ميسون أبو الحب: يعتقد بروفسور العلاقات الدولية الأميركي جوزيف ناي أن الولايات المتحدة لا تزال تحتفظ بمركزها في قيادة العالم رغم تعاظم تأثير الصين والقلق من سياسة الرئيس دونالد ترمب.

وجوزيف ناي منظّر ليبرالي أميركي كان وراء صياغة مفهوم "القوة الناعمة" بالإشتراك مع الباحث روبرت كوهين، ويعني بها قوة الجذب والترغيب دون إجبار أو إكراه.

يتحدث ناي في هذا اللقاء الذي منحه لوسائل إعلام في لندن في السادس من يونيو الماضي ومنها صحيفة لوموند الفرنسية، عن وضع العالم اليوم في وقت حاسم على صعيد العلاقات بين أعظم قوتين في العالم وهما الولايات المتحدة والصين. &

ما هي أكبر التحديات التي تواجه عالمنا المليء بالاضطرابات؟&

هناك أمران يجريان في وقت واحد حاليا. هناك من جهة ما أدعوه ب"تحول القوة"، بوجود الصين التي تشكل قوة صاعدة والولايات المتحدة التي كانت القوة المسيطرة. والسؤال الرئيس هنا هو: هل يمكن للأميركيين التكيف مع بروز الصين دون الدخول في حرب معها؟ أعتقد أن الجواب هو نعم.. ولكن دونالد ترمب يجعلني أشك.

من جانب آخر هناك عملية انتقال لقوة الولايات المتحدة إلى لاعبين ليسوا دولا. وهنا يجب الاعتماد على التعاون بين الدول إذ لا يمكن لأي طرف لوحده حل قضية التغير المناخي مثلا.

وبالطبع سيكون الحل أصعب باللجوء إلى القوة العسكرية. وأنا أسمي عملية التعاون هذه "القوة بوجود الآخرين" وليس "القوة التي تقف فوق الآخرين".

وأعتقد على أية حال أن الولايات المتحدة ستبقى البلد الأقوى في العالم ولكن ذلك لن يجري على شاكلة ما حدث في سبعينات القرن الماضي. ولذا أنظر بارتياب إلى فكرة: "هل انتهى العصر الأميركي؟"، الجواب الأكثر احتمالا هو لا ولكن الأمر سيكون مختلفا عن العصر الأميركي الذي بدأ في عام 1945.
&&
هل نقف أمام منعطف في العلاقات بين الولايات المتحدة والصين؟

اتفق باراك اوباما وشي جين بينغ على القضايا المتعلقة بالمناخ وهو ما سمح بخلق دينامية جذبت دولا أخرى مثل الهند. وأظهر هذا أن بإمكان الصين العمل على تغيير مواقف آخرين من أجل الدفاع عن الممتلكات الدولية العامة. ما أراه هو أنه يجري تحقيق الكثير من التقدم حاليا ولكن الأمر يعتمد على قدرات الرئيس جين بينغ في السيطرة على القضايا الداخلية في بلاده. فهل سيستطيع فعل ذلك؟ نعم ولكن كل شيء يعتمد هنا على وتيرة النمو في الصين والتي ستكون أبطأ وعلى سياسة ترمب القائمة على مناهضة التعددية. فهل نقف اليوم أمام منعطف تاريخي إذن؟ هل سننظر إلى سنوات ترمب في عام 2020 ونعتبرها خطأ؟ أعتقد أن الجواب هو نعم، ومع ذلك، هناك دائما هامش لا يمكن التنبؤ به في السياسة. مثلا، ماذا سنفعل يا ترى في حالة وقوع 11 أيلول آخر؟ &&

يرى بعض المراقبين بأننا دخلنا عالما تحكمه نزعات وطنية جديدة أو نزعات القومية الجديدة. ما رأيك؟

