«إيلاف» من الرياض: للقاء مع الروائي السعودي يوسف المحيميد، صاحب الروايات العديدة، نكهة قصصة مختلفة، محببة طبعًا. فهو يطبع الحديث بطابع الراوي الجذل، كي يمرر رسائله من تحت ماء الواقع. لم يتجهم أبدًا حين قال إن الفنون المحرمة في المجتمع السعودي فترة من الزمن هي المضاد الحقيقي للإرهاب الي أصاب هذا المجتمع، مؤكدًا أن الفنون ليست موسيقى فحسب، وعلينا ألا نتجاهل الأدب وأنواع الثقافة الأخرى. وهو لم يخف حين اعترف بأن المجتمع السعودي يعاني قسوة الواقع وحضور الوصاية، مستذكرًا: "في فترة من الفترات، كان جلوس امرأة مع رجل في مكان عام أمرًا مرعبًا، وبعد حادثة جهيمان في عام 1979 تم تبني أفكار المتطرفين وتعميمها على المجتمع".
يقول المحميدي لـ "إيلاف" إن الإنسان المستبد نتيجة مجتمع فرض عليه الإستبداد، وإن المشي هو ما يقود إلى إلتقاط التفاصيل اليومية للحياة في المدينة، وهذا غير متاح في الرياض.


في ما يأتي متن الحوار:

 كنت ضمن الوفد السعودي الإعلامي التجاري المتجه إلى بغداد. حدثنا عن ذلك؟
سافرت ضمن وفد رسمي لتمثيل المملكة العربية السعودية في معرض بغداد الدولي. كانت السفرة مفاجئة وهي الأولى لي إلى بغداد، على الرغم من أنني كنت من محبي بغداد من خلال سماعي أخبارها من الأصدقاء الذين سبقونا إليها في ثمانينيات القرن الماضي، وكانوا يسافرون بشكل سنوي إلى بغداد للمشاركة في مهرجان المربد السنوي. فلكثرة ما تحدثوا عن بغداد وجمالها وشوارعها ومقاهيها ومكتباتها، كنت أشعر بشغف السفر إلى العراق. 
كنت أظن أنني مسافر إلى ما يشبه الخراب. فبغداد تعرضت لحروب عدة منذ الحرب الإيرانية في عام 1980 حتى الغزو الأميركي في عام 2003، لكنني فوجئت بعكس ذلك. فالشوارع باقية والبنايات، ومحاولات الترميم مستمرة، وجدت مدينة تنهض من الموت، والناس يعيشون بشكل طبيعي، ما لاحظته فحسب هو كثرة الثكنات العسكرية. للأسف، لم نستطع في هذه الرحلة الرسمية مخالطة العراقيين على المستوى الشعبي في الشارع، لكن ما لفت انتباهي في مواقع التواصل الاجتماعي حين نشرت بعض الصور من بغداد هو العدد الكبير جدًا من العراقيين الذين يرحبون بنا بحب، وفي المقابل كثير من المتابعين السعوديين الذين يتمنون عودة الحياة الطبيعية في العراق، وعودة العلاقات على المستوى السفر والسياحة. 
لعل الدهشة الكبرى هو عدد القنوات العراقية التي كانت في استقبالنا على أرض المطار، وهم يرحبون بعودة الطائر الأخضر، وفي الوقت نفسه يسألوننا بحزن عن سبب غيابنا هذه المدة الطويلة. كنت أشعر بالغصة أمام نظراتهم المتسائلة، فعلًا! لماذا بعدنا هذا العمر الطويل، لماذا نأينا عن العراق طوال تلك السنوات. العراق بلد عربي وجار عزيز، بعيدًا عن الصراعات الطائفية والسياسية كلها. 

نجد في كل كتاباتك تأثير لتفاصيل مدينة الرياض على يوسف المحيميد. ما أثر هذه المدينة عليك؟
ولدت في الرياض وعشت فيها طفولتي وصباي، وبقيت فيها حتى الآن. أشعر أنني أفتقد جزءًا كبيرًا من عالمي حين أغادرها. أشعر بالحنين إلى هذه المدينة الساحرة، على الرغم من أن بعض شخصياتي في رواياتي تشعر بالنقمة تجاه هذه المدينة، حتى أن بعض الشخصيات تلعنها! لكن، بالنسبة إلي أنا كشخص مستقل عن رواياتي، أشعر نحوها بالحب، وربما حتى شخصياتي النزقة تحب هذه المدينة، وهي لشدة حبها تشعر بالحنق تجاهها، كونها لا تلبي طموح هذه الشخصيات باعتبارها مدينة حضارية متقدمة. 


