إيلاف من موسكو: ثمة ما يشبه الاجماع في العاصمة الروسية على أن الزيارة المرتقبة لخادم الحرمين الشريفين تأتي في توقيت عميق الدلالات ومتعدد الأبعاد.

فمن قائل إنها تبدو في وفاق مع حركة التاريخ، ومقتضيات اللحظة، بما قد يعني إعلاناً غير مباشر عن اتفاق البلدين روسيا والسعودية على أن الحرب في سوريا في سبيلها الى نهايتها، وهو ما يعني ضمنا اتفاقاً بين الطرفين الاهم حول التنسيق والعمل المشترك في مواجهة أخطار الارهاب الدولي والقضاء على داعش والتنظيمات الإرهابية في المنطقة. 

وهناك من يتوقف عند أهميتها سواء بالنسبة للعلاقات الثنائية بين البلدين، أو بالنسبة لعلاقات روسيا مع العالمين العربي والإسلامي، فضلاً عن مواصلة التأكيد على أنها تظل الأولى في التاريخ لعاهل السعودية للأراضي الروسية، مثلما كانت زيارة الرئيس فلاديمير بوتين للسعودية في عام 2007، الأولى أيضا لرئيس روسي منذ كان الاتحاد السوفييتي أول دولة تعلن عن إعترافها بالمملكة العربية السعودية في عام 1926. 

وبهذا الصدد، لا يقتصر المعلقون في موسكو على الجانب التاريخي لهذه الزيارة، حيث يمضون في تعليقاتهم إلى ما هو أبعد، بقولهم إن معظم الرؤساء والزعماء العرب كانوا ترددوا على زيارة موسكو خلال العامين الاخيرين، بل وهناك منهم من قام بزيارتها أكثر من مرة، عدا العاهل السعودي الذي تبدى حرص بوتين واضحًا على توجيه الدعوة اليه، فيما جدًدها أكثر من مرة، في نفس الوقت الذي بدت فيه قيادة السعودية، وكأنها عازفة عن القيام بمثل هذه الزيارة خشية تفسيرات في غير موضعها، في توقيت مواكب لتصاعد أوزار الحرب في سوريا، شهد في الكثير من جوانبه استمرار تصاعد الخلافات بين البلدين تجاه أطر وأشكال التسوية السياسية بين الأطراف المعنية في سوريا.

 

الأمير محمد بن سلمان خلال لقاء بوتين في سان بطرسبورغ عام 2015

 

ويذكر المراقبون أن زيارة الامير محمد بن سلمان لـ سان بطرسبورج ومباحثاته مع الرئيس بوتين في يونيو 2015 كانت مقدمة مناسبة للتمهيد لزيارة العاهل السعودي لروسيا، والتي كان تحدد لها نوفمبر من ذلك العام. إلا أن العمليات العسكرية التي كانت بدأتها روسيا في سوريا في سبتمبر 2015 حالت وعلى ما يبدو دون إتمام هذه الزيارة، حسب اعتقاد أولئك المراقبين. 

 

 

على أن هناك من يكتفي بالتلميح بعيدًا عن التصريح لدى تناوله لأهمية مواقف وأدوار أطراف ثالثة، كانت ولا تزال تبدو بمثابة الحاضر الغائب في العلاقات الروسية السعودية، ومنها الادارة الأميركية وتحديدًا إبان سنوات حكم الرئيس الأميركي السابق باراك اوباما الذي كان تراجع في عام 2013 عن خطته حول ضرب سوريا، وتخلى عن إصراره على رحيل رئيسها بشار الأسد، وما تلا ذلك من إعلان الرياض عن تنازلها عن حقها في شغل مقعدها الموقت في مجلس الأمن الدولي، وما أعقبه من تطورات عاصفة زادت من حدة الشقاق بين موسكو والرياض، والذي لم يفت في عضد القيادتين ورغبتهما في الحفاظ على "شعرة معاوية"، وهو ما تمثل في استمرار الاتصالات والزيارات على المستوى الذي فرضته مقتضيات المرحلة. 

