«إيلاف» من الرباط: في سابقة أدبية هي الأولى من نوعها في المغرب، صدر كتاب جديد عن منشورات وزارة الثقافة بالرباط، يرصد مسار الكاتبة خناثة بنونة بالصور، من خلال تقديم وتعليق محمد بشكار، الشاعر والصحافي بيومية "العلم"، لسان حزب الاستقلال.

إنه كتاب يختلف تماماً عن السير الذاتية التي آلف المبدعون نسجها، اعتمادًا على الذاكرة وحدها فقط، بل هو سرد توثيقي معزز بالصور التي التقطت في محطات مختلفة من مسار الكاتبة، بدءًا من طفولتها وهي تلميذة بضفيرة تتدلى على صدرها، ومرورًا بالمراحل التي أسهمت في تكوينها الفكري والوجداني.

خناثة بنونة مع مع الرئيس الجزائري الاسبق احمد بنبلة

 

ابنة علال الفاسي

تعتبر هذه الكاتبة الإبنة الروحية لزعيم حزب الاستقلال الراحل علال الفاسي، ومؤلف كتاب "النقد الذاتي"، وقد كان يقول عنها " هذه ابنتي وبنت المغرب وقرة عيني"، ويحكي الكتاب كيف أن تدخله لدى والدها وخالها حال دون زواجها في سن صغيرة، وهي التي ولدت في مدينة فاس، لأسرة محافظة ومناضلة. 

يحفل كتاب "خناثة بنونة..سيرة حياة في صور"، في صفحاته الأولى بالكثير من اللقطات الفوتوغرافية التي تؤرخ لمشاهد خاصة في حياتها العائلية، ومنها صور أفراد أسرتها الصغيرة، الوالد الحاج أحمد بنونة، والوالدة الحاجة عائشة الإدريسي، واخوانها الحاج عبد الرحمن بنونة والحاج محمد بنونة والحاج الطاهر بنونة.

خلال توشيحها من طرف العاهل المغربي محمد السادس بالوسام الملكي

مسار دراسي

تفخر خناتة بنونة دائما بوالدها الراحل، ولطالما رددت بزهو:" لقد تخرجت من جامعة الحاج أحمد بنونة..الرجل الأمي الذي لا يكتب اسمه، ولكنه كان مدرسة معرفية منذ الطفولة المبكرة حتى آخر يوم في حياته". 

أما عن والدتها عائشة الإدريسي فقد كانت خناثة مدللة لديها، وتخصها بكلمات مدح في مواويلها، ومنها مقطع زجلي، تتمنى فيه أن يكون لها "ستة وثلاثة من خناثة".

وكانت الأخيرة تعلق على فرح والدتها بها :" واحدة عذبتك، فكيف تطلبين ستة وثلاثة، فترد رحمها الله:" حينذاك لاتبقين مدللة".

على امتداد 226 صفحة، ومن خلال 230 صورة سواء منها بالأبيض والاسود ، أو بالألوان الطبيعية، يستحضر الكتاب شذرات من ذكريات الصبا، حتى بلوغ سن الشباب، ومرحلة النضوج، والتألق الأدبي.

في صغرها كانت "تلميذة مجتهدة"، و"حسنة السلوك"، كما تشهد بذلك نتائجها الدراسية، التي تعود إلى السنة الدراسية (1956 ـ 1957) بثانوية أم البنين بمدينة فاس، قبل أن يقودها تفوقها الدراسي إلى الانخراط في سلك التعليم كأستاذة بمدرسة باب الحديد، بالعاصمة العلمية للمملكة، ثم كمديرة لثانوية "ولادة" في الدار البيضاء، أواخر عام 1968 حيث تخرجت على يديها "أجيال من طلاب العلم المغاربة، حتى صاروا اليوم أمام ناظريها أساتذة وأطباء وقضاة وأطرًا في شتى التخصصات العلمية".

 خناثة بنونة في كامل أناقتها على الطريقة التقليدية المغربية الأصيلة.

