كلا لا يعاديان التراث، إنما يضيفان إليه لمسات إبداعية وأبعادًا كاريكاتورية ساخرة، في قولبة حديثة، تجعل عنتر يطلب السيلفي تاركًا سيفه، متسلحًا بأيفونه. إنه الثنائي الفني حسن إدلبي وزوجته وفاء شرف في تجربة الفن مزدوج التوقيع المثيرة للاهتمام.

إيلاف من دبي:  "أنا التراث العربي المغرق في العراقة أدخل الغد من بوابة الحداثة"... هذا لسان حال مخيال التراث العربي في لوحة فكّر فيها حسن إدلبي ورسمها، ونمنمتها وفاء شرف ولوّنتها، ليعلّقا لوحاتهما حاملة توقيعهما المشترك في معرض "عنتر وعبلة في ساحة الكاريكاتير" ضمن فاعليات الدورة السابعة عشرة من ملتقى الشارقة الدولي للراوي. 

عنتر وعبلة وأيفون

حسن إدلبي خريج كلية الفنون الجميلة في جامعة دمشق، عمل في الصحافتين اللبنانية والعربية فترة طويلة منذ تسعينيات القرن الماضي، وعمل في التلفزيون رسامًا مباشرًا في أكثر من برنامج، وأقام أكثر من عشرين معرضًا فرديًا أغلبها لفن الكاريكاتير، وبعضها تشكيلي، واتجه أخيرًا إلى التراث في التشكيل والكاريكاتير، وهو يعمل الآن في جريده الرؤية الاماراتية. أما زوجته وفاء إدلبي فمغربية من فاس، درست تصميم الأزياء عامًا وانقطعت عنه بسبب الزواج. خضعت لدورة قصيرة لتصميم الأزياء والرسم في المرسم الحر في أبو ظبي، وتطمح لإكمال دراستها في الأزياء. اختارتها جمعية رسامي الكاريكاتير في المغرب مستشارة.

اربعون لوحة بالحبر وألوان الماء، تستحضر التراث العربي من خلال عنتر وعبلة، يتخيلهما الفنانان في الراهن، يدخلان العالم الافتراضي الاستهلاكي. إنها مسألة مثيرة للتساؤل.

لا نعادي تراثنا

ليست الفكرة غريبةً فحسب: زواج الأمس بالغد، ومشرق العرب بمغربهم، إنما هي ريادةٌ لا بدّ من النظر إلى ما يمكن أن تترك من أثر حداثي في تراث يتمسك العرب بتخبئته في أدراج العصور الغابرة. 

أبعاد جديدة للموروث الشعبي العربي

في لوحات إدلبي وزوجته المغربية شرف، لا يخرج عنتر من فروسيته ولا يؤثر السيلفي على السيفِ. لكن، رب سائل يسأل: أيعادي الثنائي إدلبي – شرف تراثهما ليهزآ به في هذا الشكل؟ طبعًا لا. يقول إدلبي لـ"إيلاف" في دردشة إلكترونية إنه وزوجته لا يهزآن من التراث، بل "في وقت أدار فيه كثيرون ظهورهم للتراث، أنا يممت ناحيته بفني التشكيلي والكاريكاتيري، فأنا لا أريد تقديم التراث كما هو، بل لا بد من أن نترك بصمتنا عليه، لأن الفن تكرار مع بعض الإضافة ومع لمسة كاريكاتورية بأبعاد تعبيرية ساخرة تسللت عن سابق إصرار وتصميم إلى خبايا التراث، ممثلًا بعنتر وعبلة، القصة الأشهر في الذاكرة العربية".

حسنًا... إن كان إدلبي، ومعه شرف، يسعيان إلى تحرير الـ"تابو" الثقافي العربي من صرامة التغريبات إلى سلاسة الزخرفات، فأي فائدة جمالية أو ثقافية يرجوان؟ يقول إدلبي لـ "إيلاف": "لكي تغوص عميقًا في التراث، لا بد من أن تفهمه وتشرحه بطريقتك، لأنني إذا قدمت التراث كما هو فأنا أكرر ما قيل منذ زمن بعيد. لا أريد التكرار، بل أريد وجهة نظري الخاصة بتناول التراث وفتح الباب الفاصل بين التراث والكاريكاتير، وبذلك أكون قد قدمت التراث محررًا متحركًا وحمالًا لأفكار جديدة، مع المحافظة على الثوابت. تناول رسامو الكاريكاتير الكثير من اللوحات الشهيرة، وحملوها أفكارًا حديثة واستخدموها في الإعلانات والتصماميم مثل موناليزا وتمثال المفكر وغيره، وحتى في الأدب قدم الأدباء شخصيات مثل شكسبير وغيره وجرّوهم إلى العصر الحديث، وهنا تحدث مفارقات عجيبة وجذابة ومختلفة".

