليه التقرير: «كلهم إرهابيون أليس كذلك؟».
&
وقد ارتبك ضابط الاستخبارات لأنه أيقن أن الخلاصات اليومية هذه لم تنفع في توسيع مدارك الرئيس المنتخب حول الموضوع، في وقت كان فيه مدير محطة الاستخبارات الأميركية في بيروت، بوب آيمس، يتمتع بعلاقات واسعة مع منظمة التحرير الفلسطينية، ولا سيما منظمة «فتح» بقيادة ياسر عرفات.&
&
في عهد الرئيس بيل كلينتون لم يكن لمدير وكالة الاستخبارات المركزية، جيم وولسي، أي اتصال مباشر مع الرئيس، بل كان يقدِّم جميع تقاريره الى طوني لايك مستشار الأمن القومي. لكن عندما أصبح جورج بوش الأب الرئيس 41 للولايات المتحدة خلفاً للرئيس ريغان، كان للاستخبارات المركزية أوسع اتصال مباشر مع الرئيس ومع مستشار الأمن القومي برنت سكوكروفت.
&
كانت تقديرات وكالة الاستخبارات المركزية صحيحة بالنسبة الى حرب الأيام الستة في الشرق الأوسط. فقد أشارت تلك التقديرات الى أن إسرائيل سوف تهزم مصر وسوريا والأردن في غضون ثمانية أيام، وقد حدث ذلك في ستة أيام. لكن عندما بدأت مصر تحشد قواتها على قناة السويس في عام 1973، فإن وكالة الاستخبارات المركزية ومعها هنري كيسنجر استخفوا بالنوايا المصرية ولم يعيروها أي بال. وقد اعترف كيسنجر بأنهم جميعاً كانوا على خطأ. أما نائب كيسنجر في حينه، الجنرال الحكيم برنت سكوكروفت، فقد وصف ذلك التحليل بأنه «أخطأ الهدف»، وقال: «المنطق يقول بأن الحرب لن تقع. لكن ما لم يستطيعوا استخلاصه هو ما كان يدور في رأس أنور السادات. كان يبتغي شن هجوم سريع يعطيه مجالاً للتفاوض. إن تصوره هذا له معنى من هذه الناحية، وليس من زاوية التقديرات العسكرية الشاملة المتعلقة بتدمير دولة إسرائيل، لأن ذلك لم يكن في ذهنه ولا خطر له ببال».&
&
وفي شهر نوفمبر من عام 1978 خرجت مظاهرات الاحتجاج في إيران عن السيطرة. وقضى تحليل وكالة الاستخبارات المركزية بأن وزارة الخارجية لا ترى خطراً داهماً على حكم الشاه. لكن عندما بدأت الأحوال تزداد سوءاً، استحث بريجنسكي الرئيس جيمس كارتر على إبلاغ وكالة الاستخبارات المركزية بأن المعلومات الأولية التي قدمتها عن إيران غير مقبولة. ثم بعد ذلك أرسل كارتر الى الوكالة والى وزارة الخارجية مذكرة تقول صراحة: «إنني لست راضياً عن نوعية المعلومات حول إيران». وقد اعترف مدير الوكالة في حينه، ستانفيلد تيرنر، بأنه كانت هناك هفوات في تحليل الوكالة، إذ قال بعد سنوات من ذلك: «نحن في وكالة الاستخبارات المركزية لسنا على معرفة كافية بأعراف وعادات وأخلاق وثقافات شعوب الشرق الأوسط. ولست أظن أننا قدَّمنا الى الرئيس مشورة وافية تأخذ في الحسبان الاعتبارات البعيدة المدى. كان الأجدر بنا أن نقوم بعمل أفضل وأكفأ من حيث تقديم المشورة الى الرئيس من منطلقات بعيدة المدى».
&
أما بالنسبة إلى العراق قبل اجتياحه في عام 2003، فإن محللي وكالة الاستخبارات المركزية كانوا على خطأ تام لجهة أسلحة الدمار الشامل. بعضهم يقول بأن التحليل كان مسيساً. ويقول مستشار سابق للأمن القومي بأن الحرب في العراق قامت على أكاذيب.&

وبما أن المعلومات الاستخباراتية «تقوم على شيء من الغموض وعدم الوضوح»، فإن تفسيرات وكالة الاستخبارات المركزية للأحداث العالمية تقع في الخطأ أحياناً. أو كما قال وزير الخارجية الأسبق جورج شولتز: «تقرأ دفتر خلاصات الرئيس لتقف على مضمونه من جهة، ولتعرف ماذا يقال للرئيس من جهة ثانية».
&
يخلص مؤلف «دفتر أسرار الرئيس» الى السؤال التالي: «أي فرق تحدثه فعلاً تلك الخلاصات اليومية؟». في النهاية، ترك ذلك الدفتر الرئيس نيكسون غافلاً عن حرب تشرين الأول/أكتوبر عام 1973 وغير مستعد لها، كذلك أخفق في تنبيه الرئيس جيمي كارتر الى قيام الثورة الإيرانية في 1978 - 1979، وأيضاً فاتته مؤامرة تنظيم «القاعدة» التي أدت الى هجمات 11 سبتمبر من عام 2001 أثناء إدارة الرئيس جورج دبليو بوش.
&
لكن عندما يأخذ جمع المعلومات مداه ويستوفي الشروط المطلوبة، فإن «دفتر الخلاصات اليومية» يضيء طريق الرؤساء فيما هم عاكفون على حل معظم المعضلات الصعبة التي تصادفهم في حياتهم. ذلك أن تنويرهم بما يفعله، أو لا يفعله، أو يفكِّر في فعله، نظراؤهم حول العالم، يعطي الرؤساء الأميركيين أرجحية حاسمة من حيث استباق الأزمات قبل استفحالها.&
&
وأخيراً، لا بد من الإقرار بأن اللاعبين الرئيسيين الذين يتخذون القرارات النهائية في البيت الأبيض هم الرئيس، ومستشاره للأمن القومي، ورئيس موظفي البيت الأبيض، وكبير مستشاري الرئيس. وكبيرة المستشارين في إدارة أوباما هي السيدة فاليري جاريت. أما وكالة الاستخبارات المركزية في الولايات المتحدة فإنها تقدِّم التحليلات والمعلومات الى الرئيس، لكنها لا تصنع السياسات.&
&
&
هذا المقال تنشره "ايلاف" بالاتفاق مع تقرير "الديبلوماسي "الذي يصدره من لندن الصحافي اللبناني ريمون عطاالله.عدد مايو