مع كل ساعة تمر، نعرف المزيد عن سلمان عبيدي، منفذ هجوم مجمع حفلات مانشستر، غير أن ما لا نعلمه حتى الآن هي التفاصيل الدقيقة لتحوله من فتى وُلد في مدينة مانشستر إلى انتحاري.

ونقلت بي بي سي عن موظف في إحدى المنظمات الإسلامية أن عددا من الأشخاص اتصلوا بالخط الساخن لوحدة مكافحة الإرهاب البريطانية، وأدلوا بمعلومات عن آراء عبيدي المتطرفة منذ عدة سنوات.

لا نعلم كيف كانت ردود فعل الشرطة على تلك المكالمات المزعومة، لكننا علمنا أن تصرفات عبيدي في وقت مبكر من هذا العام قد أثارت شكوك كثيرين.

ووفقا لمصادرنا، أخبر عبيدي بعض جيرانه عن قيمة الموت في سبيل قضية ما.

كما أنه أدلى بآراء متشددة حول التفجيرات الانتحارية والصراع في ليبيا.

الرابط الليبي

وفرّ والدا عبيدي من ليبيا باعتبارهما مناهضين لنظام العقيد معمر القذافي.

وكانت ليبيا، إلى جانب دول شمال أفريقيا، مركزا لصعود حركات الإسلام السياسي الحديثة.

وكرّست تلك الحركات في البداية للإطاحة بالأنظمة الديكتاتورية، والترويج لفكرة الحكومة الإسلامية، بدرجات متفاوتة.

مقاتلون ليبيون
Getty Images
ليبيا تضم مجموعة معقدة من الميليشيات الإسلامية، من بينها جماعات معارضة لتنظيم الدولة الإسلامية

وسعت الجماعة الليبية المقاتلة للإطاحة بالقذافي، وأضحت القوة الثورية المهيمنة في البلاد في فترة التسعينيات، حتى بدأ القذافي في تشديد قبضته عليها.

وحاول كثيرون ممن لديهم علاقات بالإسلاميين الفرار من البلاد، ومُنح عدد كبير منهم حق اللجوء في بريطانيا.

وكان رمضان، والد سلمان عبيدي، واحدا من شبكة واسعة من المعارضين الذين أيدوا أهداف الإسلاميين ضد القذافي. ووصل رمضان إلى بريطانيا في أوائل التسعينيات.

وقالت مصادر من الجماعة الليبية المقاتلة إن رمضان لم يكن عضوا في الجماعة، غير أنه كان معروفا بأنه منشق يحمل بعضا من الأهداف السياسية ذاتها.

لاجئ في بريطانيا

هذا يحيلنا إلى جنوب مدينة مانشستر، التي تُعرف منذ فترة طويلة كمركز للسياسة الليبية في المملكة المتحدة، إن لم يكن في أوروبا كلها.

وكانت مانشستر هي المدينة التي منحت فيها الحكومة البريطانية حق اللجوء للكثيرين من معارضي القذافي، إلى جانب مدينتي برمنغهام ولندن.

وأثيرت مؤخرا الشبهات لدى أجهزة الأمن حول تأييد بعض الليبيين في المملكة المتحدة، لا سيما من مانشستر، لتنظيم القاعدة.

وتحدثتُ مع عدد من هؤلاء الأشخاص منذ عدة سنوات، وقالوا إن جهادهم كان ضد القذافي فحسب، وإنه أرادوا الإطاحة به فقط.

ومع اتّساع رقعة احتجاجات الربيع العربي، وبدء ترنح نظام القذافي، عاد هؤلاء المعارضون، وعدد قليل ممن نشأ في بريطانيا، إلى جذورهم الثورية.

وانضم كثيرون إلى كتيبة شهداء الـ 17 من فبراير، إحدى أبرز الميليشيات المسلحة في تلك الحرب. وذكرت مصادر إن والد عبيدي كان جزءا من هذه الجماعة، وإنه غادر بريطانيا للمشاركة في آخر معركة ضد القذافي.

