رغم أن احدى الركائز التي ترفعها إسرائيل لجلب اليهود إليها من باقي بقاع الأرض أن فلسطين "ارض الميعاد" إلا ان وثائقا روسية تكشف ان الولايات المتحدة حاولت شراء القرم وطنا قوميا لليهود بدلا من فلسطين.

إيلاف من موسكو: مع حلول الذكرى المئوية لوعد بلفور، تعود الذاكرة إلى ما مضى من عقود طوال شهدت الكثير من تعرجات التاريخ وتعقيداته، ومنها ما تقول الوثائق الروسية انه يتعلق بمحاولات الولايات المتحدة الاميركية بإيعاز من الوكالة اليهودية الأميركية شراء شبه جزيرة القرم في عشرينات القرن الماضي أي بعد صدور وعد بلفور بسنوات قلائل، لتحويلها الى وطن قومي لليهود بدلا من فلسطين التي كان اختارها وزير الخارجية البريطاني آرثر جورج بلفور وزير الخارجية البريطانية في عام 1917 هدفا لتحقيق وعده الشهير. 

 البداية تستمد أولى خيوطها من مطامع الصهيونية العالمية ومحاولات الوكالة اليهودية الأميركية التي استهدفت بناء وطن قومي لليهود في شبه جزيرة القرم، وتختلط مع ما تحتفظ به الذاكرة من حقائق حول ما أُميط عنه اللثام من حقائق ومعلومات بشأن ما تعرض له وزير خارجية الاتحاد السوفييتي السابق فياتشيسلاف مولوتوف اليهودي الاصل من متاعب اضطر معها وتحت ضغط ستالين إلى طلاق زوجته بسبب تجسسها لصالح جولدا مائير أول سفيرة لاسرائيل في موسكو، وهو ما كشف عنه كثيرون من "شاهدي عيان ذلك العصر" في مذكراتهم حول المسألة اليهودية إبان عهد ستالين، وكذلك ميخائيل بولتورانين أول وزير إعلام للرئيس الروسي الأسبق بوريس يلتسين ونائبه الاول في رئاسة الحكومة الروسية، استنادا الى ما إطلع عليه من وثائق أرشيف الـ"كي جي بي" بحكم تكليفه برئاسة لجنة الكشف عن وثائق "كي جي بي" (لجنة امن الدولة). 

استعرض بولتورانين مطامع اليهود تجاه شبه جزيرة القرم وما فعلوه من أجل تحويلها إلى وطن قومي بدلا من فلسطين في عشرينيات القرن الماضي. كشف المسؤول الروسي الأسبق الكثير من الوقائع التي كان من أبرز أبطالها ستالين وروزفلت وجولدا مائير، إلى جانب ما قاله حول أسباب اضطرار ستالين الى تهجير تتار القرم إلى سهوب سيبيريا وقزخستان تحت ضغط اميركي من أجل توطين اليهود الذين تدفقوا على شبه الجزيرة، في توقيت كانت الولايات المتحدة تنسج فيه حبائلها للانتشار على كل ضفاف البحر الأسود بما يعزل عمليا الاتحاد السوفييتي عن هذه البحيرة الدافئة .

البداية نجدها فيما الم بالسلطة السوفيتية الجديدة من أزمات مالية فيما حل بالامبراطورية الروسية في أعقاب ثورة اكتوبر 1917 وما تبعها من حرب اهلية وازمات اقتصادية، نجحت اللجنة اليهودية الاميركية American Jewish Joint Distribution Committee, ( جوينت ) التي تاسست عام 1914 لتقديم الدعم الى يهود شرق أوروبا، في استغلالها من اجل اقناع لينين في عام 1922 بجدوى شراء صكوك مالية تقدر بعشرين مليون دولار تسدد بمقدار مليون ونصف مليون دولار سنويا مع تأجيل السداد حتى عام 1945 وعلى عشر سنوات بضمان 375 الف هكتار من أجود أراضي القرم مقابل انشاء "الجمهورية اليهودية السوفيتية الاشتراكية". 

وتقول الوثائق التي أماط ميخائيل بولتورانين اللثام عنها ان لينين قبل هذه الشروط التي التزم بها خلفه ستالين بناء على اتفاق وقعه مع الوكالة اليهودية في عام 1929 بانشاء ما يسمي بـ "كاليفونيا القرم". وكانت اللجنة اليهودية الأميركية اقنعت القيادة السوفيتية بجدوى الاتفاق الذي دعمته بالعديد من العروض المغرية ومنها امداد شبه الجزيرة باحدث المعدات الزراعية الامريكية، وهو ما أسفر في نهاية المطاف عن موافقته على توطين اليهود هناك. 