 

قصة زواج

وإذا كانت خناثة بنونة قد ارتبطت مدة من الزمن كزوجة، مع الكاتب المغربي أحمد المديني، فإن الكتاب يتوقف عند تلك المرحلة بنشر سبع صور مختلفة تجمعه معها، البعض منها، كما يبدو، التقط في مناسبات عائلية، وبعضها الآخر، في رحلة إلى "ماربيا" في اسبانيا.

وعن تلك التجربة، يكتب محمد بشكار في تعليقاته:" لن نمضي أبعد مما تقوله هذه الصور الصقيلة كالمرآة ونخون أعيننا، فقط نقتفي أثر التوصيف لنتحدث بأبصارنا عن مرحلة الزهر في عمر أديبتنا خناثة بنونة، وهي في عنفوان تفتقها مع زوجها السابق الأديب أحمد المديني الذي لاتسع فرحته سماء، تارة بين أساتذة ثانوية "ولادة" الذين أقاموا حفلاً للعروسين بعد أسبوعين من العرس الرسمي، وتارة أخرى في كنف الأسرة مع الوالدة الفاضلة والرؤوم للعروسة خناثة بنونة وسرب الصديقات اللواتي يحلقن بأجنحة قفاطينهن في الفضاء ويزدنه تطريزا وبهاء".

ويتابع:" وإذ نحث القلم على تتبع أثر الذاكرة لنقيس الامتداد الذي بلغته الفرحة في سفرها بالعروسين، سنجدهما يمهران ما لا يمحى من ذكريات في أكثر من مدينة بالعالم، ترى هل تفقد السيرة الذاتية المكتوبة بحياتين قيمتها الجمالية، بعد أن سارت كل حياة تكتب روايتها؟ أبدا بل من طبيعة المبدع الأصيل إذا كان نهرا ثرا أن ينفرع بمائه من بعد التئام، إلى ينابيع تستمر في الحياة باحتراث آفاق آخرى.. "،حسب تعبير بشكار.

أما خناثة بنونة فقد علقت على الموضوع بكلمات جد قصيرة في هامش صغير أسفل الصفحة :" قصة الزواج: مالها، وما عليها وهو كثير للأسف الكبير..قد..وقد ؟...."، دون أن تضيف شيئًا لملء هذه الفراغات، لترتسم أكثر من علامة استفهام في عيني القارئ عن المقصود من وراء هذه التلميحات الملتبسة.

غلاف كتاب " خناثة بنونة..سيرة حياة في صور".

 

حكاية صور

وراء كل صورة، قصة مصحوبة بتعليق يضيء خلفيتها، ومن اللقطات الطريفة في الكتاب، صورة قديمة لخناثة بنونة، بالأبيض والأسود، وهي تلبس عباءة رجالية، وتعتمر عقالا، وذلك خلال زيارة لها لمكة المكرمة، برفقة أخيها وزوجته اللذين حظيا بحفل زفاف بالديار المقدسة، أقامه الوالدان بحضور الزعيم علال الفاسي.

والحكاية كما يرويها الكتاب ،"أن أديبتنا لم تتلفع بهذا اللباس الرجالي السعودي تنكرا، بل فانطازيا فحسب، ولقد تعرضت أسرة خناثة بنونة للسرقة بالديار المقدسة، مما اضطرهم إلى ركوب باخرة ليبية في ضيافة مالكها الوزير السيد أحمد صالحين، رحمه الله، حيث ارتبطت الأسرة معه في صداقة أخوية." وظهرت خناثة مبتسمة في تلك الصورة، "كأنها تسخر من السارق الذي آثر حطام الدنيا على الحج المبرور والذنب المغفور".

مع زوجها السابق الكاتب احمد المديني خلال حفل زواجهما

مجوهرات وأراضٍ

عرفت خناثة بأناقتها، فكرا ومظهرا، ولطالما جسدت ذلك في كتاباتها وإبداعاتها، وأبانت عنه في ألبسة طالما خطفت الأنظار في المناسبات العائلية والمنتديات والمحافل الثقافية.

وفي إحدى الصور تبدو خناثة جالسة في لباس تقليدي أصيل، تزينه بعض الحلي الذهبية، وتحتها كتبت "ملاحظة"، جاء فيها على لسانها:" كل ما كنت أملكه، من مجوهرات أو أراضٍ أو عمران، ذهب في سبيل الله والثقافة في مشارق الأرض ومغاربها، منذ "ليسقط الصمت"، و"شروق"، و" النار والاختيار"، وحتى الآن".

