الرباط: جدد العاهل المغربي الملك محمد السادس الدعوة إلى بلورة نموذج تنموي جديد يتمحور حول تحقيق العدالة الاجتماعية والمجالية ويضع الشباب في صلب اهتماماته. 

وشدد العاهل المغربي، في رسالة وجهها إلى المنتدى البرلماني الثالث للعدالة الاجتماعية الذي انطلقت أشغاله اليوم في مجلس المستشارين (الغرفة الثانية في البرلمان) بالرباط، على ضرورة تغيير العقليات والقطيعة مع الممارسات التي تهدر الزمن والفرص التنموية وإصلاح الإدارة، داعيا جميع المغاربة للمساهمة بأفكارهم ومقترحاتهم بكل حرية وموضوعية في النقاش الوطني المفتوح والواسع حول النموذج التنموي الجديد.

وقال العاهل المغربي في رسالته،التي تلاها مستشاره عبد اللطيف المانوني إن "المطلوب اليوم هو العمل من أجل حل المشاكل، وتجاوز مرحلة التوقف عند التشخيص، على أهميته"، مذكرا بخطابه الأخير أمام البرلمان، والذي وقف خلاله على معوقات النموذج التنموي المتبع ودعا فيه إلى القيام "بمراجعة جماعية تعيد النظر فيه".

وجاء في رسالة العاهل المغربي، أن النموذج التنموي المتبع في المغرب و"الذي ساهم في تحقيق العديد من المكاسب والمنجزات الاقتصادية والاجتماعية الملموسة، لم يعد قادرا على الاستجابة للمطالب والحاجيات المتزايدة للمواطنين، ولا على الحد من الفوارق الاجتماعية والتفاوتات المجالية، وبالتالي على تحقيق العدالة الاجتماعية". 

وقال "إننا نتوخى من الدعوة لمراجعة هذا النموذج، أكثر من مجرد إصلاحات قطاعية معزولة، أو إعادة ترتيب بعض الأوراش الاقتصادية والبرامج الاجتماعية. وإنما نتطلع لبلورة رؤية مندمجة للنموذج السياسي والاقتصادي والاجتماعي ببلادنا، ولمنظومة الحكامة المركزية والترابية، في كل أبعادها، بما في ذلك المنظومة القانونية التي تؤطره؛ رؤية كفيلة بإعطائه دفعة قوية، وتجاوز العراقيل التي تعيق تطوره، ومعالجة نقط الضعف والاختلالات، التي أبانت عنها التجربة".

وشدد العاهل المغربي على ضرورة" أخد التغيرات المجتمعية التي يشهدها المغرب بعين الاعتبار في إطار هذه المراجعة، وذلك عبر وضع مسألة الشباب في صلب النموذج التنموي المنشود، والتفكير في أنجع السبل من أجل النهوض بأحوال شبابنا، باعتبارهم الرأسمال الحقيقي لبلادنا، وثروته التي لا تنضب".

وأضاف قائلا "لنا اليقين، أن نجاح أي تصور في هذا الإطار يبقى رهينا بتغيير العقليات، باعتباره السبيل الوحيد، ليس فقط لمجرد مواكبة التطور الذي يشهده المغرب، في مختلف المجالات، بل بالأساس لترسيخ ثقافة جديدة للمبادرة والاعتماد على النفس وروح الابتكار، وربط المسؤولية بالمحاسبة".

كما دعا العاهل المغربي إلى "الانكباب، وبنفس العزم، على إصلاح الإدارة العمومية، لأنه لا يمكن تحقيق إقلاع اقتصادي واجتماعي حقيقي، دون قيام المرافق العمومية بمهامها في خدمة المواطن وتحفيز الاستثمار، لاسيما مع تنامي الدور الذي تقوم به الجهات والإدارة المحلية ومراكز الاستثمار وغيرها، في النهوض بالعملية التنموية. وبالإضافة إلى ذلك، ينبغي مضاعفة الجهود من أجل انخراط القطاعين العام والخاص، في شراكات مبتكرة وفعالة، للنهوض بالتنمية الشاملة".

وقال الملك محمد السادس "لا يفوتنا أن نؤكد مرة أخرى، أن إعادة النظر في النموذج التنموي المغربي هي قضية تهم كل المغاربة، وكافة القوى الحية للأمة، أفرادا ومؤسسات، أحزابا ونقابات، ومجتمعا مدنيا، وهيئات مهنية. والمغرب، ولله الحمد، يتوفر على كفاءات عالية، ويتميز بنضج وقوة مؤسساته، مما يتيح لنا الإقدام على حوار بناء ورصين، بكل جرأة ومسؤولية، حول النموذج التنموي الذي يرتضيه كل المغاربة".