وتدفق اليهود على القرم لتظهر المزارع التعاونية (الكولخوز) والتي بلغ عددها 186 مزرعة ، ومعها بدأ صرف اولى القروض المالية التي كان التقاعس في سدادها يعني أحقية أصحاب الصكوك وكان عددهم 200 من اليهود الاميركيين في ملكية أراضي القرم ومنهم الرئيس روزفلت وزوجته اليانورا، والمليونير روكفلر والاقتصادي المعروف مارشال. 

ومن اللافت ان هذه القروض كانت تذهب الى يهود القرم مباشرة دون رقابة الميزانية الاتحادية للدولة السوفيتية. على أن تتار القرم سارعوا الى الانتفاضة فيما تحدوا السلطة السوفيتية وراحوا يداهمون عربات القطارات التي كانت تصل محملة باليهود إلى عاصمة الاقليم سيمفروبول ويرغمونها على العودة دون نزول أي منهم الى أراضي القرم. 

وهنا أدرك ستالين خطورة الموقف ليفاجأ الجميع باتخاذ قراره حول إنشاء المقاطعة اليهودية ذات الحكم الذاتي في الشرق الأقصى على ضفاف المحيط الهادئ بعيدا عن القرم في عام 1934 وهي المقاطعة الموجودة حتى اليوم وإن رفض يهود ذلك الزمان الرحيل اليها. 

واتخذ ستالين قراره بالتراجع عن تنفيذ فكرة إنشاء الوطن القومي لليهود في القرم مؤكدا ان الاستمرار في ذلك يمكن أن ينسف الاستقرار الذي تحقق على صعيد تعايش مختلف القوميات في الاتحاد السوفييتي ولا سيما بعد الانتفاضات المتواصلة من جانب سكان القرم من التتار واليونانيين والالمان والبلغار. غير ان اللجنة اليهودية الاميركية وأبرز ممثلي اللوبي اليهودي في الولايات المتحدة سرعان ما عادوا لاستغلال الحرب العالمية الثانية لاحياء فكرة توطين اليهود في القرم.

وفي هذا الاطار عمدت القيادة الاميركية الى ممارسة الضغط على ستالين لتنفيذ ما سبق وجرى الاتفاق بشأنه. وكشف بولتورانين أول وزير إعلام ليلتسين ورئيس لجنة الكشف عن وثائق الـ" كي جي بي " التي شكلها يلتسين في حديثه الى صحيفة " ارجومينتي اي فاكتي " ( وقائع وبراهين ) الاسبوعية الروسية عن ان هناك من الوثائق ما يقول ان ستالين صارح زعيم يوغوسلافيا يوسف بروز تيتو في حضور نائبه ميلوفان دجيلاس بان الرئيس الاميركي روزفلت فاتحه في مؤتمر طهران 1943 بضرورة الالتزام بما سبق الاتفاق حوله بشأن الاستمرار في توطين اليهود في القرم في اطار ما كان يسنى بمشروع "كاليفورنيا القرم" متذرعا بان اللوبي المالي اليهودي يواصل الضغط عليه، فيما هدد بوقف برنامج "ليند- ليز " – Lend Lease Act وهو البرنامج الأميركي الذي اقره الكونغرس في مارس عام 1941 لتقديم الدعم الحربي والغذائي والمواد الخام ومواد الطاقة الى حلفاء الولايات المتحدة في الحرب العالمية الثانية. 

وقال انه هدده أيضا بان الولايات المتحدة قد لا تستطيع ازاء ذلك، فتح "الجبهة الثانية" ضد ألمانيا النازية للتخفيف من وطأة الهجمات الالمانية ضد القوات السوفيتية. وطالبه بضرورة استئناف ترحيل التتار من شبه جزيرة القرم. ومضى بولتورانين ليقول ان ستالين كان يدرك ان الضغط الاميركي لم يكن يستهدف مصالح اليهود السوفييت ممن كانوا يحاولون توطينهم في القرم، بقدر ما كان يستهدف خدمة مصالح اميركية جيوسياسية، الأمر الذي تطلب من ستالين اكبر قدر من الدهاء والمناورة.

