إيلاف من إبيزا: هل اتفق أيها القارىء الكريم أن زرت "إبيزا" ذات يوم؟ هذه الجزيرة الناعسة تجعلك تنام ملء جفونك إن أردت الخلود إلى النوم، وإن نويت السهر ففيها ما يقتل السأم والضجر. 

ليس لها بين جزر المتوسط نظير، ومرتادوها من جميع بقاع الدنيا. حتى أن الفرنسيين والإيطاليين الذين كثيرًا ما يتباهون بأن بلادهم تملك أجمل الشواطىء وأبهى الفنادق، بدأوا يأتون إلى "إبيزا" كذلك يفعل الأميركيون، الشماليون والجنوبيون، ومعهم الآتون من البلاد البعيدة في الشرق الأقصى، من دون أن ننسى الروس وأخواننا العرب! الذين اعتادوا على "إبيزا" لا يريدون عنها بديلاً، والذين يرحلون عنها إلى أمكنة أخرى على المتوسط وغير المتوسط من بحارالعالم، لا يلبثون أن يعودوا إليها نادمين!

 


ما الذي يثير القادم إلى "إبيزا" ويستأثر باهتمامه؟

المناخ المعتدل بالطبع، والشمس والهواء العليل، وسبل الراحة والأمن والأمان، وفوق ذلك كله، الطبيعة الخضراء، ما يخلع على الجزيرة أردية رومانسية تجعلها أشبه بلوحات زيتية وضعها مصورون حالمون. لكن "إبيزا" ليست هذا كله فقط، إنها أيضًا جزيرة يطيب فيها السهر. 

في أحد المنتجعات وجدنا عشرات السياح ترجلوا من إحدى البواخر السياحية الكبيرة، لقضاء النهار تحت الشمس. تحدثنا إليهم وفهمنا أنهم مروا بمدن أخرى على المتوسط، ولم يجدوا مكاناً يروقهم مثل "إبيزا"، حتى أن بعضهم تمنى أن ترسو الباخرة في الجزيرة ولا تبرحها! حالهم كان كحال ملاحين متعبين وجدوا جزيرة ساحرة وتمنوا البقاء فيها، لكن تعذر ذلك عليهم، مما يذكرنا بقول أبي الطيب "ما كل ما يتمنى المرء يدركه/ تجري الرياح بما لا تشتهي السفن"!

 

 

قديماً، وصف أحد الكتّاب الجزر بأنها مثل البشر، منها المنغلق، ومنها المنفتح، تماًماً كما الدروب، منها الذي نهايته مسدودة، ومنها الذي نهايته مفتوحة على مفارق وجهات، و"إبيزا" من النوع الأخير. قبل نحو خمسة عقود، أي عندما كانت إسبانيا تحت حكم فرانكو، لم تكن غالبية الناس حول العالم تسمع بجزيرة اسمها ٍ"إيبزا". كان هذا في زمن كانت فيه إسبانيا منطوية على نفسها، شأنها شأن بلاد كثيرة يحكمها الديكتاتوريون. كانت منسية وعذراء، والآن كل شيء فيها تغيّر.

في البدء، كان معظم الزائرين من ذوي الدخل المحدود، حتى إذا عرفت الجزيرة قيمة نفسها، وعرف الناس قيمتها غدت من أكثر الأماكن السياحية غلاء في العالم. هذا لا يعني أنه لم يعد للسائح العادي مكان في "إبيزا". 

 

 

ما زالت هناك أمكنة كثيرة بأسعار معتدلة، والحكومة المحلية هنا حريصة على أن ترضي "إبيزا" الناس على اختلاف طبقاتهم، لكن الشهرة التي لا تزال عالقة في الأذهان عن "إبيزا" أنها جزيرة فتية لأجيال فتية من الشبان والصبايا، ومقصد للممثلين والممثلات، وعارضات الأزياء ونجوم الكرة والموسيقيين والفنانين، والأمراء، وبعض أفراد الأسر الملكية، ومنهم ملك ومليكة النروج.

روح "إبيزا"روح صبية، لأن غالبية الوافدين دون الخامسة والعشرين، وفيها أرقى الفنادق والمطاعم، ومنها ما له شهرة عالمية، وفي أسواقها أفخم المخازن، ويبدو ذلك واضحاً في وسط الجزيرة، وفي منطقة المرفأ والمارينا بنوع خاص، حيث الحلى والملابس الفريدة، صممها أشهر مهندسي الأزياء الأوروبيين وغير الأوروبيين. 

موقع الجزيرة يجعلها مقصداً يسهل الوصول إليه، إذ تبعد نحو150 كيلومتراً عن مدينة "فالنسيا"، وهي من حيث المساحة، الثالثة بين جزر البليار، بعد مانوكا ومايوركا، ولغة سكانها المحليين خليط من اللغتين الإسبانية والكتالونية، وهي تتمتع باستقلال ذاتي، يعفيها من الرجوع إلى حكومة مدريد المركزية في بت كثير من المسائل المتصلة بحياة الناس اليومية ومستقبل الجزيرة. مطارها حديث ويستقبل آلاف الزائرين يومياً، خصوصا مع بداية أغسطس، وهي موقع سياحي لا يهدأ إلا في الشتاء، أما في الفصول الباقية فلا تعرف الراحة، وإذا أحب المرء أن يسمع لغات الأرض كلها في مكان صغير لا تتعدى مساحته 600 كلم مربع، فهذا المكان هو "إبيزا" من دون منازع.