مسلحو مانشستر

وثمة آخرون من مدينة مانشستر ممن ذهبوا للالتحاق بالقتال هناك، وكان معظمهم يعيشون بالقرب من بعضهم.

وعلى مسافة ميل واحد من منزل عبيدي، عاش عبد الرؤوف عبدالله، الذي يقبع في السجن الآن بعد الحكم عليه بخمس سنوات لإدانته بجرائم تتعلق بالإرهاب.

وكان عبد الله من بين الشباب البريطانيين ذوي الأصول الليبية الذين قاتلوا للإطاحة بالدكتاتور القذافي، ودفع ثمن ذلك في حياته، إذ أصيب عبدالله برصاصة في ظهره أدت إلى إصابته بالشلل في نصفه السفلي.

وعاد عبدالله إلى منزله فخورا بما فعله، لكن في جلسات محاكمته الأخيرة قالت النيابة العامة إن حماسه الثوري المتزايد دفعه إلى مساعدة آخرين من مانشستر في السفر للانضمام إلى الجماعات الإرهابية في سوريا.

عبدالرؤوف عبدالله
BBC
المسلح عبد الرؤوف عبدالله الذي ولد في مانشستر أصبح مسؤولا للتجنيد

لكن عبد الله احتج في محاكمته، وقال إنه كان يكره تنظيم الدولة الإسلامية، كما فعل أحد الذين كان يساعدهم، وهو ستيفن مصطفى غاري، الذي اعتنق الإسلام.

ولم تكن جذور جميع الرجال من هذه المنطقة تعود إلى ليبيا، إذ كان أحد أكبر مسؤولي التجنيد المحليين في تنظيم الدولة يُدعى رفائيل هوستي، الذي عاش في المنطقة الوقاعة بين منزلي عبيدي وعبدالله.

ولعب هوستي دورا فاعلا في تجنيد الرجال من هذه المنطقة للانضمام إلى الجماعات المسلحة في سوريا. وخلاصة الأمر أن منطقة جنوب مانشستر باتت إحدى النقاط الساخنة للمسلحين المرتبطين بالصراع السوري في المملكة المتحدة.

فتلك المعلومات، وأخرى وردت في تحقيقات لا يمكن الكشف عنها لأسباب قانونية، تعتبر مؤشرات على مثلث لعلاقات الجهاديين الإسلاميين عبر مانشستر وليبيا وسوريا.

وبات المشهد معقدا، فهناك الكثير من الأسئلة التي لم يُجب عليها حتى الآن، كما أنه ليس في إمكاننا طرحها على هؤلاء المتورطين لأنهم إما في السجن، أو ماتوا، أو ما زالوا يقاتلون في مكان ما في سوريا أو العراق.

وقال أحد أصدقاء أسرة عبيدي في طرابلس لـ بي بي سي إن رمضان انتقل بنجله خارج المدينة خوفا من "تأثير العصابات أو المجرمين عليه". وقال رمضان إنه خشي على ابنه من الانجراف إلى تعاطي المخدرات وعالم الإجرام بعد موت أحد أصدقائه في منطقة "موس سايد" القريبة من وسط مانشستر.

وكان هاشم، شقيق سلمان عبيدي الأصغر، هو الآخر في ليبيا، واعتقلته قوات الأمن للاشتباه بعلاقته بتنظيم الدولة الإسلامية.

ووفقا لصديق الأسرة، كان سلمان يعيش مع والده في طرابلس، لكنه أخذ جواز سفره فجأة قبل خمسة أيام، ورحل دون أي إنذار.

ومن بين المخاوف التي أبداها محللون أمنيون مؤخرا هي أن ليبيا، لما تتمتع به من طرق الانتقال السهلة بين البحر الأبيض المتوسط وأوروبا، ستصبح نقطة أسهل لكثير من المتطرفين العازمين على نقل تجاربهم وأفكارهم المتشددة إلى بريطانيا.

ويبدو أن هجوم سلمان عبيدي أثبت وجهة نظرهم.