إيلاف من لندن: ستصبح تيريزا ماي ابتداء من 13 يوليو 2016 ثاني امرأة تتولى رئاسة الحكومة في بريطانيا بعد مارغريت ثاتشر، في فترة من اشد الفترات اضطراباً في التاريخ السياسي الحديث. ويبدو ان الصورة التي حرصت وزيرة الداخلية البالغة من العمر 59 عاماً على رسمها بوصفها سياسية صلبة يمكن الاعتماد عليها في الشدائد، وتكفلت بأن تكون ماي الشخص المناسب في الوقت المناسب بعد ان انسحب أو تهاوى منافسوها تحت وطأة التداعيات التي أحدثها خروج بريطانيا من الاتحاد الاوروبي. 

ولقد كانت طموحات ماي في القيادة معروفة منذ زمن طويل حيث يتذكر اصدقاؤها من سنوات الدراسة في جامعة اوكسفورد انها كانت تريد ان تصبح أول امرأة تتولى رئاسة الحكومة في بريطانيا، وكان من الجائز ألا تُتاح الفرصة امام ماي لتحقيق طموحاتها القيادية قبل عام 2018 على أقل تقدير. ولكن الاستفتاء الذي راهن عليه ديفيد كاميرون وخسر الرهان قلب كل الثوابت السياسية، وحين تساقط المرشحون لخلافة كاميرون بعد استقالته المرشح تلو الآخر، برزت ماي بوصفها مرشحة "الوحدة" التي ستخلفه بعد انقسام حزب المحافظين شطرين بسبب الاستفتاء. 

أحذيتها الفاخرة

ويشهد التفاف حزبها حولها في هذا الوقت الصعب ليس على الاحترام الذي تتمتع به من الحزب عموما فحسب بل وقدرتها على البقاء سياسياً في عالم يمكن ان تتبدد فيه الأرصدة السياسية في لحظة واحدة، وفي الأيام الأولى من حياة ماي السياسية نالت سمعة باختيارها الأحذية الفاخرة ذات التصاميم الغريبة ، ورغبتها في الاشتراك مدى الحياة في مجلة فوغ قائلة انها المادة الترفية التي ستأخذها معها إذا كُتب عليها ان تعيش في جزيرة صحراوية. 

ولكن صلابتها هي التي أصبحت علامتها المميزة. وكان عليها ان تواجه حقيقة انها واحدة من حفنة نساء فقط بلغن المستويات العليا لحزب المحافظين على امتداد 17 عاماً بيد انها كانت مستعدة لقول حقائق مرة لحزبها واشتهرت بالاعلان امام ناشطين حزبيين في مؤتمر عام 2002 "ألا تعرفون ما يسمينا البعض ـ انهم يسموننا الحزب البشع". 

دخلت التاريخ 

وحتى قبل انتخابها لتولي رئاسة الحكومة دخلت التاريخ بوصفها الأطول خدمة في منصب وزير الداخلية البريطاني منذ ما يربو على 100 سنة، وتنتمي تيريزا ماي ابنة القس الذي لقي حتفه في حادث سير حين كانت في الخامسة والعشرين، الى الطبقة الوسطى لتكون بذلك أقرب في أصولها الاجتماعية الى مارغريت ثاتشر من رئيس الوزراء المستقيل كاميرون ذي الأصول النخبوية.

واجتهدت الشابة تيريزا براسيير ، كما اجتهدت مارغريت ثاتشر، للوصول الى جامعة اوكسفورد ، ومثل كثيرين من مجايليها وجدت حياتها الشخصية وحياتها السياسية متواشجتين تواشجاً لا ينفصم، التقت بزوجها فيليب حين كان رئيس اتحاد اتحاد اوكسفورد، أشهر جمعية للمناظرات في العالم، في عام 1976. ويُقال ان مَنْ عرفهما على احدهما الآخر خلال حفلة رقص للشباب المحافظين ، بينظير بوتو التي اصبحت رئيسة وزراء باكستان. وتزوج الاثنان في عام 1980.

