قرر البريطانيون عاطفيًا الخروج من الاتحاد الأوروبي، وها قد دقت ساعة الحقيقة، فوجد البريطانيون أن الثمن الذي سيدفعونه غال جدًا. فماذا يعني حقًا خروج بريطانيا من صفوف الاتحاد الأوروبي؟.

إيلاف من لندن: مرّ شهران ونصف شهر على اختيار البريطانيين خروج بلادهم من صفوف الاتحاد الأوروبي، أو ما يعرف إصطلاحًا بـ "بريكسيت". وهذه مدة كافية، لا شك، لتقويم الخبراء التداعيات المباشرة للخيار البريطاني، ولمحاولة الإجابة عن سؤال راود الكثيرين: "ماذا يعني خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي؟".

بوابة أوروبا!
ربما تكون المسألة الاقتصادية هي الأشد حساسية في مكونات الجواب عن "ماذا يعني خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي؟"، خصوصًا بعد قمة العشرين الأخيرة، التي تزامنت مع مذكرة يابانية غير عادية، طالبت بخروج بريطاني هادئ من الاتحاد الأوروبي، منذرة بمغادرة الشركات والبنوك اليابانية المملكة المتحدة، ما شكل تحديًا كبيرًا لرئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي، بعد التحدي الأول الذي شكله الإنذار الأميركي بفك الارتباط التجاري القوي بين الولايات المتحدة وبريطانيا.&

فالجميع يدرك أن السبب الرئيس لاستثمار الشركات اليابانية والأميركية في بريطانيا هو أنها قاعدة انطلاق نحو 500 مليون مستهلك في السوق الأوروبية الموحدة.

ودعت المذكرة، المنشورة على الموقع الإلكتروني لوزارة الخارجية اليابانية، إلى صون حقوق بريطانيا في السوق الأوروبية المشتركة.&

وقالت إن الحكومة البريطانية أغرت شركات يابانية بالاستثمار فيها، لأنها بوابة أوروبا، وعلى بريطانيا الوفاء بوعدها هذا، و"نحن نطالب بريطانيا بأن تدرس هذه المسألة بشكل جدي، وأن ترد بطريقة مسؤولة، كي نقلل من شأن التداعيات التي يمكن أن تضر بهذه الشركات اليابانية التي ربما تقرر نقل مكاتبها الرئيسة إلى أوروبا القارية إذا لم تعد قوانين الاتحاد الأوروبي مطبقة في بريطانيا، وإذا خسر موظفو هذه الشركات حقهم في جواز سفر موحد يسمح لهم بحرية الحركة بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي".

إلى حين
في السياق نفسه، يتوقع المراقبون أن يُسمح لمهاجري الاتحاد الأوروبي في المملكة المتحدة بالبقاء، فحملة "بريكسيت" لم تدع إلى ترحيلهم. وإذا أرادت بريطانيا مفاوضة الاتحاد في مسألة الإبقاء على حرية الحركة مع دوله بعد خروجها منه، فلن يتضرر مهاجرو الاتحاد في المملكة المتحدة، وعددهم ثلاثة ملايين أوروبي، ولا مهاجرو بريطانيا في الخارج، وعددهم 1.2 مليون بريطاني.

لكن، في الوقت نفسه، يتوقع خبراء أن تعاني الحكومة البريطانية ضغطًا شديدًا يدعوها إلى التوقف عن مطالبتها بالإبقاء على حرية الحركة. ومن شأن هذا الأمر أن يُلزم المواطنين البريطانيين الحصول على تأشيرة للعمل أو العيش في أي دولة أوروبية، وأن يلزم مواطني الاتحاد الأوروبي الحصول على تأشيرة إن أرادوا الاستقرار في بريطانيا.

إلا أن المسألة ربما تتعدى حرية الحركة إلى نشوء موجة من الكره العنصري ضد مواطني الدول الأوروبية. فعلى الرغم من غياب أي إحصاءات رسمية، نشرت الصحف البريطانية تقارير أمنية تتحدث عن إساءات "مجهولة المصدر" كرسم غرافيتي عنصري على واجهة مدخل الرابطة الاجتماعية والثقافية البولندية، ودسّ منشورات في صناديق بريد كتب عليها: "لا للمزيد من الحشرات البولندية"، فيما تواصلت حملات على مواقع التواصل الاجتماعي تورط فيها مستخدمون نشروا كلمات مسيئة إلى مهاجرين أوروبيين في بريطانيا.&

وحدة مهددة
إلى ذلك، يثير كثيرون أسئلة مثيرة في شأن مستقبل المملكة المتحدة نفسها، في أثناء بحثهم عن الجواب المفترض عن السؤال المطروح. فثمة مراقبون يؤكدون أن رئيسة وزراء اسكتلندا نيكولا ستيرجين، التي كانت متمسكة بالبقاء في الاتحاد، ربما تبادر إلى تنظيم استفتاء جديد حول استقلال بلادها عن المملكة المتحدة، علمًا أن &مؤيدي الـ"بريكسيت" أوضحوا منذ البداية أن لا علاقة لاحتمال استقلال اسكتلندا بعضوية بريطانيا في الاتحاد الأوروبي.