عولمة وأشياء أخرى

ربما تكون العولمة قد تسرّبت إلى الملحمة الشعبية العربية، يقول إدلبي، فأنتجا عنترة وعبلة بلبوس القرن الحادي والعشرين. يضيف: "أصبح الكثير من القصص تراثًا إنسانيًا، ولم تعد تقتصر على بلد معين، فجحا مثلًا رمز قد يكون موجودًا، لكنّ كثيرًا من الناس عبر العصور في كثير من البلدان تناولوه، كلٌّ بطريقته، فصار جحا المحكي أكبر كثيرًا من الواقعي. ونتيجة الإضافات الكثيرة كلها، صار جحا تراثًا إنسانيًا موجودًا في الذاكرة الشفوية. نحن بحاجة إلى جحا كي نحمله أفكارًا ليست له، ويمكن أن تكون له أسماء محلية مثل أبو عبد البيروتي وحسين حمية في لبنان والصعيدي في مصر... إلخ. فعنتر شخصية عظيمة تستطيع أن توصل أفكارًا كثيرة، وتخلق مفارقة جميلة وجذابة يتلقاها المشاهد بطريقة أسهل وأجمل".

التراث الشفوي العربي برؤية مختلفة

غير العولمة... ربما يرسم إدلبي وشرف كاريكاتورًا ضاجًا بالرفض لكامل التراث الشعبي العربي المتواتر جيلًا عن جيل، وربما تمثل هذه اللوحات تصويرًا كاريكاتوريًا ناقدًا لتمسك العرب بتراثها المغرق في الجاهلية. غير أن إدلبي لا يرفض التراث، "وخصوصًا الاشياء الجميلة والمفيدة منها، بل يستهويني من الصغر الأشياء القديمة كلها، من عمران ورسم وموسيقى. التراث ذاكرتنا الباقية، هو الماضي الذي يجب الاتكاء عليه، وإضافة الجديد. أنا ضد الوقوف عند التراث وعدم المس به، وإلا كيف يكون التطور؟ هناك ردة كبيرة في اتجاه التراث المفيد مثل الحكاية، ففي الكثير من المهرجانات التراثية، يكون الحكواتي حاضرًا بقصصه القديمة والحديثة، وهناك العلاج بالحكاية، فالتراث لا بد منه. في الامارات، وخصوصًا الشارقة، عناية بالتراث لأنه هويتنا، وتراثنا هويتنا، منه ننطلق باتجاه المستقبل، فكل ما نفعله الآن وما نقدمه من فنون هو تراث قادم الزمن، يغربل ويفصل غثه من ثمينه. لقد انقرض كثير من الأعمال الفنية القديمة لانها ما استطاعت الصمود والاستمرار، وما وصلنا هو الأبقى والأرقى.

المنطقة المظللة

لا شك في أن هذه الزخرفات والألوان أضافت الكثير على لوحة تريد دمج البارحة بالغد. فالزخرفة بحسب إدلبي وليدة تلك الفتوة التي ولدت فيها، والفن الاسلامي والمنمنمات عبرت تعبيرًا جميلًا وجذابًا عن روح الفنان المسلم، "حيث كان الفن الإسلامي يخشى الفراغ فكان يستخدم الزخرفات وكأنها موسيقى لونية، تصغي إليها بعينك وتطرب لها كما الموسيقى والأزياء والأثاث مع تطور الحضارة تلاشت الزخارف، وأصبحت من التراث الجميل، لذلك ما قدمناه هو فن حديث بثوب قديم لإضفاء المزيد من الجمال، يضع المتلقي في حالة مقارنة وربط بين الماضي والحاضر".

أبعاد جديدة للفن

شرف هي من تولى هذه الزخرفة التي تشكل المنطقة المظللة بين الفنين الشامي والمغربي في اللوحة الواحدة. يقول إدلبي: " الاختلاف هو سر النجاح، حتى عندما كنت أفكر في الزواج، كنت أريد أن أبتعد وأتزوج من ثقافة مختلفة ولهجة مختلفة، فالمختلف يدعوك إلى الاكتشاف، لأنه بعيد. أما القريب فهو متاح ولا جديد تكتشفه علمًا أن الفن واحد، لأن الهم الإنساني والفرح واحد. اجتماع الفنين الشامي والمغربي اعطى روحًا جديدة كنت أبحث عنها دائمًا في اللوحات... وفي الأبناء".

تؤكد شرف ما قاله إدلبي، قائلةً: "قال لي إنه لم يقدم الزخارف في لوحاته أبدًا، فهي ليست من أسلوبه، وهذا نفس جديد ويجب أن يعرف الناس أنني أنا من بذل ذلك الجهد، وحدثني عن تجارب كثيرة وقع فيها اثنان عملًا فنيًا واحدًا. ردات الفعل مشجعة جدًا، لأن لهذه التجربة خصوصيتها ولا تنطبق على تجارب أخرى".