وفي حين راح يبدى بعض تحفظاته ومنها ضرورة ان تكون الجمهورية اليهودية السوفيتية المرتقبة "جمهورية ذات حكم ذاتي" وليست جمهورية مستقلة، طالب ايضا بان يتولى قيادة هذه الجمهورية لازار كاجانوفيتش اليهودى الاوكراني الاصل ووزير الصناعة السوفيتية فيما بعد، وليس سولومون ميخيلسون رئيس اللجنة اليهودية السوفيتية المعادية للفاشية، فضلا عن طلبه حول الحصول على قروض مالية تبلغ قيمتها عشرة مليارات دولار للمساهمة في إعادة اقتصاد ما بعد الحرب. على أن ذلك لم يثن الجانب الامريكي – اليهودي عن مساعيه وهو ما دفع ستالين الى التحول الى البحث عن سبيل آخر للتخلص من هذه "الورطة" وجده في اعلان مؤتمر بازل وفكرة توطين اليهود في فلسطين وما تلا ذلك من استصدار وعد بلفور البريطاني في عام 1917.

وما كاد الاميركيون يبدأون في مطالبة ستالين بسداد قيمة الصكوك المالية حتى صارحهم باستعداده لتنفيذ التزاماته تجاه انشاء وطن قومي لليهود ... لكن في فلسطين معلنا عن موافقته على ترحيل أكبر قدر من اليهود الى هناك وتسليحهم بكل ما غنمه من أسلحة ألمانية جرى تقديمها خصما من ديون الاتحاد السوفييتي التي اقترضها من الوكالة اليهودية الاميركية . بل وأعطى تعليماته الى تشيكوسلوفاكيا وبلغاريا بامداد اليهود في فلسطين بكل ما يحتاجونه من اسلحة في حربهم مع العرب هناك.

وأشارت اللجنة اليهودية السوفيتية لمكافحة الفاشية الى انها كانت عادت وتقدمت الى ستالين ابان سنوات الحرب العالمية الثانية بطلب حول توطين الملايين من يهود الاتحاد السوفييتي وبلدان شرق أوروبا الذين لجأوا اليها هربا من ملاحقة النازية، في شبه جزيرة القرم التي ارادوا اعلانها جمهورية فيدرالية وليست ذات حكم ذاتي.

وتقول الوثائق ايضا ان ستالين أدرك المغزى الحقيقي لهذا الطلب، وما يتبعه من مخططات يشير بعضها إلى احتمالات قيام الولايات المتحدة واللوبي اليهودي بمواصلة الضغط واللجوء الى المحاكم الدولية لإلزام الاتحاد السوفييتي بما سبق وتعهد به حول تسليم القرم التي كانوا يخططون لضمها ومعها مقاطعات كراسنودار التي تضم سوتشي وما جاورها من مدن تمتد على ساحل البحر الاسود حتى الحدود مع ابخازيا المتاخمة للحدود مع تركيا غربا، الى جانب أراضي مقاطعتي اوديسا وخيرسون في اوكرانيا شرقا،بما يعني عمليا عزل الاتحاد السوفييتي عن البحر الاسود وسلبه أكبر قواعده البحرية على في سيفاستوبول جنوبي القرم.

ولذا وكما تقول الوثائق فقد قرر ستالين ورفاقه خروشوف وبولجانين ومولوتوف وكاجانوفيتش البحث عن سبيل قانوني يستبقون به اخطار المطالبة بتسليم القرم وفاء للديون الاميركية على روسيا السوفيتية، وجدوه في تحويل تبعية القرم من روسيا الاتحادية الى اوكرانيا، وهو ما فعله خروشوف في عام 1954 بعد وفاة ستالين في عام 1953، الى ان جاء الرئيس فلاديمير بوتين واستبق الولايات المتحدة بإعادة القرم إلى أحضان الوطن وهو ما يشتعل حوله الجدل والخلاف بين موسكو منذ اندلاع الأزمة الأوكرانية في عام 2014. 

 ورغم أن الوثائق الروسية تقول إن ستالين عاد وندم على قبوله عرض مولوتوف حول توطين اليهود في شبه جزيرة القرم بدلا من "المقاطعة اليهودية ذات الحكم الذاتي" في الشرق الاقصى، فان التاريخ لا يمكن أن ينسى دوره البارز في التضحية بفلسطين التي وافق على أن تكون وطنا قوميا لليهود بهدف إقامة أول دولة اشتراكية في منطقة الشرق الاوسط.