ترى مستقبلها في السياسة

حينذاك بدأت تيريزا ماي التي درست الجغرافية، تبني حياتها المهنية في مركز المال والأعمال المعروف باسم "الستي" في لندن ، حيث عملت أولا في بنك انكلترا ثم رُقيت الى مديرة وحدة الشؤون الاوروبية لجمعية خدمات مقاصة المدفوعات، ولكن كان واضحاً وقتذاك انها ترى مستقبلها في السياسة. وانتُخبت عضو المجلس البلدي لمنطقة ميرتون جنوب لندن حيث ارتقت الى نائب رئيس المجلس. 

ولكن انظارها كانت تتطلع الى أعلى من ذلك، واعلنت ماي التي كانت مثالا يُقتدى للنائبات الطموحات امام لفيف من المرشحات قبل انتخابات 2015 "هناك دائماً مقعد اسمك مكتوب عليه"، ومرّ بعض الوقت قبل ان تجد ماي المقعد الذي كُتب عليه اسمها. ففي عام 1992 رشحت في منطقة درام شمال غرب انكلترا التي كانت منطقة مضمونة لحزب العمال، وخسرت الانتخابات بفارق كبير في عدد الأصوات امام المرشحة العمالية هيلاري ارمسترونغ التي عملت في حكومة توني بلير مسؤولة انضباط النواب العماليين في مجلس العموم.

انضمامها الى حكومة الظل

بعد عامين رشحت في منطقة باركنغ شرق لندن حيث حصلت على اقل من 2000 صوت وانخفضت حصتها من الأصوات بنسبة 20 في المئة، ولكن حظوظها تغيرت في وقت تكبد المحافظون هزيمة شنعاء امام العمال خلال انتخابات 1997. إذ فازت ماي في منطقة ميدنهيد في مقاطعة باركشاير واحتفظت بمقعدها نائبة عن هذه المنطقة منذ ذلك الحين. 

وسرعان ما انضمت ماي التي كانت من أول دعاة التحديث في حزب المحافظين الى حكومة الظل عام 1999 بقيادة وليام هيغ وفي عام 2002 اصبحت اول امرأة ترأس حزب المحافظين. وتولت بعد ذلك سلسلة من المناصب العليا وبحلول عام 2009 اصبحت وزيرة العمل والتقاعد في حكومة الظل المعارضة، ورغم ذلك كان اختيارها لتولي وزارة الداخلية في الحكومة الائتلافية مع الديمقراطيين الاحرار عام 2010 مفاجأة نظرا الى ان كريس غرايلنغ كان وزير الداخلية في حكومة الظل. 

أتقنت إدارة الوزارة

وفي حين ان وزارة الداخلية كانت مقبرة سياسية للعديد من الوزراء خلال العقود الماضية فان ماي رفضت ان تُدفن هي ايضاً فيها وأتقنت ادارة الوزارة بما قيل انه اهتمام مجهري بأدق التفاصيل دون ان تخشى الدخول في معارك مع الوزراء الآخرين عند الضرورة.

وأخذ البعض في مقر رئيس الوزراء يشعرون بالقلق من تحول وزارة الداخلية الى ضيعة شخصية للوزيرة ماي لكنها كسبت ولاء كادرها من الوكلاء والمساعدين والمستشارين ولاقى اسلوبها الحازم تأييداً واسعاً بين البريطانيين حتى عندما لم يكن أداء الوزارة يبدو قويا، ويُسجل لها انحفاض معدلات الجريمة وتجنيب بريطانيا وقوع هجوم إرهابي واسع وفي عام 2013 نجحت في ترحيل رجل الدين المتطرف ابو قتادة، ولم تخف ماي من تحدي المصالح الخاصة وفجرت قنبلة في مؤتمر اتحاد الشرطة عام 2014 عندما قالت للحاضرين ان الفساد لا يقتصر على قلة من السيئين وهددت بإنهاء حق الاتحاد في تجنيد افراد الشرطة.

انتقادات ومعارك

وتعرضت ماي الى انتقادات متواصلة لفشل الحكومة في تنفيذ وعدها بخفض الهجرة الى أقل من 100 الف مهاجر سنويا، كما خاضت ماي معركة مريرة مع زميلها الوزير مايكل غوف حول أفضل السبل لمكافحة التطرف الاسلامي. وانتهت المعركة باعتذار غوف لرئيس الوزراء واقدام ماي على اقالة مستشار خاص مخضرم. ويُقال ان الصراع اسفر عن تراجع اعجاب ماي برئيس الوزراء.

