&

يقع بئر مُدَرَّج يحمل اسم "أغرسين كي بولي"، على بعد دقائق معدودات من مبنى "كونوت بلَيس"، وهو المركز المالي والإداري الذي يُعد القلب التجاري الصاخب للعاصمة الهندية نيودلهي. رغم ذلك يبدو هذا البئر العتيق خفياً رغم أنه يقع على مرأى من الكافة، إلى حد أن غالبية سكان المدينة لا يعرفون حتى بوجوده.

والبئر، الذي يُعرف اختصارا باسم "بولي" أو "باوري"، يعود إلى القرن الرابع عشر. ويُعبر عن تصورٍ معماريٍ فريدٍ من نوعه، توصل إليه الهنود في العصور الوسطى لمواجهة أزمة شح المياه المزمنة.

فقد حُفرت هذه الآبار الكبيرة تحت عمقٍ هائلٍ من سطح الأرض، إلى حد أنه لا يمكن الوصول إليها سوى عبر الهبوط على درجٍ قد يصل انحداره إلى أسفل نحو 30 متراً، وذلك للاستفادة من مناسيب المياه الجوفية التي يصعب الوصول إليها، لتصبح تلك الآبار بمثابة خزانات مياه متطورة من نوعها، توفر الماء على مدار العام للسكان.

وبينما كنت أقف على قمة درجٍ مؤلفٍ من 104 درجات، ينحدر إلى عمق الأرض واصلاً إلى هذا البئر، كان بوسعي أن أرى في خلفية المشهد المباني شاهقة الارتفاع المتناثرة في أنحاءٍ مختلفة من المدينة.

وشكلت الواجهات البيضاء لتلك المباني تناقضاً يخطف الأبصار مع قرميد الدرَّج الذي يتلاشى مرآه كلما هبطت إلى أسفل في الظلام. ويُطوق هذا الدرَّج من ثلاث جهات بجدرانٍ عالية مُزينة بأقواسٍ، ومحاريب، ودهاليز، لا ينم أيٌ منها عن طبيعة ما يقبع تحت سطح الأرض.

الآبار المُدَرَّجة في الهند

وفرت خزانات المياه هذه الإمدادات اللازمة من الماء للهنود في العصور الوسطى

&

وقد وصفت عالمة الآثار والمؤرخة الفنية الأمريكية فيكتوريا لاوتمان - التي تستعد لنشر كتابها "الآبار المُدَرَّجة الآخذة في الزوال في الهند" - تلك المشاعر الجامحة التي اعترتها حينما هبطت للمرة الأولى في أحد هذه الآبار بالقول "كانت التناقضات صارخةً للغاية، وقد نُشِطّت كل حواسي: الضوء الساطع أصبح ظلاماً حالكاً، والحرارة الشديدة استحالت هواءً بارداً مُحيطاً بكل شيء في الجوار، أما الجلبة التي تسود باستمرار فوق سطح الأرض فقد غدت سكوناً وخموداً. وكلما هبطت أكثر، تبدل كل شيء بشكل أكبر".

ومع أن الآبار المُدَرَّجة تُوجد عامةً في المناطق القاحلة شمالي وغربي الهند، فإنها ليست قاصرةً على هذه البقاع وحدها. ففي جنوبي البلاد، تأخذ هذه الآبار شكل صهاريج تابعةٍ للمعابد تُعرف محلياً باسم "كلياني" أو "بوشكاراني". وتؤدي تلك الصهاريج في الأساس الوظيفة نفسها التي تقوم بها الآبار المُدَرَّجة.

ورغم أن أقدم بئر مُدَرَّج في الهند يعود - حسب الاعتقاد السائد - إلى عام 600 ميلادية، فإن غالبية الآبار التي لا تزال قائمة حالياً حُفِرت بعد القرن العاشر.

وانتشرت مثل هذه الآبار بأعدادٍ كبيرة في الأماكن العامة بالمدن والبلدات، وكذلك على طول طرق التجارة الرئيسية، وكان يُسمح للسكان كافة باستخدامها.