إلا أن الكاريكاتور فن قهري، يفرض وجهة نظره على الرسم والمرسوم. فهل تخشى شرف أن يعيش فنها في جلباب فن إدلبي الفضفاض؟ ومن يطغى على من؟ يقول إدلبي: "فرق العمر وتجربتي الطويلة ربما يطغيان، لكني لا أدخل إلى ملعبها في الزخرفة، بل اراقب من بعيد، وهي حديثة التجربة تصر على إثبات ذاتها بأن تبعدني قدر المستطاع وتحتكر جزءًا لا بأس به من العمل لكي تقول أنا هنا، من دون أن ندخل في منافسة. علاقتنا تكاملية، هي تأخذ مني الخبرة الطويلة، وأنا اكتشف عفويتها وفطريتها وتلقائيتها". 

تقول شرف: "في الحقيقة، لا أستطيع إعطاءه شيئًا جديدًا، خبرته الطويلة وفارق العمر والتجربة تضعني بمنزلة التلميذة، لكنه يقول إنني اضفت شيئًا إلى اللوحات ونفسًا جديدًا يسميه العفوية والفطرية. نتحدث في الفن ويأخذ برأيي ولا يشعرني بأنني تلميذته لكنه استاذي ويبقى".

توقيع مزدوج

حسن إدلبي ووفاء شرف وبينهما فن مزدوج

يتكاملان. لكن كيف خدمت تجربة الجهد المزدوج لوحات المعرض؟ بحسب إدلبي، عندما بدأ بالتحضير لهذا المعرض كان وحده، وكان على وشك الاعتذار من معهد الشارقة، لكن شرف كانت ضد الاعتذار. كان تدخلها بالمشاركة في الزخرفة مساعدًا في إتمام المشروع، "وكانت النتيجة مذهلة لم أتوقعها. تابعنا الرسم معًا، أنا أضع الفكرة وأرسم الشكل، وهي تتولى الزخرفة التي تحتاج الى صبر وأناة وحس أنثوي يضيف للعمل الفني لمسة خاصة. فوفاء من المغرب، وعندها حس فني وثقافة بصرية يختلفان عن حسي وثقافتي، خصوصًا أنها لم تدرس الفن فهي تعتمد على عفويتها وفطريتها، وبالتالي أصبحت اللوحة أكثر غنى لونيًا وزخرفيًا علمًا أنها تشاركني في إبداء الرأي في كل ما أرسم، وأتكئ على رأيها لأنها أفضل من يسديني النصح قبل الرسم وفي أثنائه".

جهد مزدوج، أي توقيع مزدوج على كل لوحة. يقول إدلبي لـ"إيلاف": "هذه أول مرة يشاركني أحد في عمل كاريكاتوري. هناك حالات ليست كثيرة يوقع فيها فنانان على عمل فني واحد، أشهر الامثلة الأخوان رحباني والاخوان فليفل وحنا مينا ونجاح العطار وقعا كتابًا واحدًا. هذا الأسلوب منتشر أكثر في الغرب. المشاركة لن تكون دائمة، خصوصًا ان زوجتي لم تكن تريد أن توقع اسمها بذيل اللوحات، لكني أصريت لأن هذا حقها".

للمستقبل

ماذا بعد؟ لم يتوقع إدلبي نجاح معرضه أبدًا. يقول: "كنت خائفًا جدًا لأنها تجربة جديدة لي ولزوجتي أيضًا، لكن ما رأيناه من ردات فعل ايجابية كانت مشجعة ومفاجئة للمضي قدمًا في هذا المشروع. سنتابع لإنجاز مجموعة أخرى، وهناك دار نشر أبدت رغبتها في طبع كتاب تجمع فيه تلك الأعمال، وربما نوظفها في رسوم لقصص الأطفال. وربما أحاول إنجاز عمل بحجم كبير وبتقنية مختلفة فيها دراما بعيدة عن الكاريكاتير قريبة من الفن التشكيلي، وربما أكون وحدي أو مع زوجتي".

المعرض مستمر في معهد الشارقة للتراث، وسيتمم بإقامة معرض آخر بالموضوع نفسه في أبوظبي قريبًا، وثمة فكرة لطبع كتاب عن المعرض مع إضافة لوحات أخرى أي ثمانين لوحة يعمل الفنانان على إنجازها، وثمة مؤلفة قصص أطفال كتبت قصة عن عنتر وعبلة في العصر الحديث من وحي لوحات إدلبي وشرف، اللذين تلقيا دعوة من إدارة المهرجان العربي للكاريكاتير في المغرب لنقل تلك التجربة إلى هناك، ودعوة أخرى من مدرسة الكاريكاتير في صفاقص التونسية لإقامة معرض وورشة عمل للطلاب.

فكرة ثورية بزخرفات منمنمة باهرة