إيلاف من واشنطن: يقول أحد كبار مراسلي محطة "بي بي سي" البريطانية الدوليين نك براينت، إن انتخاب الرئيس دونالد ترمب العام الماضي شكًل نهاية لهيمنة الولايات المتحدة على العالم، على المستويات السياسية والاقتصادية والعسكرية.

وفي تقرير مطول نشره الجمعة على موقع بي بي سي، بدأ براينت في رصد تاريخ الولايات المتحدة منذ الولاية الثانية للرئيس رونالد ريغان عام 1984 وحتى الوقت الحالي ، ففي السنوات الست عشرة الأولى حققت البلاد قفزات هائلة على الأصعدة كافة حتى صارت سيدة العالم بلا منازع حتى عام 2000، لكن الست عشرة سنة التالية بدأت فيها مرحلة تحلل قوة البلاد وتراجع تأثيرها في الساحة الدولية. ليكون انتخاب ترمب بمثابة إعلان لنهاية عظمة أميركا الدولة التي وصل تأثيرها الثقافي الى كل مكان في العالم.

نشرت "إيلاف" أمس الجزء الأول من التقرير الذي سلط الضوء على الخطوات التي اتخذها زعماء الولايات المتحدة في الثمانينات والتسعينات ومكنت بلادهم من أن تكون القوة العظمى الوحيدة في العالم، ويركز الجزء الثاني على الفترة بين عامي 2000 و20016 وهي "مرحلة انهيار عظمة أميركا... وبداية تحلل قوتها في المجالات كافة". 

الديمقراطية تهتز 

عام 2000 تغيّرت أميركا بشكل دراماتيكي وغير متوقع وخلال فترة وجيزة، وكأن البلاد أصابها فيروس. شهد نوفمبر من ذلك العام الانتخابات الرئاسية المتنازع عليها بين جورج دبليو بوش و آل غور، ما إلحاق أضراراً بالغة بسمعة الديمقراطية الأميركية.

حتى أن دبلوماسي زيمبابوى اقترح ارسال مراقبين دوليين للاشراف على اعادة فرز الأصوات في ولاية فلوريدا.

بينما كانت مشغولة أميركا بالتنازع على الرئاسة، كان هناك رجل مثير للمتاعب، فلاديمير بوتين، أمضى سنة في الكرملين بعد الاستيلاء على الحكم على حساب بوريس يلتيسن. 

جلب عام 2001 حادثة 11 سبتمبر المرعبة، وهي الحادثة التي جعلت أميركا أقل ترحيبًا وتسيطر عليها الشكوك، ليعلن بوش"الحرب على الارهاب"، وهي صراعات دخلت فيها البلاد وما زالت مستعرة في افغانستان والعراق.

الفقر يهدد غالبية السكان 

انهيار بينك ليمان براذرز في عام 2008، والركود الكبير الذي أعقب ذلك، كان له تأثير دائم على النفس الأميركية أكثر من تدمير البرجين التوأمين. وكما أن أحداث الحادي عشر من سبتمبر قد قوضت الثقة في الأمن القومي للبلاد، فقد أدى الانهيار المالي إلى تحطيم الثقة في أمنها الاقتصادي.

ولم يعد أرباب الأسر متأكدين أن أطفالهم سيستمتعون بالرفاهية نفسها التي عاشها الجيل الذي سبقهم، فبين عامي 2000 و 2011، انخفضت الثروة الصافية الإجمالية للأسر الأميركية. وبحلول عام 2014، صار أثرياء البلاد وهم يشكلون واحداً بالمئة من السكان يملكون 90 بالمئة من الثروة. 

الواحد في المئة هؤلاء تضاعف دخلهم 275 في المئة بين عامي 1979 و2007، فيما لم يزد دخل العائلة الأميركية خلال الفترة نفسها إلا 18 في المئة، كما وقضت الآلة على 670 ألف وظيفة في المصانع الأميركية بين عامي 1990 و2007. 

