عاش إدفارد مونك حياته على حافة الموت، في بيت نزلت به النوائب الكثيرة، وأصيب بالإدمان والجنون، لكن مرضه وجنونه ألهماه رسم لوحته المعروفة "الصرخة".

لندن: عاش الفنان النرويجي إدفارد مونك حياة بائسة. وكان الموت والمرض قريني الشطر الأكبر من طفولته. ففي عام 1868، حين كان مونك في الخامسة، توفيت والدته بعد اصابتها بالتدرن الرئوي تاركة مونك وشقيقاته الثلاث وشقيقه الأصغر برعاية والده المتزمت دينيًا والمتسلط تربويًا. 

وريث الموت

كانت علاقات مونك قوية بشقيقته الكبرى صوفي التي نهش صدرها التدرن الرئوي وتوفيت بعد تسع سنوات حين كان في الخامسة عشرة. لم يشف مونك قط من وطأة هذه الخسارة. وأُدخلت احدى شقيقاته الأخريات مصحًا للامراض العقلية وأمضت الشطر الأكبر من حياتها في الحجر. وتوفي شقيقه الوحيد شابًا بعد اصابته بالتهاب الرئة. 

كان والد مونك طبيبا نرويجيًا مهووسًا بأفكار الآخرة. ولهذا السبب كان الموت دائم الحضور في عقل مونك الباطن. كتب في يومياته: "أنا ورثتُ اثنين من أشد اعداء البشرية رعبًا هما التدرن الرئوي والجنون" مشيرًا إلى "ان المرض والجنون والموت كانت الملائكة السوداء التي وقفت فوق مهدي". 

لعل من المفهوم ألا يكون عند مونك اهتمام يُذكر بإيمان والده بوجود إله كلي القدرة يحميه، كما يلاحظ رجل الأعمال البريطاني ذو الأصل العراقي تشارلس ساتشي مؤسس وكالة ساتشي اند ساتشي العملاقة للاعلان مع شقيقه موريس والذي يملك لوحة "الصرخة" من بين مقتنياته الثمينة. 

بدلا من الرهان على الآخرة، لاذ مونك بحياة الدوائر البوهيمية في اوسلو مع نوبات من الادمان على الكحول، من دون أن يفارقه الشعور بالذنب. 

عناوين ميلودرامية

كان مونك في الحادية والعشرين حين مارس الجنس أول مرة في حياته مع ميلي تاولوف، المتزوجة من رجل تربطه به قرابة بعيدة. كان الاثنان يلتقيان سرًا في أحراش قرب قرية تعيش على صيد الاسماك. كان مونك متيمًا بها وأُصيب باكتئاب عميق حين هجرته بعد عامين من علاقتها به. 

دشنت وفاة والد مونك المفاجئة بجلطة في عام 1889 واحدة من أهم المراحل في تطور حياته الفنية. وحين عاش متنقلا بين باريس والمانيا رسم سلسلة من اللوحات سماها "إفريز الحياة". 

كانت لوحاته تحمل عناوين ميلودرامية تشير إلى حالته النفسية مثل "حزن" و"غيرة" و"يأس" و"قلق" و"موت في غرفة المرض" و"الصرخة"، اشهر لوحاته. لاقى المعرض الذي اقامه مونك لهذه وغيرها من الأعمال في برلين في عام 1902 نجاحًا فنيًا بحسب آراء النقاد وتجاريًا بمعايير ما باعه من اعمال. 

أنجز مونك اربع نسخ من "الصرخة" بوسائط مختلفة، ورسم النسخة الأرقى باستخدام الزيت والحرارة والباستيل والأقلام الملونة على ورق مقوى. واتفق كثير من الخبراء مع الرأي النقدي القائل أن العمل أكثر من أيقوني وانه "موناليزا لزمننا"، كما يكتب ساتشي. 

تولا ومونك

يصف مونك مصدر إلهامه لرسم "الصرخة" في يومياته بتاريخ 22 يناير 1892 حيث يكتب: "ذات مساء كنتُ أمشي على طريق ـ فيما كان المضيق والمدينة تحتي على الجانب الآخر. كنتُ مريضًا ومنهكًا ـ وقفتُ بعض الوقت أنظر عبر المضيق. كانت الشمس في غروبها والغيوم تتحول حمراء بلون الدم. شعرتُ وكأن صرخة تخترق الطبيعة ـ ظننتُ إني سمعتُ صرخة. رسمتُ الصورة ـ رسمتُ الغيوم كأنها دم حقيقي، وكانت الألوان تصرخ". 