وأصبحت تلك الآبار بمرور الوقت مراكز تلاقٍ ونقاط جذبٍ ذات طابع اجتماعي، يجتمع فيها المسافرون، والنساء اللواتي كن يأتين لجلب المياه منها يومياً. وفي هذه الآبار، دخلت العناصر البديعة للعمارة والتصميم في هيكل بنائها الأساسي التقليدي، لترى فيها الأقواس الرشيقة، والأعمدة البديعة، والمنحوتات، والنقوش المزخرفة.

الآبار المُدَرَّجة في الهند

أُضيفت الأقواس والأعمدة البديعة والمنحوتات والنقوش المزخرفة إلى تلك الآبار المُدَرَّجة

&

وبنظر ديفيا غوبتا، وهو مهندس معماري بارز متخصص في شؤون الحفاظ على المباني التاريخية، ويرأس كذلك شعبة التراث العمراني في الصندوق الوطني الهندي للفن والتراث الثقافي، تعد تلك الآبار المُدَرَّجة "مهيبة في مفهومها وتصورها، وفنها المعماري والزخارف الخاصة بها، بما يجعلها لا تقل في هذا الشأن عما عاصر أزمنة حفرها، من معابد وقصور".

ويحمل أحد أكبر تلك الآبار وأروعها اسم "راني كي فاف"؛ أو "فاف"، وهي المفردة المحلية المُستخدمة في ولاية غوجارات غربي الهند للإشارة إلى "البئر المُدَرَّج". وقد حُفر هذا البئر، الذي أدرج على قائمة التراث التابعة لمنظمة اليونسكو، في القرن الحادي عشر على يد الملكة أوداياماتي كـ"عطيةٍ" منها إلى رعيتها.

وفي صباح يوم شتوي بارد، تفقدتُ خمسة طوابق من هذا البئر الضخم، بصحبة مرشد يُدعى بوبندرا جاديجا. ويتألف البئر في الأصل من سبعة طوابق تحت الأرض، لكن الطابقين السفليين الأخيرين مغلقان حالياً أمام الزوار، بفعل زلازل وقعت مؤخراً في هذه المنطقة.

وبينما أخذت أتأملُ التماثيل الرائعة المتقنة التي تصطف على الجدران والأعمدة الداعمة لها، أطلعني جاديجا على استخدامٍ آخر طريفٍ لأماكن مثل هذه، ألا وهو نشر الملوك الذين حكموا هناك في غابر الأزمان مخبريهم في ذلك المكان للتلصص على ما يدور بين رعيتهم.

فقد كانت النسوة تجتمعن في تلك الآبار من مختلف المناطق المحيطة، للثرثرة وتبادل القيل والقال حول حياة كل منهن، ووسائل عيش أسرهن. وكان هؤلاء المخبرون يتنصتون على تلك الأحاديث وينقلونها لرؤسائهم، مُشكلين بذلك شبكة تجسس فعالة، لا يتطلب عملها جهداً يُذكر.

الآبار المُدَرَّجة في الهند

شكلت الآبار المُدَرَّجة مكاناً للتجمع والالتقاء بالنسبة للمسافرين والنسوة

&

وكما هو متوقعٌ في بلد مثل الهند؛ ترتبط العديد من الأساطير التي تروي عن قصص حبٍ أو شجاعة، بالعديد من الآبار المُدَرَّجة هناك. وتدور أكثر هذه الأساطير مأساوية حول بئر "أدالاج ني فاف" الواقع قرب مدينة أحمد آباد بولاية غوجارات.

وتقول الأسطورة إن المملكة التي كانت قائمة في هذا الموقع تعرضت لغزو من قبل المسلمين عام 1499، بقيادة السلطان محمود بيغدا الذي قتل الملك الهندوسي رانا فير سين، قبل أن يقع في حب أرملته الحسناء الملكة روداباي. ومقابل موافقتها على الزواج من بيغدا، طلبت الملكة منه إكمال العمل في البئر الذي كان زوجها قد بدأ حفره.