حرّمناها وهي الترياق

بدأت الموسيقى والسينما بالانتشار في السعودية، خصوصًا بعد السماح بوجود صالات السينما أخيرًا .. ما أثر هذا التطور في المجتمع السعودي؟

بقينا نكتب من سنوات طويلة، منذ الثمانينيات، حول قيمة هذه المكونات المتنوعة للثقافة، الموسيقى والسينما والمسرح والفنون التشكيلية، في وقت اعتقد البعض أن الثقافة هي الأدب والشعر وحدهما. ظللنا سنوات طويلة نسرق الوقت ونطوي المسافات الطويلة للبلدان المجاورة كي نشاهد فيلمًا، أو نستمتع بمسرحية أو حفل غنائي. طفنا الدول العربية ودعمنا سياحتها، لأجل الفنون الممنوعة في بلادنا فحسب، وكأنما بيئتنا في السعودية هي بيئة طاردة للفنون بكل أنواعها، وهو ما لا أتمناه للأجيال المقبلة.
ما نعيشه الآن من انفتاح ثقافي هو لحظة تاريخية مهمة. دعني أستعير مقولة الرجل التونسي الذي صرخ بعد سقوط زين العابدين: "هرمنا ونحن ننتظر هذه اللحظة التاريخية"... نعم هرمنا ونحن نحلم أن نعيش في بلد طبيعي. فهذه الفنون المحرَّمة هي المضاد الحقيقي للتخلص من التشدد والتطرف والإرهاب، الفنون تصنع من الإنسان حالة حضارية متقدمة، لكنني أخشى مع اندفاعنا نحو الفنون والموسيقى، والتركيز عليها، ننسى الأدب، ونتجاهل المكتبات، وكافة مكونات الثقافة الحقيقية المتنوعة. فالثقافة خليط من المكونات المتنوعة، الأدب والفنون بكافة أنواعها، الموسيقى وحفلات الأوبرا، والسينما والمسرح وغيرها، نحن بحاجة لأن يكون عندنا ثقافة شاملة، وهذا ما ننتظره من هيئة الثقافة حينما تنطلق.

 في رواية "الحمام لا يطير في بريدة"، قلت: "ما أقسى هذا البلد، كم هو مكلف فنجان عابر مع امرأة عابرة". إلى أي مدى مجتمعنا قاس برأيك؟ هل تغير؟
أعتقد أن مجتمعنا يعاني قسوة الواقع من جهة، وحضور الوصاية بشكل كبير من جهة أخرى. فالوصاية للأسف تبدأ من المنزل والمدرسة والشارع! هذه الوصاية على الإنسان لا تجعله حرًا، فأول شروط الإنسانية أن تكون حرًا، وما لم تكن كذلك، حتى لو توافرت لك وسائل الحياة كلها فستكون حياتك ناقصة من دون حرية، فحقيقة عشنا مرحلة الثمانينيات والتسعينيات حياة صعبة جدًا في بلدنا، استلبت حريات الكثير من الناس في أن يعيشوا بشكل طبيعي، دعني أكون أكثر وضوحًا: كانت العلاقة بين الرجل والمرأة مرعبة. ما كان سهلًا أن يجلس رجل وامرأة أمام الملأ في مكان عام! كان يصعب أن تحضر امرأة المحاضرات والأمسيات الأدبية ومعارض الكتاب في مطلع الألفية، وخصصت أيام للنساء وأيام للرجال! إلى درجة أن الناشرين العرب كانوا يشعرون بالدهشة والخجل في الأيام المخصصة للنساء. في أي حال، الحمد لله أن ذلك كله أصبح من الماضي، وكما قال الأمير محمد بن سلمان نحن الآن نعود إلى ما كنا عليه قبل عام 1979، نعود إلى الإسلام المعتدل. 