رأب الصدع

على أن ذلك وعلى ما يبدو أيضًا كان وراء إصرار قيادات البلدين على تكثيف محاولاتهما للعثور على السبل المناسبة لرأب الصدع، والتي سرعان ما توصلا اليها انطلاقا من صدق النوايا والرغبة المشتركة في تحقيق الاستقرار في هذه المنطقة المتاخمة لحدود كل من البلدين، والتي باتت مصدر أخطار مباشرة تهدد مصالحهما، وتنذر بانتقال نيرانها بعيدًا إلى ما وراء الحدود، وهو ما اعترف به، وحذر منه الرئيس الروسي بوتين في أكثر من مناسبة، ولا سيما بعد إعلانه عن بدء عملياته العسكرية داخل الاراضي السورية اعتبارًا من سبتمبر 2015، تحسبًا وكما قال لأخطار عودة ما يقرب من عشرة آلاف من المقاتلين في صفوف داعش من أبناء روسيا وبلدان الاتحاد السوفييتي السابق. 

ولعل ذلك ما يمكن أن يكون تفسيرًا للمزيد من اتصالات الجانبين ورفع مستوى اللقاءات الثنائية حتى مستوى القمة، وهو ما تحقق على هامش أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة في نوفمبر 2015، أو بعد ذلك على هامش قمة العشرين في تركيا. وتقول الشواهد إن ما تحقق من إيجابيات خلال تلك اللقاءات ساهم في إزالة الكثير من العراقيل التي تناثرت علي طريق تسوية الأوضاع وحالت دون تطوير العلاقات الثنائية.

 

زيارة الملك سلمان لروسيا تدشن مرحلة جديدة في علاقات البلدين

 

وإنطلاقًا من كل ذلك، تأتي زيارة العاهل السعودي لتدشن بداية مرحلة واعدة في علاقات البلدين، وما سوف ينسحب لاحقاً على علاقات كل من روسيا والمملكة بالعالمين العربي والإسلامي. وفِي هذا الصدد تحديداً، يتوقع الكثيرون من المراقبين احتمالات توصل الجانبين إلى رؤية مشتركة كاشفة لأبعاد الحلول المُحتملة لتسوية الكثير من مشاكل المنطقة وتبديد المخاوف التي تؤرق البعض تجاه مواقف بعض بلدانها.

علاقات قائمة

ويمضي هؤلاء المراقبون في توقعاتهم على نحو أكثر تصريحًا حين يشيرون إلى الخلافات والمخاوف التي تساور السعودية تجاه "الخطر الإيراني"، وعلاقة ذلك بما صار يسمى بـ"أزمة قطر مع جيرانها من الدول العربية". 

وإذا كان الرئيس بوتين أوجز في أكثر من تصريح موقفه من الازمة القطرية من خلال تأكيده على ضرورة تسوية الخلافات عن طريق الحوار والمباحثات السياسية، بعيداً عن التلويح بأية حلول عسكرية، فقد كشف ديمتري بيسكوف الناطق الرسمي باسم الكرملين عن مواقف موسكو مما يسمي بالأخطار الإيرانية ومدى تأثيرها على العلاقات مع السعودية بقوله "إن علاقات موسكو بالرياض "علاقات قائمة بذاتها"، وليس هناك ما يدعو إلى ربطها بأية توازنات. إنها تمثل مساراً منفصلاً في سياستنا الخارجية انطلاقاً من المكانة الهامة التي تشغلها السعودية في المنطقة وفي العالم العربي بأسره". 

أما عن جدول أعمال الزيارة المرتقبة لموسكو، فقد أوجزها الكرملين في بيان قال فيه انه: "سيشمل مجمل أشكال التعاون بين البلدين، وأن الرئيس الروسي والعاهل السعودي سوف يبحثان الخطوات المشتركة الممكن اتخاذها من أجل تعزيز العلاقات الثنائية بين موسكو والرياض في مجالات التجارة والاقتصاد والاستثمارات والثقافة، فضلاً عن المجالات الإنسانية، إلى جانب "المسائل الدولية الأكثر إلحاحا". 

وأشار البيان كذلك إلى أنّ الجانبين "سوف يعيران اهتمامًا خاصًا بتطورات الأوضاع في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، مع التركيز على سبل تسوية الأزمات القائمة في المنطقة"، وكذلك التوقيع "على مجموعة من الاتفاقيات الثنائية بين روسيا والمملكة".