لا أعتقد ذلك. في التاريخ يجب توخي الحذر عند تعلق الأمر بتوقع التوجهات التي ستسود على المدى البعيد. لكل واحدة من هذه الحركات أسباب داخلية. ولو عدنا إلى ثلاثينات القرن الماضي للاحظنا وجود تحالف بين اليمين المتطرف في إيطاليا وفي ألمانيا وحتى في فرنسا وفي أغلب دول أوروبا الشرقية. وهذا كله غير موجود اليوم. وقد نجد في بلدان أخرى الحركة المدعوة "اليمين البديل" ولكنها تقف على الهامش. وبالتالي ليس هناك حركة ذات نزعة قومية جديدة. والمفارقة هنا هي أن إحدى صفات هذا النوع من النزعة القومية هي أنها تميل إلى تحديد نفسها بنفسها. وعندما يتحدث دونالد ترمب عن "أميركا أولا" فهذا يعني بأن كل الآخرين يأتون في المرتبة الثانية وهذا ليس أمرا جذابا جدا.&

ما هو تأثير خطوات ترمب الأولى على السياسة الأميركية الخارجية وعلى النظام العالمي الذي تقوده الولايات المتحدة منذ عام 1945؟&

لو انطلقنا من انتخابات 2016 فإن دونالد ترمب، ومنذ عام 1945، هو أول مرشح للرئاسة الأميركية يشكك في نظام الأحلاف والمنظمات والمؤسسات الذي تم إنشاؤه بعد 1945. ولهذا النظام أبعاد عديدة: هناك الأحلاف والمؤسسات متعددة الأطراف وهناك القيم المعيارية. في ما يتعلق بالأحلاف، هناك اختلاف بين النباح والعض. فترمب أعطى اليابان ضمانات بشأن معاهدة الأمن اليابانية الأميركية كما أصبحت تصريحاته الأولى بشأن حلف شمال الأطلسي (النيتو) – وكانت واقعية حتى لو قبلناها على مضض – في خبر كان. وبالاختصار، لن يدمر الأحلاف عكسا لما صرح به خلال حملته الإنتخابية.

ولكن المخاوف لا تزال مستمرة قدر تعلق الأمر بتصريحاته الخاصة بالنظام التجاري متعدد الأطراف. فقد تحدث سابقا عن انسحاب من "اتفاق التبادل الحر الأميركي الشمالي" ولكنه يقوم الآن بإعادة التفاوض بشأنه ولا نعرف النتائج التي سيسفر عنها هذا التفاوض. ترمب تحدث أيضا عن احتمال قيام الصين بالتلاعب باسعار صرف العملات قبل أن يتراجع عن ذلك. ولكن التهديد الضمني الذي يخص الرسوم الجمركية لا يزال قائما ولا نعرف إن كان جادا في كلامه عن تفضيل&نظام التجارة الثنائية على حساب التجارة متعددة الأطراف. وهل سيؤدي هذا الموقف إلى تدمير منظمة التجارة العالمية؟ على أية حال، إذا ما اعتمد ترمب موقفا أكثر عدائية إزاء الصين فقد يلحق ذلك أضرارا بها.&
ودعونا لا ننسى هنا القرار الأميركي بالانسحاب من اتفاق المناخ المسمى "اتفاق باريس" وهو قرار يبدو سيئا للغاية بالنسبة لي. وعلى أية حال، لن يستطيع فعل أي شيء&ملموس قبل انتخابات عام 2020 ولكنه اتخذ هذا القرار لإرضاء نسبة 25% التي تسانده من الشعب الأميركي.&
من جانب آخر، لم يتحدث دونالد ترمب عن المادة 5 في اتفاقية حلف شمالي الأطلسي (وتتعلق بالدفاع المشترك في حالة تعرض أي دولة في الحلف إلى اعتداء من طرف ثالث) في مؤتمر القمة الأخير لحلف الناتو المنعقد في مايو الماضي، بل ألحّ بالدرجة الأساس على مساهمة حلفاء الولايات المتحدة في الناتو على الصعيد المالي وعلى ما يجب عليهم دفعه لواشنطن علما أن وجود الحلف كان مهما بالنسبة إلى القوة الأميركية كما إن نظام الأحلاف لا يوفر القوة الصلبة فحسب من خلال القوة العسكرية بل يوفر القوة الناعمة أيضا في شكل شبكة مشاورات وعلاقات تجعل من البلد جاذبا.&