وتعليقا على نفس الصورة، كتب بشكار:" رغم أن الأديبة الكبيرة خناثة بنونة، ترفل في كامل لؤلؤها، إلا أن الحلية التي تزدان بها دائما، ولن تبلى أو تصدأ أبدا، هو معدنها الإنساني النفيس الذي ترجمته أعمالاً خيرية، ومنجزها الأدبي والفكري الذي يضاهي بوزنه الثقيل كل ذهب في خزانة وذاكرة الثقافة المغربية والعربية".

العري والاعتذار

نظرًا لوفرة الصور اللافتة للانتباه وتعددها وتنوعها، اعتبارا لغنى حياة الكاتبة ثقافيًا وإبداعيًا وإنسانيًا، فإنه من الصعب جدا استعراضها كلها، والتوقف عندها، لكن ثمة لقطات تفرض نفسها بإلحاح.

ومن بينها صورة أخذت لها أثناء إلقائها لمحاضرة في الدار البيضاء سنة 1969، وقد ارتفعت التنورة فوق الركبة خلال جلستها على المنصة، فعلقت عليها قائلة:" لم أنتبه إلى هذا العري، لأنه حين أكون حاضرة كلية في ما أقول، أغيب عن غيره، فمعذرة عن هذه الصورة وغيرها، لأن ذلك ليس من طبعي أساسا".

بنبلة والصحراء

شاءت الصدف، كما يروي الكتاب، أن تلتقي خناثة بنونة مع الرئيس الجزائري أحمد بنبلة، أحد مؤسسي الثورة الجزائرية، في المؤتمر القومي العربي بالدار البيضاء، في شهر مارس 1997.

وقد ظهرت مؤلفة " الغد والغضب" في الصورة، والحيرة مرتسمة على ملامحها، وكان السبب في ذلك أن بنبلة أخبرها أنه "يتحدر من أصول مغربية، وتحديدًا من منطقة أولاد سيدي رحال، فآلمها أن يكون الرجل من بني جلدتنا، ويتخذ مواقف معادية في قضية الصحراء المغربية".

تكريمات وجوائز

تقديرا لمسارها الحافل بالعطاء، حظيت بجوائز أدبية وتكريمات مغربية وعربية، تجاوزت التسعة والخمسين تكريمًا بالمغرب، من جهات أدبية وأكاديمية، كما وشحها العاهل المغربي الملك محمد السادس للمرة الثانية بالوسام المكافأة الوطنية من درجة ضابط كبير.

وجرى تكريمها أيضا بأوروبا، وبالعالم العربي ، وأنجزت حولها أفلام وثائقية، وترجمات لبعض كتبها، وشهادات دكتوراه حول أدبها، وقامت بمشاركات فكرية وثقافية، ولقاءات مع أدباء ومفكرين ورؤساء وزراء ودول مثل الرئيس العراقي السابق صدام حسين. كل ذلك يرصده الكتاب بالصورة والتوثيق والتعليق. 

هي أول كاتبة تكتسب عضوية اتحاد كتاب المغرب، وهي أول إعلامية تطلق مجلة ثقافية نسائية بالمغرب، تحت اسم "شروق"، وتعتبر أضمومتها " ليسقط الصمت"، أول مجموعة قصصية نسائية بالمغرب سنة 1967، تبعتها "النار والاختيار" سنة 1969، كأول رواية نسوية في المملكة.

ارتبطت كثيرا بالقضية الفلسطينية، منذ زيارتها للقدس مع أبيها أثناء طريقهما لأداء الحج، وهي صغيرة. وحين اشتد عودها، وطالت قامتها ككاتبة تبرعت بجائزة الكتاب في المغرب، عن روايتها "النار والاختيار" ومبيعاتها لدعم منظمة التحرير الفلسطينية.

وتبرعت أيضًا بالقيمة المالية التي حصلت عليها سنة 2013 في سلطنة عمان لـ"بيت مال القدس"، وقالت :" مال القدس يرجع إلى القدس".