وخلافًا لإنكلترا وويلز، صوتت غالبية سكان أسكتلندا لمصلحة البقاء في الاتحاد، وقالت ستورغون: "من غير المقبول ديمقراطيًا أن تُخْرج البلاد من الاتحاد خلافًا لإرادتها"، مرجحةً إجراء استفتاء ثانٍ لاستقلال اسكتلندا، خصوصًا أن استطلاعات رأي حديثة تشير إلى أن نحو 60 في المئة من الاسكتلنديين يؤيدون الانفصال عن بريطانيا لأنهم يريدون البقاء ضمن الاتحاد الأوروبي.

وفي هذا السياق، يقول خبراء دستوريون إن اسكتلندا تستطيع التزام قوانينها ورفض الـ"بريكسيت"، ولو بدا ذلك تطرفًا في موقفها.&
أيرلندا الشمالية، من جانبها، صوّتت أيضًا ضد الـ "بريكسيت"، ودعا نائب رئيس الوزراء مارتن ماكغينيس، وهو من حزب "شين فين"، إلى استفتاء المواطنين في شأن الوحدة بين الشمال والجنوب، خارج حدود المملكة المتحدة، والبقاء ضمن الاتحاد الأوروبي، على الرغم من تشكيك لندن في قانونية مثل هذه الدعوة.&

وبمعزل عن قانونية ذلك، ثمة حال من الغموض تكتنف ما يُسمى "الحدود شديدة الإجراءات" التي ينبغي وضعها حيز التنفيذ بين الشمال والجنوب في حال خروج الشمال من الاتحاد الأوروبي.

أين القوة البريطانية؟
وإذ تباشر بريطانيا مفاوضات معقدة مع الاتحاد الأوروبي في شأن الخروج تستمر سنتين كحد أقصى، تقرر هي شروط الوصول إلى السوق الأوروبية المشتركة. وحذر جان كلود يونكر، رئيس المفوضية الأوروبية، من أن "المملكة المتحدة ستكون دولة ثالثة لن نراعيها"، في ما يبدو تشددًا أوروبيًا شبه انتقامي من بريطانيا.

وتوقع روبرتو أزيفيدو، مدير عام منظمة التجارة العالمية، أن تستمر عملية الانفصال 10 أعوام. وقال: "ستستغرق بريطانيا وقتًا طويلًا قبل أن تستعيد مكانةً مشابهة لمكانتها حين كانت عضوًا في الاتحاد"، مسلطًا الضوء على موقفها التفاوضي الضعيف. وهذا يثير السؤال الآتي: هل فقدت بريطانيا قوتها السياسية؟.

منذ لحظة انقشاع غبار التصويت عن اختيار البريطانيين الخروج من الاتحاد الأوروبي، ساد بريطانيا ارتباك سياسي غير مسبوق في تاريخها السياسي الحديث، طال الحكومة والمعارضة على حد سواء. وليس أدل على ذلك من أحد أكثر عناوين نيويورك تايمز إثارة للجدال: "بريطانيا المشهورة باستقلالها السياسي والقانوني تنحدر نحو الفوضى".

ربما كان أحد أهم صور هذه الفوضى تراجع الحملات المحرّضة على الـ "بريكسيت" عن كثير من وعودها، بعيد ساعات من إعلان نتائج الاستفتاء البريطاني، وفي مقدمها الإدعاء أن المملكة المتحدة ستسترد 350 مليون جنيه إسترليني كانت مخصصة للاتحاد الأوروبي أسبوعيًا، كي تنفقها على حزم الخدمات الصحية المرصودة للبريطانيين، علمًا أن هذا المبلغ يمثل مساهمة بريطانيا الإجمالية في ميزانية الاتحاد الأوروبي، وأنها تستفيد في مقابل ذلك من أضعاف هذا المبلغ.&

وفي اليوم التالي للاستفتاء، نأى نايجل فاراج وبوريس جونسون ودونكن سميث، أشد المتحمسين للـ "بريكسيت"، بأنفسهم عن وعد استعادة 350 مليون جنيه إسترليني، وزعم سميث أن الأمر كان سعيًا لا وعدًا.

إلى جانب هذا الوعد ثمة وعود أخرى، مثل استعادة السيطرة على حدود بريطانيا، والحدّ من الهجرة. إلا أن عددًا من مؤيدي الخروج اعترفوا سريعًا بأن المملكة المتحدة قد تقبل بشرط "حرية الحركة عبر حدودها" كي تستطيع الوصول إلى السوق الأوروبية الموحدة.
&