وعلى أية حال، ما فهمناه من كلام الجنرال ماتيس وزير الدفاع والجنرال ماكماستر مستشار الأمن القومي، هو أن الأمر يتعلق بضمان أن تكون هذه الأحلاف مهمة جدا وهما أشارا بالفعل إلى المادة 5 من الميثاق فيما خيب دونالد ترمب الآمال بعدم إشارته إلى هذه المادة لحظة تأكيده أن الناتو ليس جهازا أكل عليه الدهر وشرب. وأعتقد هنا أن الرئيس الأميركي بدد بعضا من القوة &الناعمة كما أظن بأن هذا الحلف العسكري سيستمر.
&&
حاليا، تتمتع روسيا هي الأخرى ب "قوتها الناعمة" مثل الصين وايران وتركيا. ما هو مستقبل نمط التأثير هذا بيد قادة دول استبداديين؟&

تبنى العديد من القادة الاستبداديين أسلوب "القوة الناعمة". وتعتمد هذه التقنية على العلاقة بين المرسل والمستلم. بن لادن مثلا لم يجبر ارهابيي هجمات الحادي عشر من أيلول على ضرب برجي التجارة العالمية ولم يدفع لهم مقابل ذلك بل جذبهم إلى إسلامه المتزمت لارتكاب هذه المجازر باستخدام القوة الناعمة. وردا على سؤال، هل يمكن لبوتين استخدام القوة الناعمة؟ هو يدعي أن الجواب هو نعم لأنه يعتقد أن حرب المعلومات تدخل في إطار القوة الناعمة. ولكن هذا خطأ ! القوة الناعمة تقتضي الحصول على ما نريد من خلال جذب أشخاص وهو ما يزيل صفة جاذبة عن حرب المعلومات.

أما بالنسبة إلى الصين فهي تجذب إلى حدّ ما بسبب نجاحها في الأداء الاقتصادي. ولكن قوتها الناعمة تواجه بعض المشاكل. إذ لا يمكن للصين أن تكون جذابة وأن تهدد جيرانها في الوقت نفسه. وفي ما يخص الرئيس التركي اردوغان فقد فقد كل جاذبيته منذ زمن بعيد بسبب أعماله.&

وقد يبدو هذا مضحكا ولكن السيد داوود أوغلو، رئيس وزراء تركيا السابق، تحدث عن قوة ناعمة على الطريقة التركية. ولكنها انتهت للأسف. لا اعتقد على أية حال أن القادة الاستبداديين كانوا فعالين في مجال استخدام القوة الناعمة رغم أنه ليس من المستحيل على هذه الأنظمة جذب آخرين مثل هتلر الذي جذب الكثير من الأفراد في أوروبا خلال ثلاثينات القرن الماضي. ولكن وحسب رأيي لا يتمتع القادة الاستبداديون الحاليون بالكثير من القوة الناعمة. &

ولكن هل ولايات ترمب المتحدة جاذبة؟&

لقد قصر ترمب القوة الناعمة على الولايات المتحدة وحدها لأنه جعل من الولايات المتحدة أقل جاذبية. ومع ذلك الولايات المتحدة هي البلد الوحيد الذي يحافظ على موقعه. وهو أيضا بلد متطور جدا وفي الطليعة في مجال تكنولوجيا المستقبل والتكنولوجيا الحيوية والنانوتكنولوجي والجيل التالي لتكنولوجيا المعلومات مثل الذكاء الصناعي والبيانات الضخمة دون أن ننسى الجامعات، فوفقا لتصنيف شنغهاي يضم البلد 15 من مجموع 20 أفضل مؤسسة تعليمية جامعية على المستوى العالمي. ومع ذلك، لو أدار ترمب ظهره للعالم لن يعود لكل مصادر القوة هذه أي قيمة.&

