ربما تطول مضاعفات الحمية وتقليل تناول السعرات حياة البشر، لكنها حمية تخفض نسبة المناعة 70 في المئة، ما قد يحرم الانسان من شيخوخة طويلة.

برلين: تثير العلاقة بين الحمية وطول عمر الإنسان الجدل في الأوساط العلمية. انقسم العلماء بين مؤيد لها ومناهض، وتكاد لا تمر سنة من دون إجراء دراسة جديدة في الموضوع. وأثارت النجاحات المختبرية في إطالة عمر دودة الأرض وذبابة التفاح والفئران، من طريق الحمية وتقليل تناول السعرات الحرارية، وأمل البعض في وقف تقدم عمر الإنسان مستقبلًا، بل وإلى حد منحه سرمدية تتيح له اكتشاف المجرات في أقصى الكون.

شيخوخة طويلة

شاركت مجلة إيكونومست في هذا الجدل فنشرت تقريرًا مطولًا حول الموضوع بالعلاقة مع الحمية واستخدام بعض العقاقير التي يعتقد أنها تحسن صحة البشر وتطيل أعمارهم. وتطرقت المقالة إلى عقاري ميتافورمين المستخدم في معالجة السكري، وعقار رابامايسين المستخدم لوقف ظاهرة رفض الجسم الأعضاء الحيوية المزروعة، باعتبار أن بعض العلماء يعولون عليهما في تحسين صحة الإنسان في الشيخوخة، وتقليص احتمالات تعرضه للأمراض الخطرة. واشارت المجلة إلى تجارب أجريت على 90 ألف كهل يعانون السكري، حسّن ميتافورمين صحتهم.

لا يبحث العلماء الألمان من معهد لايبنتز لبحوث الشيخوخة عن عقار سحري يقودهم إلى الخلود، كما فعل غلغامش في اسطورته السومرية المعروفة. لأنهم، كما يقول رئيس المعهد البروفيسور كارل لينهارد رودولف، "يحاولون فهم عملية تقدم عمر الخلايا جينيًا، ثم البحث عن أفضل وسيلة لتأخير هذه العملية أو وقف العوامل التي تحركها، وبالتالي التوصل إلى حياة أطول صحية للإنسان الكهل". فهم لا يبحثون عن الخلود إذًا، على الرغم من النجاحات التي تحققت، وإنما عن شيخوخة صحية طويلة.

أضعفت مناعة فئران الاختبار

تثبت التجارب الأخيرة في ألمانيا، التي أجراها معهد لايبنتز لبحوث الشيخوخة ومعهد فرتز ليبمان (جامعة ينا) على الفئران، أن الحمية أخرت تقدم عمر الخلايا الجذعية، لكنها أضعفت في الوقت نفسه نظام المناعة الجسدي عندها. واستنتج رودولف أن تقليل السعرات الحرارية في الطعام أدى إلى تقليل عمر الخلايا بسبب ضعف نظام المناعة، "وهذه الحالة تتفاقم خارج المختبرات المعقمة ضد الجراثيم".

ويعتبر رودولف من أبرز باحثي ألمانيا والعالم في شؤون تقدم عمر الخلايا والشيخوخة، وسبق أن نشر دراسات عن نجاحه في تمديد أعمار الفئران بنسبة 40 في المئة بكبح جماح بروتين معين في الجسم. ويعتبر أيضًا رائد البحوث العالمية في التيلوميرات، وهي رؤوس الكروموسومات المسؤولة وظيفيًا عن عملية انقسام الخلايا.

أجرى رودولف تجاربه الأخيرة على فئران مخبرية عمل على إخضاعها للحمية خلال فترات مختلفة، تلقت خلالها من الغذاء 30 في المئة مما تلقته مجموعة فئران أخرى تغذت بشكل طبيعي. وركز العالم على قراءة نتائج الاختبار من خلال متابعة التغيّرات على الخلايا الجذعية الدموية المسؤولة عن إنتاج المزيد من كريات الدم الحمراء والبيضاء في الجسم.

