موسكو: ما أن أصدرت موسكو إعلانها عن "الموقف الرسمي لروسيا من القدس"، حتى انتفضت الأقلام وسال مدادها في محاولة لإماطة اللثام عن حقيقة المواقف تارة، وتحديد الخطوط العامة لأطر الخروج من الازمة التي كادت تطيح بما بقي من ثقة ووفاق مع "الاصدقاء والرفاق" تارة ثانية، فيما غرق آخرون فيما وراء المحيط، في لَجًة محاولات العثور على الرد المناسب تارة ثالثة. 

ولذا كان من الطبيعى ان نعود الى مجلدات الوثائق التي كانت كشفت عنها وزارتا خارجيتي روسيا الاتحادية وإسرائيل في مطلع القرن الجاري حول مجريات وتفاصيل الاتصالات التي جرت بين البلدين خلال الفترة من 1941 حتى 1953، وما تلا ذلك من وثائق جرى تسريبها عمدا عبر عدد من اصدقاء روسيا في إسرائيل من قدامى مواطنيها الذين صاروا ضيوفا "دائمين مرغوب فيهم"، على موسكو وكبريات قنواتها التليفزيونية بما فيها الرسمية. 

ومن هذا المنظور، نتوقف لنتساءل عن السبب الذي دفع "هؤلاء"، الى اعتبار بيان الخارجية الروسية في السادس من أبريل 2017، اعلانا من جانب موسكو حول إعترافها بالقدس عاصمة لإسرائيل، دون الاشارة من جانبهم الى كلمة "الغربية"، واعتبار ذلك تغييراً، بل وتغييرا في موقف روسيا بشأن "وضعية القدس"، وإغفال كل تحفظاتها السابقة، ومنها ما أشار إليه بيان الخارجية الروسية وسفيرها في إسرائيل في رسالته الصادرة بهذا الصدد والمرفقة طيه: 

 

 

ولذا فإن مراجعة "بسيطة" لبيان الخارجية الروسية في السادس من ابريل 2017، يمكن أن تكشف عن أن موسكو كانت أعلنت ما عادت، وكشفت عنه في السابع من ديسمبر الماضي في أعقاب إعلان ترمب حول قراره بشأن نقل السفارة الأميركية الى القدس الغربية، حول أن "القيادة الروسية تعترف بالقدس الغربية عاصمة لإسرائيل، والقدس الشرقية عاصمة للدولة الفلسطينية"، وهو ما يعنى عمليا أنها صارت تملك الحق في نقل سفارتها الى القدس الغربية. 

وذلك ما يبدو جليا في الاعلان الصادر عن الكسندر شيين سفير روسيا الاتحادية في إسرائيل في السابع من ديسمبر 2017، وقال فيه "ان السفارة الروسية في تل ابيب يمكن أن تنتقل إلى القدس الغربية بعد اتفاق الإسرائيليين والفلسطينيين حول مجمل القضايا الخاصة بالتسوية النهائية لوضعية الأراضي الفلسطينية".

ومن اللافت في هذا الصدد ما بدا من حرص واضح من الجانب الأميركي على تأكيد انفراد واشنطن باتخاذ مثل هذا القرار، بعيدا عن أي تأثير من جانب موسكو وهو ما حاول الناطق الرسمي لوزارة الخارجية الأميركية في بيانه الصادر بهذا الشأن، التأكيد عليه بقوله "إن قرار واشنطن حول نقل السفارة الأميركية الى القدس لا علاقة له باعلان موسكو عن اعترافها بالقدس الغربية عاصمة لدولة إسرائيل، وان هذا الاعلان لم يؤثر على عملية اتخاذ واشنطن لقرارها بهذا الصدد، فضلاً عن ان الرئيس دونالد ترمب لم يبحث هذا الموضوع في معرض مكالمته الهاتفية مع الرئيس فلاديمير بوتين". 

نضيف أيضا أن كل هذه التطورات والتعليقات، جاءت في أعقاب تكرار البيانات الصدارة عن موسكو الرسمية بشأن "رفضها وشجبها واستنكارها وانتقاداتها" لاعلان ترمب، الذي قالت "انه يخالف المواثيق والقرارات الدولية ذات الصلة".