كيف يمكننا مكافحة "الإرهاب الجهادي" في الدول الغربية؟

أصبح الإرهاب جزءا من الحياة العصرية وهو ينجح في الأماكن التي تسعى إلى تدمير نفسها. ليس ما يفعله الإرهابيون هو المهم بل ما نفعله نحن. الإرهاب مثل فن القتال المعروف باسم جوجوتسو، إذ يفوز المحارب الصغير عندما يجعل الكبير يستخدم قوته الخاصة ضد نفسه. أما ماذا يمكننا فعله؟ فنحتاج إلى خليط من القوة الناعمة والقوة الصلبة أي أن علينا الاستمرار في استخدام الشرطة والجيش ضد الإسلاميين المتزمتين لأننا لن نستطيع اقناعهم على الإطلاق. ولكن علينا أيضا وضع برامج لنعيد الأشخاص الموجودين في محيط الإرهابيين إلى الطريق الصحيح. أما عن مصدر المعلومات التي نحتاجها لنوجه قوتنا الصلبة بشكل مضبوط؟ فسنحتاج إلى استراتيجية القوة الذكية.&

مع فوز ايمانويل ماكرون، هل يملك الإتحاد الأوروبي وسائل التحكم بمصيره؟&

إذا تمكن ايمانويل ماكرون وانجيلا ميركل من إعادة الحيوية إلى المحرك الفرنسي الألمان الذي كان يقف في قلب أوروبا، فسيتمكن الإتحاد عندئذ من تحقيق المزيد.&

وأشير هنا إلى أن الاقتصاد الأوروبي أكثر كثافة من اقتصاد الصين وهو يمارس تأثيرا قويا على العالم. ولكن الأمر مختلف في مجال الدفاع وقد تكون العلاقة مع الولايات المتحدة حاسمة هنا. دون أن ننسى أنه يمكن لأوروبا أن تؤدي دورا أهم من خلال جمع الفرنسيين والألمان. بودي أن أرى البريطانيين ينضمون إليهم في إطار اتفاق من نوع اتفاق سان مالو (القمة التي جمعت الرئيس جاك شيراك ورئيس الوزراء توني بلير في 3 و 4 ديسمبر عام 1998، والتي توصف بكونها نقطة انطلاق السياسة الأوروبية في مجال الأمن والدفاع. وقد مهّد هذا الإجتماع لإعلان مشترك يدعو إلى إنشاء قوة عسكرية "مستقلة" و "ذات مصداقية" تابعة للإتحاد الأوروبي) حيث يمكنهم استخدام القوتين الناعمة والصلبة في مناطق عديدة مثل البحر المتوسط والشرق الأوسط وأفريقيا الشمالية.&


جوزيف ناي:

ولد في عام 1937 بروفسور في مجال العلوم السياسية في مدرسة كندي الحكومية التابعة لجامعة هارفارد في ولاية ماساشوستس.

درس الفلسفة والاقتصاد أيضا وهو مؤسس مفهوم القوة الناعمة بالمشاركة مع روبرت كوهين ويعتبر أحد أهم المنظرين الليبراليين في مجال العلاقات الدولية.

ناي يقف بالضد من الحمائية ويفضل مفهوم القيادة على مفهوم الهيمنة ويعتبر أنه لا يمكن للولايات المتحدة ممارسة قوتها إلا في عالم يقوم على الاعتماد المتبادل.

عمل ناي مساعدا لوزير الخارجية في إدارة الرئيس جيمي كارتر ثم مساعدا لوزير الدفاع للشؤون الأمنية للأعوام 1994-1995 في إدارة الرئيس بيل كلنتون.

لناي أكثر من عشرة مؤلفات منها "القوة والاعتماد المتبادل: سياسات العالم في مرحلة انتقالية" بالاشتراك مع روبرت كوهين 1977، و"القيادة الرئاسية وخلق العصر الأميركي" 2013 إضافة إلى عشرات المقالات والدراسات التي نشرت في مجلات متخصصة بالعلاقات الدولية.