خلايا مناعية أقل

يطلق الطب على هذه الخلايا الجذعية اسم "الخلايا الجذعية المكونة للدم"، وهي خلايا تفقد شيئًا من قدراتها الوظيفية (بمعنى أنها تتقدم في السن) في كل مرة تنقسم فيها. ويعرف العلم أن هذه الخلايا، لهذا السبب، تضع نفسها في حالة "استراحة" ولا تنشط إلا عندما يحتاج الجسم فعلًا إلى المزيد من الكريات الحمراء أو البيضاء.

علماء يجربون خداع الشيخوخة

 

توصل رودولف وفريق عمله إلى أن "الخلايا الجذعية المكونة للدم" في فئران الحمية، بغض النظر عن فترة الحمية التي قضتها، تضع نفسها في فترة استراحة أطول مما هي في الخلايا المماثلة في مجموعة المقارنة (التغذية الطبيعية أو غير الحمية). بل بقيت في حالة استراحة على الرغم من محاولة تنشيطها بمحفز خارجي، وبالتالي فإنها لم تتقدم في السن بسرعة خلايا فئران مجموعة المقارنة. اتضح أيضًا، وبعد عام كامل من الحمية، أن هذه الخلايا عملت أفضل وانشط على تكوين كريات الدم الحمراء والبيضاء مقارنة بمثيلاتها في فئران التغذية الاعتيادية.

المحبط في النتائج هو أن الحمية كبحت جماح نظام المناعة في فئران الحمية، وكونت الخلايا المكونة للدم خلايا دم بيضاء بنسبة 75 في المئة أقل مما كونتها نفس الخلايا في فئران مجموعة المقارنة. هذا جعل فئران الحمية أكثر عرضة للأمراض البكتيرية وللعوامل المسببة للأمراض السرطانية من فئران مجموعة المقارنة. ولم توفر الحمية لهذه الفئران مناعة كافية تقيها من العواقب الوخيمة إلا في غرف المختبرات المعقمة تمامًا وتخلو من الجراثيم.

ويعرف الطب أن الخلايا المناعية تتعرف على الخلايا الهرمة وتزيحها من الجسم فاسحة المجال أمام نمو خلايا جديدة، وهذا يعني أن تضرر نظام المناعة يصيب الخلايا المناعية بالعجز عن مواصلة هذه الوظيفة. وهذا يؤدي إلى زيادة أعداد الخلايا الهرمة في الجسم، وإلى زيادة سرعة تقدمها في العمر أيضًا، وبالتالي تقدم عمر الإنسان. وعلى أي حال، يرى فريق العمل أن الموضوع بحاجة إلى دراسات معمقة أكثر، لأن النحافة ليست ضمانة لعمر أطول. واشار البروفيسور ميشائيل باور، رئيس قسم التهاب الدم في جامعة ينا، إلى أن للبدناء فرصة أكبر من النحفاء في النجاة من التهاب الدم الجرثومي، كمثل.

تأخير الميكانزم 

في العام 2011، نجح فريق من علماء جامعة هانوفر الطبية (شمال ألمانيا) بقيادة رودولف في وقف ميكانزم تقدم عمر الخلايا في الفئران المختبرية. وكتب رودولف في العدد الإلكتروني من مجلة "نايتشر جينيتيك" آنذاك أن إبطال عمل بروتين معين في جسم الفئران أطال عمرها بنسبة تتراوح بين 30 و40 في المئة عن معدل الأعمار الطبيعي، ولم يتسبب بظهور أية أمراض سرطانية فيها.