 لكن، هل ترى أن تحميل مشائخ الصحوة وحدهم مسؤولية التشدد الذي طرأ على المجتمع السعودي بعد عام 1979 صحيحًا؟

إذا أردنا أن نعود إلى التاريخ، علينا أن نستعيد حادثة احتلال الحرم المكي، فعلى الرغم من القضاء على هؤلاء جسديًا آنذاك، فإننا تبنينا الأفكار المتطرفة للأسف، وهذه هو الخطأ التاريخي الذي وقعنا فيه. للأسف، لم نتعامل مع الحدث بشكل واع ومختلف، فحينما تم التخلص من هؤلاء المعتدين والمتشددين، لم نحاول تعزيز قيم التقدمية والمدنية، وإنما كرسنا رؤى هؤلاء المتطرفين، وتم تطبيق معظم أفكارهم ووصاياهم. كلنا نتذكر كيف كان التلفزيون السعودي قبل تلك الحادثة وبعدها، وهذا مثال بسيط. في ما بعد، بدأت هذه القوى المتطرفة تستعيد نشاطها بطرائق مختلفة، وأصبحت تهيمن على مفاصل المجتمع وعناصر القوة فيه، ابتداءً من التعليم. فدخول هؤلاء في التعليم، وتربية النشء منذ الثمانينيات، وبهذه القسوة والهيمنة والوصاية، جعلت حتى الأصوات المعتدلة تصنَّف في نظر هؤلاء، وتتهم، بل وأحيانا تكفَّر، فكان الجميع يتخوف خصوصًا أنه لم تكن تتخذ قرارات ضد هؤلاء بمسألة التصنيف وفئوية المجتمع. برأيي، بدأ تصحيح هذه الأخطاء منذ تولي الملك عبد الله الذي رفض التصنيفات المجتمعية، ثم حين تولى الملك سلمان الحكم بحكمته وشخصيته القوية، وصدور قرارات حاسمة، ستعيد بلادنا إلى وضعها الطبيعي. 

 لك رأي مختلف بشأن المناهج والتعليم. فأنت ممن يبرئ المناهج من تهمة التطرف؟

المشكلة أن تركة التعليم ثقيلة جدًا، والحل لن يكون بقدرات وزير، لأنك تتعامل مع مجتمع كامل. فعدد المعلمين والمعلمات نصف المجتمع، وحين تستطيع أن تخلص نصف المجتمع من أفكار نبذ الآخر، والأوهام الثقيلة، وتنقلهم إلى مستوى آخر، تكون قد نقلت المجتمع بأكمله. للأسف بيئة التعليم تم اختطافها من قبل جماعة معينة، وعلى عدة مستويات: على مستوى المعلم، وعلى مستوى الإداري، وعلى مستوى المفتش والموجه... إلى آخر المنظومة. أذكر لك قصة حدثت مع ولدي في الثانوي، حين لم يحقق الدرجة الكاملة في مادة الكيمياء، فطلب منه المدرس الالتحاق بحلقة دينية في جامع محدد كي يتمكن من الحصول على الدرجة كاملة. هذه القصة حدثت لي شخصيًا حين كنت طالبًا، ثم تكررت مع ولدي! إذًا، التعليم عندنا مختطف، ومحاولة استعادته تتطلب جهدًا كبيرًا، لا يستطيع القيام به وزير تعليم وحده! ما تقوم به الدولة حاليًا على أعلى مستوى هو التصرف الحقيقي لنقل المجتمع بطريقة جيدة، عانينا كثيرًا من التعليم، لكن أدرك جيدًا أن الدولة حاليًا تسير بخطى حثيثة نحو تقدم المجتمع وتغييره، فلابد أن يلحق ذلك التأثير التعليم. 


نجاحات متفاوتة

تفاوت نجاح رواياتك، بمعنى الناجح عربيًا ليس بذلك النجاح غربيًا وعالميًا، والعكس صحيح.