إزاء ذلك كله لم نكن لنركن الى قبول ما يريدون ترويجه خصمًا من رصيد الحقيقة والتاريخ، ما دفعنا الى طرق ابواب وزارة الخارجية الروسية في محاولة لاستيضاح الحقائق والاستماع الى آراء عدد من ممثلي دوائر صناعة القرار في موسكو من "أصحاب الرأي والموقف" تجاه هذه القضية. 

وهو ما أوجزه ميخائيل بوجدانوف المبعوث الشخصي للرئيس بوتين إلى الشرق الاوسط ونائب وزير الخارجية لمسؤول عن ملف الشرق الاوسط والبلدان العربية في تصريحاته حول "ان موسكو كانت ولا تزال تتمسك بثوابت هذه القضية وكل قرارات الشرعية الدولية ذات الصلة. 

وأكد المسؤول الروسي ان البيان الصادر بهذا الشأن في 6 أبريل 2017 يستند الى المبادئ التي تضمنتها قرارات الامم المتحدة ومنها قرار التقسيم 181 الصادر في عام 1947 وما تلا ذلك من قرارات ومنها القرار 242 الذي ينص على اعتماد حدود الرابع من يونيو 1967 واعلان استقلال دولة فلسطين الذي أُعلن في الجزائر الى جانب المبادرة العربية في عام 2002". 

ومضى بوجدانوف ليقول "ان موسكو لا تعير اهتماما الى ما يقال حول ضرورة الاعتراف بالامر الواقع"، مؤكدًا "عبثية" ما يقال حول ان القدس كانت وستظل العاصمة الابدية لإسرائيل، مؤكدا ان ذلك أمر سبق واعترف به الإسرائيليون أنفسهم، حين أعلنوا تل ابيب وليس القدس عاصمة ومقرًا لكل مؤسسات الحكم للدولة الإسرائيلية عند قيامها في عام 1948 بما فيها الحكومة والكنيست، وحين أصدروا مرسوم "ضم" القدس الشرقية" في عام 1980، وهو ما يعني انها لم تكن تتبع لهم قبل هذا التاريخ، فضلاً عن تناقض ذلك مع كل المواثيق والاعراف الدولية التي تحظر "ضم" الاراضي المحتلة. 

قصارى القول إن موسكو لم تقل ولم تعترف الا بما يتفق مع قرارات الامم المتحدة وهو ان "القدس الغربية عاصمة لإسرائيل والشرقية عاصمة للدولة الفلسطينية في اطار حدود الرابع من يونيو 1967".

أما عن ثوابت موسكو وسياساتها تجاه سبل الخروج من المأزق الراهن والطريق المسدود الذي وصلت اليه القضية الفلسطينية فقد أوجزها سيرجى لافروف وزير الخارجية الروسية في مؤتمره الصحفي السنوي الذي عقده في موسكو اليوم الاثنين بقوله "ان موسكو تتفهم مشاعر الفلسطينيين، "الذين قدموا تنازلات من جانب واحد خلال السنوات الأخيرة، ولم يحصلوا على أي شيء مقابل ذلك". 

ومضى لافروف ليشير الى ما يسمى بـ"صفقة القرن" التي تخطط واشنطن لعقدها مع بلدان المنطقة بحجة "انها ترضى كل الاطراف" قائلاً إن موسكو، "لم ترَ مثل هذه الوثيقة ولم تسمع أي تصريحات بهذا الخصوص". 

وأضاف قوله "أن عدم وجود تسوية للقضية الفلسطينية يعتبر "أحد العوامل الأكثر خطورة التي تتيح للمتطرفين فرصة لتجنيد أجيال جديدة من الإرهابيين في صفوفهم"، وكشف الوزير الروسي عن "أن روسيا تعتزم مناقشة القضية الفلسطينية مع الشركاء في الرباعية الدولية، الى جانب مشاورات ثنائية مع الولايات المتحدة حول هذا الشأن"، فيما اعرب عن امله في العثور على الحلول المناسبة للخروج من الازمة الراهنة.