فيما قالت دراسة لصحيفة نيويورك تايمز إن 60 في المئة من العائلات الأميركية لا تتمكن من إرسال أولادها إلى الجامعات العريقة مثل هارفرد وييل وستنافورد، التي يتزاحم على مقاعدها الطلاب من ابناء نسبة الواحد في المئة التي تملك 90 بالمئة من ثروة البلاد.

الصراعات تفتت البلاد

لكن رغم هذا، أظهر انتخاب باراك أوباما عام 2009 أول رئيس أسود في تاريخ البلاد، مرة أخرى قدرة أميركا على التجديد.

ومع أنه خلال فترة رئاسته فعل الكثير لإنقاذ الاقتصاد، إلا أنه لم يتمكن من إصلاح بلد معطوب. فإنشاء أمة تتجاوز الحزبية، التي أوجزها أوباما في خطابه الختامي في المؤتمر الديمقراطي عام 2004، ثبت أنه وهم، مثل القول بوجود مجتمع أميركي تجاوز الانقسامات العرقية.

خلال سنوات أوباما، انحدرت واشنطن إلى مستوى اختلال وظيفي لم يسبق له مثيل في أميركا منذ الحرب الأهلية.

وقال ميتش ماكونيل زعيم الأقلية في مجلس الشيوخ آنذاك: "إن أولويتي الأولى هي التأكد من أن الرئيس أوباما هو رئيس لفترة واحدة"، ملخصاً المزاج العرقي لزملائه من الجمهوريين، الذين سببوا أزمة في الحكم، وأدوا إلى إغلاق الحكومة عام 2013 بسبب المعركة على رفع سقف الدين.

أصبح من الواضح أن الحزب في واشنطن صار مقدماً على مصلحة الوطن، ودفع وصول أول رئيس أسود إلى ظهور حركات متطرفة يمينية ويسارية تؤمن بالطبقية والهوية السياسية الضيقة على حساب العمل النقابي، مثل حزب الشاي، وتجمع الأفارقة الأميركيين والأنجليين، والمثليين، ويسعى كل هؤلاء إلى التأثير على نتائج الانتخابات التي تجري في البلاد. 

وأصبح استخدام سلاح إغلاق الحكومة عند أي خلاف سياسي مقبولاً، وكذلك التشكيك في شرعية الرئيس ، فبدوافع عنصرية روّج الجمهوريون أن أوباما لم يولد في الولايات المتحدة، وسعت لنشر هذا الزعم "حركة بيرثر" المتطرفة التي رعاها رجل الأعمال حينها دونالد ترمب، بالضبط كما شكك الديمقراطيون بشرعية بوش الابن، لأنه حصل على عدد أقل من الأصوات الشعبية عام 2000.

الحاجة إلى عدو

أميركا فقدت بوصلتها بعدما انتهى عدوها الاتحاد السوفيتي، فالمنافسة مع خصمها الشيوعي، كان يدفع السياسيين في واشنطن إلى تقديم مصلحة بلادهم على مصالحهم الحزبية، لذا ردوا على ابتكار روسي عام 1958، بسن قانون التعليم العام الأميركي الدفاعي، الذي حسن مستوى مخرجات التعليم في البلاد.

طوال فترة رئاسته، واصل باراك أوباما الحديث عن التحرك نحو اتحاد أكثر كمالاً. ولكن الواقع الذي تعيشه البلاد يتناقض مع كلماته السامية، فهي تشهد على الدوام عمليات قتل عشوائية بالجملة، وعمليات استهداف للشرطة بالرصاص ، فيما تنشر العصابات في مدن مثل شيكاغو مدينة الرئيس، وتعمّ الفوضى في واشنطن.

وبحلول عام 2016 تحولت الولايات المتحدة إلى أمة مريضة، حيث ارتفع معدل الوفيات في البلاد، وانخفض متوسط العمر المتوقع للمرة الأولى منذ عام 1993.