نجحت رواية "فخاخ الرائحة" عالميًا لأسباب عديدة. أحيانا، تتهيأ الظروف لعمل ما تصنع له النجاح. هذه الظروف نفسها لا تتوافر لعمل آخر. فهذه الرواية برأيي نجحت عالميًا بسبب البعد الإنساني فيها، وما فيها من موضوعات ذات علاقة بالصحراء والرق. ربما تكون هذه الموضوعات مفضلة لدى القارئ الغربي أكثر من غيرها، وربما أوصلت هذا العمل إلى دار نشر عريقة مثل بنغوين. فعندما تطبع هذه الدار عملًا يحقق نجاحًا كبيرًا بلا شك.

هل تأخذ القارئ الغربي بالاعتبار في رواياتك الأخيرة عالميًا؟

اطلاقًا، لا أفكر بذلك أبدًا لأنني ببساطة شديدة أكتب بحب وشغف. أحب شخصياتي حتى لو كانت مجنونة أو خائنة أو قاتلة، وهي أيضًا تحبني، فتمنحني كل ما لديها. وكلما كنت صادقًا مع ذاتي في أثناء كتابة الرواية، ومع شخصياتي، كلما استطعت أن أصل ببساطة. 



الجلاد الضحية

تتناول في روايتك "غريق يتسلى في ارجوحة" غربة الفرد ووحدته في مجتمع مستبد . ما الذي يجعل هذا المجتمع مستبدًا؟ 

الإنسان المستبد نتاج بيئة قاسية فرضت عليه الاستبداد. الجلاد في النهاية هو ضحية جلاد آخر، بمعنى أن هذا الاستبداد متوارث، والبيئة هي من صنعته، نحن لسنا مثل ثقافات أخرى لديها إرث طويل من النقاشات الفكرية، والوعي العميق، كي تصل إلى درجة معينة من الفهم بالحوار مع الآخرين، باليقين أن من حق أي إنسان أن يقرر ما يشاء، ويفعل ما يريد، من دون أن يتجاوز على حقوق الآخرين. نحن نعاني حس الوصاية المفروضة علينا منذ الطفولة. أنت لا تستطيع أن تقرر شيئا! من النادر أن تجد أشخاص استطاعوا أن يتغلبوا على حس الوصاية، ومن استطاع ذلك فتأكد أنه دفع الثمن غاليًا! أنا أحاول في كثير من شخصياتي أن أصل إلى هذا المعنى، وهو متى نصل كي يكون الشخص قادرًا على أن يقرر بذاته بعيدًا عن أي سلطة أخرى، سواءً سلطة صغيرة كالأسرة، أو أكبر كالمجتمع، أو السلطة الكبرى للدولة.

الناقد والكاتب السعودي محمد عباس قال إن الثنائية الحادة بين المتدين وغير المتدين أثرت أبعدت الروايات السعودية عن الجماليات.

هذه الموضوعات والصراعات هي نتاج المجتمع لا يمكن تجاهلها، لكن أتفق معه تمامًا في مسألة الجماليات. تستطيع أن تتناول أي موضوع مجتمعي لكن بشروط الفن، بجمالياته العالية، هذ الأمر يعود إلى الروائي، وكيف يستثمر هذه الموضوعات، واليوميات البسيطة والمكررة لتحويلها لنص روائي في غاية الجمال. أتفق مع الأستاذ محمد عباس، بالفعل أنتج الكثير من الروايات التي تراهن على هذه الثنائية فحسب، وتراهن على الموضوعاتية فحسب، وبدرجة كبيرة، ولا تنتبه كثيرًا إلى جماليات النص، من اللغة والبناء وتصاعد الحدث وتنامي الشخصيات، خصوصًا من الجيل الذي جاء مباشرة وفجأة إلى الرواية من دون المرور بتجارب سابقة. وأنا هنا لا أدعي أن جيلنا أكثر فهمًا من غيره، لكن جيلي من الروائيين مثل عبده خال، أميمة الخميس، محمود تراوري، وآخرين... عركتنا القصة القصيرة، تعلمنا منها، نجحنا وفشلنا، وحين أتينا إلى الرواية، أتينا نحمل أدوات السرد وفنياته، وكنا نمتلك القدرة على محاولة الفرز بين النص الأدبي والخطاب الاجتماعي الإنشائي! من جاء في ما بعد أو بالأصح معظم من جاء في ما بعد، تورط في الرواية، فكان لديه اعتقاد أن الرواية هي مطية لتمرير خطاب سياسي أو اجتماعي، وهذا الأمر غير دقيق.