على صعيد المواقف السياسية أكدت ماي ان "بريكسيت يعني بريكسيت" ولن يكون هناك استفتاء آخر. وهي تقول ان المفاوضات الرسمية مع الاتحاد الاوروبي على خروج بريطانيا لن تبدأ قبل نهاية 2016 على أقل تقدير. وشددت على ان وضع مواطني الاتحاد الاوروبي في بريطانيا لن يتغير حتى التوصل الى "اتفاقية قانونية" جديدة ولكنها لم تقدم ضمانة بشأن وضعهم. وترى ماي ان المطلوب التوصل الى افضل اتفاق ممكن لتجارة البضائع والخدمات مع الاتحاد الاوروبي ولكن من الضروري ممارسة رقابة اشد لخفض الهجرة. 

تغيير اخلاق العمل

من سياسة ماي الأخرى تعهدها تغيير اخلاق العمل في مجالس ادارة الشركات وضمان تمثيل العمل في هذه المجالس وان يكون تصويت المساهمين بشأن رواتب المدراء والرؤساء التنفيذين ملزِماً كل عام، لم تكن ماي قط من السياسيين الذين يتبادلون القيل والقال في غرف الشاي في مجلس العموم. وهي نادرا ما انفتحت بشأن حياتها الخاصة رغم انها كشفت عام 2013 انها مصابة بالنوع الأول من مرض السكري وتحتاج الى حقنة انسولين مرتين في اليوم لما تبقى من حياتها مؤكدة ان هذا لن يؤثر في عملها.

وتعتبر ماي من السائرين مع التفكير السائد في حزب المحافظين بشأن غالبية قضايا الاقتصاد والقانون والنظام ولكنها هاجمت سلطات الشرطة في ايقاف الأفراد وتفتيشهم ودعت الى التحقيق في تطبيق الشريعة في مناطق ذات أغلبية من المسلمين. كما اعربت ماي عن رغبتها الشخصية في الانسحاب من الاتفاقية الاوروبية لحقوق الانسان ولكنها قالت لاحقا انها لن تتابع هذه القضية حين تتولى رئاسة الحكومة لعدم توفر التأييد المطلوب في البرلمان ، وهو مؤشر الى ما يعتقد كثيرون انه سيكون سياسة براغماتية في العمل.

مواقفها الإجتماعية

ان مواقف ماي الاجتماعية صعبة التحديد، فهي أيدت زواج المثليين وقالت عام 2012 ان الحد القانوني للاجهاض يجب ان يُخفض من 24 الى 20 اسبوعاً. وصوتت ضد حظر صيد الثعالب مع غالبية النواب المحافظين، ما ليس فيه مراء ان ماي ستكون في سن التاسعة والخمسين أكبر من تولى رئاسة الحكومة عمراً منذ جيمس كالاهان عام 1976 وستكون أول رئيس وزراء بلا اطفال منذ تيد هيث، وفي حين ان جاذبية ماي السياسية الأوسع لم تُختبر حتى الآن فانها لن تواجه انتخابات عامة حتى مايو 2020 إلا إذا قررت الحصول على تفويض شعبي جديد ولكنها استبعدت ذلك على ما يبدو، واعلنت ماي انها لن تسمح لتداعيات بريكسيت والمفاوضات مع الاتحاد الاوروبي بأن تكون السمة الأبرز لعهدها في رئاسة الحكومة واعدة بتنفيذ برنامج من الاصلاحات الاجتماعية لتشجيع الحراك الاجتماعي وتوفير الفرص للشرائح الفقيرة في المجتمع، ولكن بأغلبية برلمانية لا تزيد على 17 نائباً وشعب ما زال منقسماً حول الاستفتاء والقلق من المستقبل ، ستواجه ماي مهمة شاقة بل يقول البعض انها أصعب مما واجهه اسلافها في 10 داوننغ ستريت طيلة السنوات الماضية. 

أعدت إيلاف المادة عن "بي بي سي"

المادة الاصل هنا