في عام 1898، عاد مونك إلى أوسلو، وهناك التقى تولا لارسن، المرأة التي تسببت في الكثير من جنونه. نشأت تولا في عائلة ثرية، لكنها كانت لم تزل عازبة في التاسعة والعشرين من العمر. قُدم مونك إلى تولا في مشغله حين جاءت بصحبة فنان يشاركه المشغل. هامت تولا بمونك ولكنه لم يكترث بها. وحاول بكل الوسائل أن يتهرب منها لكنها لم تكف عن محاولة إغوائه، بل انه حتى هرب إلى اوروبا مسافرًا طيلة عام ولكنها لاحقته بلا هوادة. وفي النهاية وافق على طلبها السماح لها بزيارته.

لم تفقد تولا الأمل في أن يتزوجها مونك حتى أهدته صندوق زفاف أثريًا لحفظ جهاز العرس فيه. في النهاية، طلب مونك يدها على مضض قائلًا في رسالة إليها: "في تعاستي أعتقد انكِ ستكونين أسعد بزواجنا"، لكنه كان دائمًا يجد اعذارًا لتأجيل الزفاف. 

ضحيتُ بنفسي بلا داعٍ

اختبأ مونك في بيته الريفي طلبًا للهدوء وراحة البال، لكنه سرعان ما عاد إلى معاقرة الخمرة. اتصل به اصدقاء تولا قائلين انها مكتئبة وتفكر في الانتحار وتتناول كميات كبيرة من المورفين. فعاد مونك بالرغم منه لرؤيتها. وحدثت مشادة كلامية حادة بينهما يبدو أن مونك اطلق خلالها النار على نفسه بمسدس وفقد احد اصابع يده اليسرى نتيجة ذلك.

استشاط مونك غضبًا حين اكتشف أن تولا تزوجت من فنان آخر بعد فترة قصيرة على ذلك الحادث. وكتب: "ضحيتُ بنفسي بلا داعٍ من أجل عاهرة".

خلال السنوات القليلة التالية أصبح إدمان مونك على الكحول شديدًا حتى انه انهار في كوبنهاغن في عام 1908. وكان يسمع اصواتًا هلوسية وأُصيب بالشلل في جنبه الأيسر. وأقنعه اصدقاء أقلقتهم حالته بدخول مصح. 

بعد أن تعافى مونك من إدمانه، عاش السنوات السبع والعشرين الأخيرة من حياته معتكفًا رغم ما يتمتع به من احترام بوصفه فنانًا وطنيًا في النرويج حديثة الاستقلال وقتذاك. 

لم يتزوج مونك قط وكان يشير إلى لوحاته على انها اطفاله. كانت اعماله تعبر عن افكاره وكان يمقت الافتراق عنها. 

حين توفي مونك عن 80 عامًا عثرت السلطات على 1008 لوحات و4443 رسمًا و15391 تصميمًا خشبيًا واعمال حفر وطباعة على الحجر (ليثوغراف) مخفية كلها وراء أبواب مغلقة في الطابق الثاني من منزله. 

لكن لوحة "الصرخة" التي اشتهر بها مونك وأصبحت مرادفًا لإسمه طغت على كل ما أنجزه من أعمال فنية في زمن حياته وحتى على تأثيره الريادي في الفن الحديث. هذا مفهوم من ناحية واحدة اساسية. فان "الصرخة" تمثل حياةً من الصدمات لم يكن مونك يريدها أو لم يتمكن قط من التغلب عليها. ولكن وجوده المأزوم بحدة أصبح حجر الزاوية لأعظم اعماله الفنية، كما يقول تشارلس ساتشي.

اعدت "ايلاف" هذا التقرير بتصرف عن "ديلي تلغراف". الأصل منشور على الرابط الآتي:

http://www.telegraph.co.uk/art/artists/charles-saatchis-great-masterpieces-illness-insanity-inspired/​