يطلق على نهايات الكروموسومات اسم التيلومير، وهي المسؤولة عن انقسام الخلايا ونقل المعطيات الوراثية الكاملة إلى الخلايا الجديدة. ويتقلص طول التيلوميترات مع كل انقسام في الخلية ويقصر معها عمر الخلية. ويقدر العلماء أن الكروموسومات تنقسم 50 إلى 70 مرة خلال حياة الإنسان ثم تتوقف مع بلوغ التيلوميترات آخر قصر ممكن، وتطلق التيلوميترات بروتينًا اسمه "بـ 21" يتولى وقف عملية انقسام الخلايا. ونجح رودولف وزملاؤه في إبطال مفعول هذه المادة.

وفي إطار التجارب ذاتها، عمل الطالب الهندي انهيلي روي خودوري والباحث الصيني زهينيو جو، من مجموعة البروفيسور رودولف، على تنسيل مجموعة من الفئران لا تحتوي كروموسوماتها على مادة "بـ 21" عن طريق الهندسة الوراثية. ولاحظ الباحثان هذه الفئران وعددها نحو 100 فأر، عاشت فترة أطول من الفئران الاعتيادية. وقارن الباحثون أعمار هذه الفئران مع أعمار فئران عدلت وراثيًا بحيث تشيخ أسرع، وتوصلوا إلى أن وقف "بـ 21" يطيل عمر الفئران.

وذكر رودولف أن التجارب أظهرت بأن من الممكن إطالة عمر الفئران التي توقفت عملية انقسام الخلايا فيها. وتفاجأ العلماء حينما لاحظوا أن العملية لم تؤثر على الفئران التي تعمدوا إصابتها بأنواع مختلفة من الأورام السرطانية. وكان المعتقد أن توقف انقسام الخلايا يمكن أن يعمل على وقف نمو الأمراض السرطانية وان عملية تقدم العمر هي"عرض" من أعراض الحماية الآلية للجسم من السرطان.

وعبر رودولف عن أمله بأن يتمكن فريق العمل، في خطوة لاحقة، من اكتشاف مادة توقف عمل "بـ 21" ومن دون أن تترك مضاعفات. ويمكن في المستقبل أن يعمل العلماء على إطالة عمر عضو واحد من أعضاء الجسم بمثابة عملية علاجية، بمعنى وقف "بـ 21" في الكبد المتشمع بهدف إطالة عمر المريض دون الحاجة إلى عملية زرع كبد جديد. ويفتح اكتشاف علاقة وقف "بـ 21" بإطالة العمر الآفاق نحو تحسين كامل حياة الإنسان، لأن الفئران الخالية من "بـ 21" عاشت أنشط وأفضل وأصح من الفئران العادية.

إطالة عمر النباتات أيضًا

يمكن للعشاق في المستقبل أن يرسلوا زهورهم إلى حبيباتهم مرفقة بقصاصة تقول "دليل حب لا يذوي"، لأن مهندسي الوراثة الألمانيين سيحققون للعشاق هذا الحلم الرومانسي من خلال زهور عدلت وراثيًا كي تحتفظ بنظارتها أطول فترة ممكنة. ويعود سر وصفة "الشباب" الدائم الجديدة إلى النباتات، وهو ما يتمناه البشر أساسًا، إلى وقوع علماء جامعة فورتسبو على سر تقدم السن بالنباتات وتساقط أوراقها. 

يقول العلماء من جامعة يوليوس- ماكسميليان (فورتسبورغ) أنهم نجحوا على هذا الأساس في فرملة تقدم عمر أوراق التبغ. ويمكن بفضل هذا الاكتشاف مستقبلًا إطالة عمر الزهور أو رفع محتوى السكر في البنجر لأهداف صناعية.

وذكر توماس رويتش وزملاؤه من جامعة فورتسبورغ انهم توصلوا إلى تفسير واضح لأسباب تسرب المواد الغذائية من الأوراق والزهور إلى سيقان وجذوع النباتات، وهي العملية التي تسبب تقدم عمر الأوراق والزهور وتساقطها وذبولها. وهذه عملية طبيعية تعني بالنسبة للنباتات عدم سقوط المواد الغذائية المهمة على الأرض مع سقوط الأوراق وإنما عودتها إلى النبتة.

