بغداد: لم توقظ الأشهر الاثنا عشر شارع الكرادة في وسط بغداد من موته السريري، بعدما شل التفجير الدامي حركته بسقوط أكثر من 300 قتيل، وسط خوف وقلق ما زالا مسيطرين على نفوس عائلات ضحايا الاعتداء والناجين منه.

في الثالث من يوليو 2016، وقبل ثلاثة أيام من عيد الفطر، فجر انتحاري حافلة مفخخة أمام مجمعين تجاريين في منطقة الكرادة-داخل، وسط بغداد، ما أسفر عن مقتل 323 شخصًا. ولا يزال بعضهم في عداد المفقودين حتى الآن.

أمام أحد المجمعين، الذي لا يزال على حاله مهجوراً منذ الاعتداء، تجمع نحو 300 شخص لإحياء ذكرى الضحايا، حيث قام بعض من الأهالي بتحضير الطعام من أرز ولحم وحلويات وتوزيعها على الحاضرين.

يقول ليث فاضل الحسين (42 عامًا) لوكالة فرانس برس، وهو يتصبب عرقاً قرب قدر من اللحم بفعل درجات الحرارة المرتفعة في بغداد، "أشعر وكأن التفجير وقع البارحة. كنت قريباً جدا من المكان. لم نتمكن من فعل شيء من هول الصدمة".

ويضيف الحسين الذي خسر أربعة من أولاد عمومته وابن اخته في الاعتداء، "حين آتي إلى هنا، أشعر بحرقة قلب شديدة. ماذا أقول؟ كل الكلام قليل. هذا أمر الله".

إلى جانبه، يقوم صادق عيسى (43 عامًا) بتعبئة صحون الأرز من دست كبير يتحلق حوله خمسة أشخاص.

عيسى، الذي لا ينفك عن دعوة الحاضرين إلى "الصلاة على محمد وآل محمد" بين الفينة والأخرى، فقد تسعة أشخاص هم أبناء أخيه وزوجاتهم وأطفالهم.

يقول لفرانس برس "بعد سماعه الخبر، أصيب والدي بجلطة، وأمي صارت مقعدة، تقلب صفحات القرآن بأنفها".

بعد مرور عام على المجزرة، يؤكد عيسى وهو يحبس دموعه بابتسامة مصطنعة "نحن لا ننام. أنا من الناجين. رأيت أبناء إخوتي مذبوحين في الركن. إنها كواقعة الطف".

ويضيف "هذا المكان صار يعني لي كل شيء. هنا فقدت أهلي وأصدقائي وجيراني وكل أحبائي".

-"وعود في الهواء"-

لا روح في مبنى مجمع "الليث" الذي لا يزال في حالة خراب. رائحة الموت تفوح في المكان، والجدران المتفسخة شاهدة على هول الفاجعة.

يقول سكان الكرادة إن المبنى آيل للسقوط وغير آمن لإعادة الترميم، لذا قد تقوم السلطات بهدمه وإعادة بنائه مجددًا.

لكن عمليات الترميم أو إعادة البناء ودفع التعوضات للمتضررين وعائلات الضحايا، موضع تشكيك عند البعض.

فراس (36 عامًا)، الذي فقد أخاه قبل عام، يؤكد أن "كل وعود الدولة تخدير. استغلوا مشاعر الأهالي وأخلفوا كل المواعيد. هذه فاجعة، وعلى الدولة أن تهتم بكل تفاصيلها".

يشد هشام صباح (33 عامًا) على يده بالقول "تخيل لو أن الحادث لا سمح الله وقع في غير بلد، لكانت الدولة ساعدت أهالي الشهداء. فكيف بهذه المحرقة؟".

ويضيف صاحب المتجر الذي تدمر بالكامل "هذه أقوى مجزرة منذ سقوط النظام. وعود الدولة في الهواء. معاملات تعجيزية تجعلك تكره البلد".

وتابع "أناشد الولايات المتحدة وبريطانيا والدول الأوروبية (...) كما أغرقتم بلدي في هذه المحنة، انتشلوه منها".

-"أراهم أمامي"-

تغطي واجهة المجمع لافتة كبيرة عليها صور ضحايا الاعتداء، يمكن رؤيتها من رأس الشارع الذي خلا من الحياة، إلا أمام حاجز موقت بسبب إحياء الذكرى، وعربة لتوزيع حلوى المشبّك الأصفر.

تعد الكرادة من أبرز المناطق التجارية في العاصمة، وعادة ما تشهد توافد أعداد كبيرة من أهالي بغداد للتبضع من محالها.

لكن الحال انقلبت في المنطقة التي كانت يومًا تعج بالحياة. فتبدو غالبية المتاجر خالية من زبائنها، رغم موسم عيد الفطر الذي امتدت عطلته أسبوعًا في العراق.

من بين المتاجر، ذاك الذي يملكه سامي عزيز (40 عامًا)، في المجمع الملاصق لـ"الليث"، والذي أعيد ترميمه مؤخرًا.

يقول عزيز "جددت المتجر لأجدد الحياة. لدينا أمل، ولكننا فقدنا الأحبة، وبصراحة ما زال الخوف موجودًا".

ويضيف لفرانس برس عن شعوره بعد عام من الفاجعة "أرى من فقدتهم أمامي يوميًا، أشعر كأنهم يعيشون معي. نريد أن ننسى ولا نقدر على النسيان".