 أثر فيك كتاب "ألف ليلة وليلة" كثيرًا، إضافة إلى قصص أختك الكبرى. هل نفتقد اليوم إلى الهدوء والمخيلة التي تؤثر في الكاتب؟

أعتقد أن للتقنية الحديثة مزايا كثيرة جدًا، بينها سهولة الوصول إلى ما تريد أن تقرأ، أو ما تشاهد من أفلام. أصبحت الأمور أسهل في مصادر التكوين الثقافي، لكن في الوقت ذاته، أفقدتنا هذه التقنيات فرصة التأمل والهدوء لأننا نعيش عصر سرعة لا يتوقف. فأنا دائمًا أطرح هذا السؤال: لماذا نحن في عجلة من أمرنا ولماذا لا نتأمل الأشياء بهدوء؟ دعني أذكر لك مثالًا، وهو مدينة الرياض. هذه المدينة لا تتيح لك فرصة المشي بأمان كما تتيحه لك مدن وعواصم أخرى. فالمشي هو أول مراحل التقاط التفاصيل اليومية. أنت لا تستطيع أن تلتقط تفاصيل دقيقة وأنت تقود سيارتك في طريق سريع! من الصعوبة فعل ذلك، لكن حين تمشي على قدميك تشم رائحة الأشجار، تشاهد الأرض، البقايا، أسوار البيوت، والعديد من التفاصيل. فهذه اللحظات البسيطة هي ما يصنع مخيلة ويؤسس ذاكرة. 

نجد أثر كبير للمرأة في رواياتك، وحتى روايتك "القارورة" كانت البطلة فيها امرأة. هذا لا يحدث كثيرًا بالنسبة إلى روائي رجل؟

دعني أتحدث عن دور والدتي رحمها الله... لك أن تتخيل أن ابنتي الآن، وهي في مرحلة النضج، تستعيد اللحظات التي تجلس مع جدتها، لتنصت إلى حكاية، وتتذكرها جيدًا فتقول إنها ساردة عظيمة. كانت تحكي قصصًا ربما معروفة، لكن طريقة سردها كانت مشوقة حتى للأطفال، فأنا حينما عشت مع هذه الأم العظيمة، زرعت في داخلي ملكة السرد وشغف الكتابة منذ الطفولة، إضافةً إلى وجود أخواتي اللاتي يكبرنني. خلقت هذه البيئة النسوية في داخلي شغف السرد. لك أن تتخيل الحياة بين خمس شهرزادات: أربع أخوات وأم رائعة، وفي كل منهن راوٍ، سواءً أكان شفاهيًا أو مقروءًا، كما كانت تفعل أختي بقراءة كتاب ألف ليلة وليلة، وسيف بن ذي يزن، وغيرها من الحكايات الشعبية والأساطير، فتخيل كيفية تأثير هذه القراءات على طفل في الخامسة من عمره. أنا أقول دائمًا إن إنصات طفل في الخامسة إلى الكلمات، وهي أفضل مرحلة طفولة لإشعال المخيلة، ثم تحويل الكلمات المسموعة إلى صور متحركة في الذهن، أظن أن هذه كانت هي شرارة البداية المبكرة للكاتب. 


عمارة الرواية

تقول الرواية بناء معماري وليست ثرثرة أنترنت. كم نسبة البناء المعماري في الرواية السعودية؟