وجدد العاهل المغربي الدعوة لجميع المغاربة بالانخراط في هذا الورش الوطني الكبير قائلا "وفي هذا الصدد، نتوجه لكل الفاعلين المعنيين بالتأكيد على أن المجال مفتوح للجميع للمساهمة بأفكارهم ومقترحاتهم البناءة، بكل حرية وموضوعية. فليس هناك أي حدود أو شروط أمام هذا النقاش الوطني الواسع، في إطار الالتزام بالدستور، واحترام ثوابت الأمة التي ينص عليه. وإننا ننتظر أن يفرز هذا المجهود الجماعي تجديدا عميقا في طرق التفكير، وفي التعامل مع قضايا التنمية وتدبير الشأن العام، وإجراء قطيعة حقيقية مع الممارسات التي تهدر الزمن والفرص التنموية، وتعيق مبادرات الإصلاح، وتكبل روح الإبداع والابتكار"، مضيفا "كما ندعو الجميع لاستحضار أن المغرب مر بفترات صعبة، كما كان الشأن بالنسبة لمرحلة التقويم الهيكلي، خلال ثمانينيات القرن الماضي. وقد تمكن دوما على مدى تاريخه العريق، بإرادته السيادية الذاتية، من تجاوز المعيقات ورفع مختلف التحديات التنموية التي تواجهه، وذلك بفضل تعبئة طاقاته الوطنية، وتضافر جهود جميع أبنائه وتضحياتهم".

وشدد العاهل المغربي على الأهمية التي يوليها للعدالة الاجتماعية والمجالية منذ توليه الحكم، مشيرا إلى أنها تشكل "بعدا مركزيا من أبعاد النموذج التنموي" المنشود. 

وقال "وكما تعلمون، فإن العدالة بين الفئات والجهات، تشكل دائما جوهر توجهاتنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية. وهي الغاية المتوخاة من مختلف المبادرات والأوراش التي أطلقناها؛ هدفنا الأسمى تحسين ظروف المعيش اليومي لمواطنينا، في ظل العدل والإنصاف والكرامة الإنسانية وتكافؤ الفرص". 

وأوضح أن الدستور المغربي كرس "هذه القيم والمبادئ، من أجل إرساء دعائم مجتمع متضامن يتمتع فيه الجميع بالأمن والحرية والكرامة والمساواة والعدالة الاجتماعية، في نطاق التلازم بين حقوق وواجبات المواطنة".

وأضاف العاهل المغربي قائلا "غير أنه مهما كان حجم الطموح، وقوة الالتزام، فإن تحقيق العدالة الاجتماعية والمجالية، في كل دول العالم، يبقى مسارا صعبا وطويلا، يقتضي التقييم المنتظم لنتائجه، والتحيين المستمر لأهدافه المرحلية والبعيدة، والتطوير لآليات ووسائل تنفيذه". 

وفي هذا الصدد، تحدث العاهل المغربي عن أهم الرهانات والتحديات التي "يطرحها موضوع تحقيق العدالة الاجتماعية، في ارتباطه بالنموذج التنموي"، والتي "يتعين التعاطي معها بكل جدية وموضوعية، وبروح الابتكار"، وخص منها بالذكر "إشكالية الفوارق الاجتماعية والمجالية، وعلاقتها بالإكراهات المطروحة على تدبير المنظومات الضريبية وأنظمة الحماية الاجتماعية ؛ ومسألة تعميم الولوج للخدمات والمرافق الاجتماعية الأساسية، باعتبارها ركنا أساسيا من أركان العدالة الاجتماعية ؛ وضرورة إيجاد مؤسسات متشبعة بقيم التضامن والعدالة الاجتماعية، تساهم في حل المشاكل الحقيقية للمواطنين، والاستجابة لانشغالاتهم ومطالبهم الملحة".

وتتمحور أشغال المنتدى البرلماني الثالث للعدالة الاجتماعية، المنظم على مدى يومين حول موضوع "رهانات العدالة الاجتماعية والمجالية ومقومات النموذج التنموي الجديد". 

ويهدف المنتدى إلى تقديم توصيات ومقترحات عملية بشأن النموذج التنموي الجديد من منطلقي العدالة الاجتماعية والعدالة المجالية، وذلك عبر الإسهام المتوقع للمتدخلين، من فاعلين مؤسساتيين وسياسيين واقتصاديين واجتماعيين ومدنيين وخبراء، في أربع جلسات أساسية تتوزع عليها أشغال هذا المنتدى.