مهما يكن، "إبيزا"، ليست جزيرة للحياة الحسية بضروبها المختلفة فحسب، فيها من التاريخ والثقافة ما يجعلها مقصداً للباحثين عن الفنون، وفيها يعيش مئات الفنانين الأسبان وغير الأسبان، ومن يزور الحي القديم بدروبه الملتوية المتأفعنة، يرى شيئاً من أطياف حي "غرينتش" في نيويورك، وظلال وخيالات الفنون في أزقة ودروب حي مونمارتر في باريس، ويعتبر الحي القديم في "إبيزا"، من الأماكن الأثرية المدرجة على سجلات منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة "أونيسكو". 

تذكر كتب التاريخ المدون أن الفينيقيين، سكان السواحل اللبنانية والسورية القدماء، كانوا أول من غزا الجزيرة. حدث ذلك حوالى 650 عاماً قبل الميلاد. أطلق الفينيقيون على الجزيرة إسم "إيبوسيم"، ثم جاء اليونان وسموها "إبيزا"، أما اسمها فبقي كنعانياً ويعني الولاء للإله إبيز. وفي مرحلة لاحقة من عهود الفينيقيين أصبحت الجزيرة تابعة لمقاطعة قرطاج ، وكان مقرها في تونس الحالية.

هل في "إبيزا" من المظاهر السلبية ما يستدعي الشكوى؟

سحر وزينب شقيقتان من تونس تعملان في حقل هندسة المواصلات في باريس. تحدثنا إليهما، وهما جالستان على الشاطىء الذهبي في منتجع "ناسو" الذي يبعد نحو 20 دقيقة بالسيارة عن وسط الجزيرة. قالت سحر إن ما يعجبها في "إبيزا" هو الأمان وحياة الليل، والموسيقى الإلكترونية التي تشتهر بها الجزيرة، والتي يكاد المرء يسمعها في كل المنتجعات على طول الشواطىء، أما زينب فقد شاركت أختها الرأي، وقالت إنها إذا ترددت يوماً في المجيء مرة ثانية إلى "أبيزا" فبسبب الأسعار المرتفعة. 

 

 

يقول مارسيو وصديقته لوسيانا وهما من البرازيل، إنهما لن يعودا إلى "إبيزا" لكثرة ما وجدا فيها من المخدرات والكحول التي تذهب بالعقول، خصوصاً في بعض أندية الليل، فيما تقول كارلا، وهي الأخرى من البرازيل، إنها كانت تفضل البقاء في بلدها التي فيها من الشواطىء ما يفوق جمال "إبيزا" على حد قولها، مضيفة ان أكثر ما يزعجها هو وجود أعداد كبيرة من المثليين. عندما ذكّرناها بأن في البرازيل أيضاً أعداداً كبيرة من المثليين، علقت بالقول: "البرازيل بلاد كبيرة ووجودهم ملحوظ في أمكنة محددة، أما في هذه الجزيرة الصغيرة فهم في كل مكان تقريباً"! عن هذه الظاهرة قالت فايث، وهي أميركية من واشنطن، إن هذا أمر لا يزعجها على الإطلاق، وكل امرىء في رأيها حر في أن يفعل ما يشاء، ما دام يخضع للقوانين. شاركتها في التعليق صديقات لها أتين من مدن مختلفة في الولايات المتحدة. 

إيفون فرنسية باريسية مقيمة في "إبيزا" منذ سبع سنوات. تعشق الجزيرة، ولا تريد العيش في مكان آخر. تحب فصول السنة كلها، باستثناء الشتاء، "حيث درجة الرطوبة عالية ". لا تحب "إبيزا" في أغسطس " بسبب الضجيج وكثرة السياح خصوصاً في الحي القديم، حيث من الصعب أن يجد المرء كرسياً شاغراً، وحيث الأجسام تلتصق بعضها ببعض من شدة الازدحام". 

 حكومة الجزيرة مدركة هذه الصعاب، وتحاول أن تجد حلولاً، وتريد أن تجعل من "إبيزا" مقصداً للعائلات، وللزائرين من الكبار في السن، القادمين من المدن الباردة في غرب أوروبا، بحثاً عن الراحة والهدوء على شواطىء المتوسط الخلابة،، كما تجهد لتخفيف مظاهر الكحول والمخدرات. 

في الطريق بين المنتجع السياحي الذي أقمنا فيه، ووسط المدينة، وجدنا رجال الأمن يوقفون أرتالاً من السيارات ليتأكدوا من أن الركاب يستخدمون أحزمة الأمان. لم تسلم سيارتنا من هذا الإجراء، حتى أنهم وضعوا في فم السائق أنبوباً إختبارياً ليتأكدوا من انه ليس ثملاً، أو أنه لم يتناول من الخمر ما يفوق المعدل المسموح به. سائقنا ذاك كان شاباً مغربياً متديناً لحسن الحظ،، لا علاقة له بالخمر، لا من قريب ولا من بعيد. راق بعضنا أن يرى شرطة التفتيش واطمأن، لكن ذلك حمل أحدنا على الشكوى، فقال له صديق لنا آخر: دعك من الشكوى يا رجل، رجال الأمن يسهرون على راحتك وأنت تشكو. 

حديثهما كان ممتعاً للغاية، لكنه ذكرنا بالقول العربي المأثور "إرضاء الناس غاية لا تدرك"!​