دعني أتحدث بشكل عام عن الرواية العربية. فهي نجحت إلى حد كبير منذ تجارب جيل الستينيات مع غسان كنفاني وصنع الله إبراهيم وإبراهيم أصلان والطيب صالح وغيرهم. ركزت الرواية آنذاك على المعمار، والبناء، واللغة. حين ظهر الإنترنت، وصفحات الدردشة والمنتديات، ظهر كتاب هم نتاج هذه المنتديات، ممن لا يمتلك اللغة وأدواتها، والقدرة على صوغ جملة فنية جمالية، فيها الوصف والإيحاء والاستعارة. وبالتالي، من الصعب مطالبة أي من هؤلاء بمعمار رواية كاملة، وهو لا يستطيع صناعة فقرة صغيرة متكاملة ومتماسكة! كيف أطالبه برواية كاملة متماسكة، وهو لا يمتلك إثارة العديد من الأسئلة قبل الكتابة. على سبيل المثال، من أين أبدأ الرواية؟ من أي موقف أو حدث؟ ما الشخصيات الملائمة؟ كيف أتنقل من فصل إلى آخر بسلاسة؟ كيف تتنامى الحوادث؟ كيف أصل إلى الذروة الدرامية؟ فهذه الأسئلة البدائية ليست حاضرة في أذهان هؤلاء، من هنا تصبح رواياتهم عبارة عن دردشات نشرت في المنتديات، وبمباركة دور نشر معروفة، تبحث عن الكسب السريع، وتضع عناوين براقة لافتة، تساعد في التوزيع والانتشار.

أثرت الاغنية في يوسف الراوي حيث تقول إن الأغاني هي ما يثير حنينك وما يساعدك في كتابة بعض الحقبات الزمنية؟

الأغنيات تقودني إلى الشخصيات، وهي جزء من عملي الروائي. مثلًا، حين أسمع أغنية لفنانة انتشرت في الثمانينيات، أجدني لا إراديًا أستعيد ذكريات شخصية حقيقية عرفتها، ومن ثم استعيد حياة هذه الشخصية بتفاصيلها كما لو كنت أشاهد فيلمًا. هذه الأغنيات جزء من نسيج هذه الشخصيات، فأنا أشعر بشغف ودهشة حين أنصت إلى أغنية جاءت من مكان ما. وليست الأغنيات وحدها ما ينصب لي فخ الذكريات، لكن حتى بعض السور والآيات القرآنية، فمثلًا عندما أسمع ﴿والضحى والليل إذا سجى﴾ مباشرة ً أتذكر والدي، أتذكر وقت الفجر، وأشم رائحة البر والربيع والقهوة المرَّة. لذلك سواء كانت أغنية أو غيرها، فهي تقودك مباشرة إلى تفاصيل دقيقة من مشاهد وأصوات وروائح وما يمكن أن يشعل الحواس كلها. 

 لك رأي في روايات غازي القصيبي وتركي الحمد وترى أنهما لهما أثر كبير في الروائيين السعوديين ؟

بداية، يجب أن أتحدث عن عبدالعزيز مشري، الذي جاء قبل هؤلاء، وكتب رواية تنتمي إلى الأدب الرفيع، مستخدمًا اللغة العالية الموحية، وقدم عددًا من الأعمال المهمة، أولها "الغيوم ومنابت الشجر". بعد ذلك، جاءت تجارب غازي القصيبي وتركي الحمد، وربما هؤلاء لم يأتوا من خندق السرد، فالقصيبي كما نعرف جاء من حقل الشعر، والحمد جاء من الفكر والفلسفة، فقدموا روايات مهمة في وقتها، استطاعت أن تفتح لنا الطريق، وترفع السقف عاليًا. كنا نردد في الثمانينيات القول بصعوبة كتابة رواية تتناول المجتمع السعودي، لأن الرواية تختلف عن القصة القصيرة. فالرواية تتطلب الكشف والبوح والكتابة بكل صدق ووضوح خلافًا للإيحاء الذي يتلبس القصة القصيرة. كنا نشعر بصعوبة كتابة الرواية، فحين كتب القصيبي "شقة الحرية"، وكتب تركي الحمد ثلاثيته، ارتفع سقف طموحنا، ومن هنا استطعنا الدخول إلى هذا العالم بأدواتنا الخاصة، وليس بأدوات القصيبي والحمد مع مكانتهما الكبيرة. نحن ندين لهؤلاء بتمهيد الطريق لنا كروائيين شباب ذلك الوقت، وجعل الأمر أكثر يسرًا وسهولة. 

