إيلاف من موسكو: التصريحات التي أدلى بها الكسي كودرين رئيس مركز "المعالجات الاستراتيجية" حول "ان روسيا لا تحسن تقدير الآثار المترتبة على العقوبات التي أقرتها الولايات المتحدة ضدها في الفترة الاخيرة" تبدو عميقة المغزى وبعيدة الدلالات، انطلاقا من كون كودرين يشغل موقعا متميزا في فريق الرئيس فلاديمير بوتين بحكم صداقتهما القديمة منذ مطلع تسعينات القرن الماضي، وعمله كوزير للمالية ونائب لرئيس الحكومة خلال الفترة 2000-2011. 

وكان كودرين أعلن في معرض حديثه في مؤتمر "التكامل الأوروأسيوي" ان القائمة التي كشفت عنها وزارة الخارجية الأميركية في 28 اكتوبر الماضي تشي بتبعات جديدة تهدد أمن روسيا وإستقرارها ومستقبل علاقاتها مع كثير من البلدان الاجنبية. 

ومن اللافت ان هذه القائمة الأميركية تشمل أجهزة الامن والمخابرات العامة والعسكرية، و33 من مؤسسات المجمع الصناعي العسكري بما فيها مؤسسة صادرات السلاح، وكذلك قطاع الطاقة في روسيا بما يعني العمل من أجل "شل" حركة صادرات روسيا وعلاقاتها الاقتصادية والعسكرية مع العالم الخارجي، وتحذير المؤسسات الاجنبية من مغبة التعامل مع روسيا وتهديدها باحتمالات أن تشملها العقوبات المفروضة ضد روسيا. 

وإذا أخذنا في الاعتبار ما سبق وحذر منه كودرين صديق ورفيق بوتين منذ سنوات الصبا والفتوة، حول "ضرورة التخفيف من حدة التوتر والتراجع عن المواجهة الجيوسياسية مع الولايات المتحدة، تحسبًا لعدم سقوط روسيا ضحية التخلف التكنولوجي"، فاننا نكون أمام "محاولة صريحة واضحة سافرة، تستهدف دفع الرئيس الروسي الى "الاستسلام" أمام الضغوط الأميركية والغربية، والقبول بما تطرحه واشنطن من مخططات وسياسات تستهدف النيل من سيادة ومصالح الدولة الروسية. 

أمجاد روسيا

ونذكر أن الرئيس بوتين سارع آنذاك بوأد مثل هذه "المحاولات الانهزامية" من خلال إستشهاده بأمجاد روسيا على مدى ما يزيد عن ألف عام، وانها طالما صمدت أمام شتى صنوف المحن والالام، وحققت اهم الانتصارات على مر تاريخها المعاصر وأخضعت الكثير من الامبراطوريات المجاورة، وانها لن تُقْدِم ابدًا على المتاجرة بسيادتها وإستقلالها ووحدة أراضيها، من أجل الخروج من "ربقة التخلف التكنولوجي". 

ونضيف أن تصريحات كودرين وما صدر عن الرئيس الروسي من تعليقات حول هذه القضية، أثارت في حينها ما سبق وتداولته الاوساط المحلية والعالمية من أخبار حول خطة قديمة كانت أضمرتها الولايات المتحدة في مطلع تسعينيات القرن الماضي لتقسيم روسيا الى ما يزيد عن الخمسين ولاية ومقاطعة، بما كان يمكن معه أن تلحق روسيا بسابقها الاتحاد السوفييتي السابق، وهو المخطط نفسه الذي أعلنت عنه مصادر الادارة الأميركية السابقة ابان سنوات حكم الرئيس باراك اوباما بهدف الاطاحة بالرئيس بوتين، وهو ما يتسم بأهمية كبيرة مع بدء الاستعدادات للانتخابات الرئاسية المرتقبة في روسيا في مطلع العام المقبل. 

وفي هذا السياق يمكن تناول تصريحات الكسي كودرين الذي لا يزال يشغل موقعًا معتبرًا في النسق الاعلى للسلطة في روسيا، وكذلك ما يحتدم من جدل حول احتمالات ترشح شخصيات عبثية هامشية لا وزن ولا تأثير لها في المجتمع الروسي لمنصب الرئاسة في الانتخابات المقبلة مثل كسينيا سوبتشاك ويكاتيرينا جوردون، من منظور استمرار محاولات إحياء نشاط "الطابور الخامس" الذي طالما عاث فسادًا في روسيا ابان سنوات حكم الرئيس الاسبق بوريس يلتيسن في تسعينيات القرن الماضي، بما كادت معه روسيا تلحق بسلفها الاتحاد السوفييتي السابق، وهو ما حال دونه وصول فلاديمير بوتين الى سدًة السلطة في الكرملين مع مطلع عام 2000.

وفي هذا الصدد، نشير الى تصريحات كسينيا سوبتشاك الاعلامية المثيرة للجدل، وذات الماضي "متقلب الاطوار ومتباين الاوجه الاخلاقية"، حول أن "شبه جزيرة القرم أرض أوكرانية وينبغي إعادتها الى أوكرانيا"، بما يعني دستوريًا التفريط في وحدة أراضي وسيادة الدولة الروسية. 

وعلى الرغم من أن الغالبية الساحقة من مواطني روسيا لا تأخذ على محمل الجد إحتمالات ترشح شخصيات على غرار سوبتشاك أو جوردون، بل وحتى ألكسي نافالني زعيم المعارضة "المحدودة الانتشار"، فإن استمرار الدوائر الغربية وأبواقها الاعلامية في نشر أخبارها المقرونة بالكثير من المبالغات و"المحسنات اللفظية"، لا يمكن تناوله إلا في اطار إستراتيجية محاولات إحياء نشاط "الطابور الخامس"، والعودة الى مخططات زعزعة الاستقرار في روسيا، والتأثير على ميول وتوجهات مواطني روسيا، أملاً في "تحول الكم الى الكيف"، بما قد يسهم لاحقًا في الاطاحة بالرئيس فلاديمير بوتين وهو ما يظل أمرًا بعيد المنال.