جزر خضراء

في العادة، تؤدي عملية التسرب إلى نشوء "جزر" خضراء على سطوح الأوراق تنتج بمعونة البكتيريا والفطريات مادة تشبه هرمون السايتوكينين تعمل، ولو موضعيًا، على تأخير تقدم عمر الورقة أو الزهرة. وثبت للباحثين من فورتسبورغ الآن أن الهرمون النباتي سايتوكينين يحفز في الأوراق فرز انزيم خاص يسمى ’انفرتيز‘ يعمل على تكسير السكر النباتي سكروز في الورقة إلى غلوكوز (سكر العنب) والفركتوز (سكر الفواكه). 

لما كانت النباتات قادرة على نقل السكر، وهو في حالة سكروز فحسب، فإن الغلوكوز والفركتوز يبقيان في الورقة ويطيلان بالتالي عمرها. وعمل رويتش وزملاؤه مخبريًا على أوراق التبغ محاولين تسريع تقدم عمر الورق أو إبطاءه باستخدام الهندسة الوراثية الكفيلة بتحفيز الانفرتيز أو كبح جماحه. ونجح العلماء في إبطاء تقدم عمر ورق التبغ من خلال تقوية نشاط الانفرتيز وبالعكس. وهذا ليس كل شيئًا لأن التحفيز الموضعي للانفرتيز على سطوح الأوراق المهددة بالسقوط أدى إلى نشوء "جزر خضراء" كبيرة ومؤثرة قللت سرعة تساقط الأوراق.

الحياة الأبدية

يرفض البروفيسور رودولف مصطلح البحث عن حياة دائمة، رغم النجاحات التي حققها، ويفضل تسمية عمله بالبحث عن صحة جيدة للإنسان تعد بشيخوخة طويلة. وعلق الباحث على نتائج البحوث الأخيرة بالقول انه لايبحث عن "ينبوع شباب" بالتأكيد، وما يهمه هو إبعاد الشيخوخة عن الأمراض التي يقصر أمدها. ويضيف إن عدم وجود جين واحد يقرر عملية تقدم العمر، "وإنما هناك مجموعة عوامل تقرر عمر الإنسان، ولا تتحمل الجينات سوى 30 في المئة من المسؤولية عن العمر، في حين تلعب العوامل الأخرى مثل نمط الحياة 70 في المئة في تقرير طول عمر الإنسان.

يؤدي انقسام الخلايا كل مرة إلى تقليل طول التليوميترات، وهذا يجعلها عرضة أكثر للتشوهات التي تؤدي إلى فقدان وظائفها والتعرض للأمراض والشيخوخة. اكتشف رودولف وجود هذه التشوهات في 70 في المئة من البشر الذين تجاوزوا الخمسين، فيركز في عمله على إطالة حياة التيلومترات بالضد من هذه التشوهات، بحثًا عن آفاق جديدة لمعالجة أمراض الشيخوخة التي تؤدي إلى الموت.

لن نتجاوز الحد الأقصى 

في مقابلة مع رودولف نشرتها وزارة الداخلية الألمانية على صفحتها الإلكترونية، قال يوجد حد أقصى لتقدم عمر الإنسان لا إمكان واقعيًا لتجاوزه، "فالحد الأدنى لعمر الإنسان تضاعف تقريبًا خلال 150 سنة الماضية، إلا أن الحد الأعلى لم يتغير كثيرًا على الرغم من التقدم الصحي والعلمي. ويمكننا دائمًا أن نرفع الحد الأدنى لطول العمر، لكننا "لن نتمكن من تجاوز الحد الأقصى".

وتحدث رودولف عن مؤشرات على أن الحد الأدنى لعمر الإنسان ارتفع بمعدل 0,25 سنة كل عقد من السنين. وعلى هذا الاساس، سيعيش الإنسان "حسابيًا" 250 عامًا بعد مرور 1000 سنة من الآن، وهذا ما لا يجده "واقعيًا".