ومع بدء تشكل ملامح البئر، تجسدت مشاعر حب القائد المسلم للأرملة الهندوسية فيه، عبر ما شهده من امتزاج أساليب العمارة الهندية والإسلامية، في صورة تماثيل ومنحوتات معقدة امتدت إلى خمسة طوابق في عمق الأرض. وعندما اكتمل العمل في نهاية المطاف، ودُشن البئر بفخر أمام الملكة، تفقدته قبل أن تُغرق نفسها على حين غرة في مياهه.

ولا يزال هذا البئر أحد أروع الآبار المُدَرَّجة الموجودة في هذه البقعة، رغم أن أصداء تلك القصة المأساوية المرتبطة به تلاشت بمرور الزمن، إلى حد أن كثيراً من سكان المناطق المحيطة به، لا يعلمون مثل تلك التفاصيل.

وقبل مئة عامٍ فحسب؛ كان هناك قرابة 3000 من صهاريج المياه الخلابة هذه تتناثر في مختلف المناطق التي تعاني من قلة المياه في الهند.

لكن استخدام هذه الآبار تقلص شيئاً فشيئاً، نتيجة تراجع مناسيب المياه الجوفية بفعل تزايد عدد السكان، وكذلك بسبب الاتجاه نحو مصادر أخرى للحصول على المياه مثل الصنابير، أو اللجوء إلى أساليب مغايرة لتخزينها مثل الصهاريج والحاويات.

بجانب ذلك، اعتبر الحكام البريطانيون للهند في الحقبة الاستعمارية الآبار المُدَرَّجة غير صحية، وبيئة خصبة لانتشار الأمراض، ولذا قاموا بسدها بالطين والوحل، وإغلاقها أمام العامة.

الآبار المُدَرَّجة في الهند

يشكل بئر "أدالاج ني فاف" عملاً معمارياً مفعماً بمشاعر الحب التي تجسدت في صورة امتزاج أساليب العمارة الإسلامية والهندية

&

وفي الوقت الراهن، صار العديد من الآبار العتيقة المتبقية مهملة ومتهالكة وخربة، بل إن بعضها بات يُستخدم مكباً للنفايات. وفي الكثير من الحالات، بلغ الأمر أن تجمعاتٍ سكانية بأسرها لا تدري أن ثمة بئراً مُدَرَّجاً أثرياً يقع في منطقةٍ قريبةٍ منها، أو لا تدرك ببساطة وجود أهمية من أي نوع لمثل هذا البئر.

من بين هؤلاء بارتباي، الذي يبيع الشاي قرب بئر "باني كي فاف"، والذي قال لي وهو يلوح بيده في إشارة إلى عدم اقتناعه بأهمية هذا البئر: "أجل، يأتي الكثير من السائحين إلى هنا هذه الأيام، ولكن (البئر) .. مهشم تماماً، لذا ليس بوسعي فهم ذلك حقاً".

لكن على الرغم من كل هذا الإهمال، بدأت بعض الآبار المُدَرَّجة - التي لا تزال في حالة جيدة - في التحول إلى مزاراتٍ للسائحين، وهو ما تستحقه عن جدارة.

كما أنه من المحتمل أن تعود هذه الآبار - التي تشكل نماذج للهندسة المعمارية الرائعة والتي تحفل في الوقت نفسه باستخدامٍ بارع ومتطور للأساليب الهندسية - لتصبح مفيدةً مرة أخرى في الوقت الراهن، وذلك بالنظر إلى شبح الجفاف الذي واجهته الهند بانتظام على مدار العقود القليلة الماضية.

وبرأي غوبتا، هذا المهندس المعماري الذي يرأس شعبة التراث العمراني في الصندوق الوطني الهندي للفن والتراث الثقافي، من الممكن أن يظل لـ"الآبار المُدَرَّجة" دورٌ في تخزين المياه التي أصبحت شحيحةً للغاية، وكذلك في تحسين منسوب المياه الجوفية. فربما لا يزال هناك مستقبلٌ لتلك الآبار العتيقة والأثرية.

يمكنك قراءة الموضوع الأصلي على موقع .BBC Travel