 تعرضت الراوية السعودية بدرية البشر لمنع روايتها "زائرات الخميس". ما رأيك بالمنع والرقابة؟

بأمانة لا أكترث لهذا المنع، روايتي "الحمام لا يطير في بريدة" صدرت في عام 2009م وإلى الآن ليست مجازة، ومع ذلك لا يعنيني هذا الأمر، لأن الرواية باختصار وصلت لقطاع كبير جدًا من الناس، فالعمل سيصل مع تعدد طرق الشراء، سواء عن طريق النت أو غيره. الآن أصبح الأفق مفتوحًا، فمن السهل قراءة أي كتاب وبأي لغة. حقيقة أشعر بحزن حينما تمنع الجهات الرقابية كتابًا معينًا، لأن هذا الفعل غير مجدٍ، فأتمنى من المؤسسات الحكومية ممثلة بأعلى سلطة هذه المسألة الرقابية إلا في حالات معينة، وتتعلق بشكل مباشر بالمساس بأمن البلد، فأما عدا ذلك، فلا أرى سببًا للمنع. 

تجارب مجدية

 هل فكرت في عمل سينمائي درامي كما فعل بعض الروائيين؟

إطلاقًا، ولن أفعل، لأن لدي يقين بأن السيناريست سيناريست، والروائي روائي، وكلاهما له مهنة تختلف عن الآخر. سبق أن تم عرض علي تحويل رواية "القارورة" إلى مسلسل درامي، وكان الاقتراح أن أكتب سيناريو الرواية، فرفضت لسببين: الأول، انشغالي بكتابة رواية جديدة آنذاك؛ والثاني والمهم، إداركي أنني لا أستطيع تحويل الرواية إلى عمل سينمائي أو تلفزيوني، كما يفعلها شخص محترف.

لك تجربة خاصة في الرسم والتصوير، حدثنا عنها.

ارتبطت بالرسم في مرحلة مبكرة وكنت شغوفًا به. علاقتي أكبر برسم البورتريهات، إذ كنت أرسم الأطفال والأصدقاء. بعد ذلك، توقفت لأسباب تتعلق بوالدتي، ورؤيتها إلى رسم الأحياء من منظور ديني. تجاوزت تلك المرحلة بالكتابة، لكني عدت في ما بعد إلى الفوتوغراف، وتوجت ذلك بعملي في جريدة "الرياض" في زاوية "فضاء البصر"، وهي زاوية تجمع النص الأدبي والصورة الفوتوغرافية، والتي لاقت نجاحًا كبيرًا آنذاك. بعد ذلك، وهذا من آثار التقنية المخيفة، انتهى عصر الكاميرا والأفلام، بدأ عصر كاميرا الديجيتال، وبصراحة أصبت بالخوف، وتوقفت عن الفوتوغراف، لأنني لم استطع أن أتعامل مع الكاميرا كما كنت أتعامل معها سابقًا، ولم أستطع أن أتماهى مع الديجيتال إلا من ثلاث سنوات تقريبًا. بكل أمانة، أشعر بشغف كبير نحو الكاميرا، لأنني مقتنع أن عدستها عين أخرى، تلتقط التفاصيل الصغيرة والأشياء الغائبة عن الناس، فاهتمامي بالتفاصيل الصغيرة في التصوير مشابه لاهتمامي بالتفاصيل الصغيرة في أثناء السرد، فأنا مدرك أن هذه التفاصيل الهامشية والمتروكة هي ما يهمني، وهي ما أحاول توظيفه في المشهد. 


 لك تجربة ابتعاث في بريطانيا. ما أثرها في المحيميد الروائي؟

دعني أستعيد تنبؤ الصديق الكاتب عبدالرحمن الحبيب، صديقي في الغربة مطلع الألفية. كنت أزوره أحيانًا في مدينة ريدنق في عطل نهاية الأسبوع، وأنقل إليه قلقي من أنني لم أستطع كتاب نص أدبي منذ وصولي إلى بريطانيا. كان يطمئنني بأنني حين أعود إلأى الرياض سأنفجر كتابة، وهو ما حدث فعلًا. كتبت بعد عودتي أكثر من رواية: لغط الموتى، وفخاخ الرائحة، والقارورة، ونزهة الدلفين، ... . تأثير الغربة في نظري مهم، خالطت مبدعين وكتَّاب، مجتمع آخر جديد، تفاصيل جديدة، حياة أخرى.