«إيلاف» من لندن:  ببالغ الحزن، تلقى هذا العالم البائس في صباح 14 مارس 2018 نبأ وفاة أحد ألمع علماء القرن العشرين، عالم الفيزياء الكونية البريطاني ستيفن هوكينغ، المعروف بجسده النحيل، وإصابته بمرض التصلب الجانبي الذي أقعده في كرسي متحرك أكثر من خمسة عقود، وبعقله المستنير الذي وسع هذا الكون وأسراره.
ببالغ الأسى، تلقى كل من في هذه الأرض، أكان عالمًا من العالِمين أم إنسانًا من العالَمين، نبأ أفول نجم من حلّ ألغازًا بقيت قرونًا في علم الغيب، ونقض نظريات وأثبت أخرى، من دون أن يفارق مكانه، أو أن يستطيع أن يتكلم بصوته ولو كلمة واحدة. كان هدفه بسيط، "يتمثل في فهم الكون: لماذا هو على هذه الحال؟ ولماذا هو موجود في الأصل؟".

لا تحبسوا أرواحكم
ما فارق البؤس هذا الرجل منذ عامه الحادي والعشرين، إذ أصيب بمرض التصلب الجانبي في عام 1963. جزم الأطباء أن الضمور في عضلات جسده لن يتركه يعيش أكثر من ثلاثة أعوام. أخطأوا، وعاش 76 عامًا. يردّ كثيرون هذا الأمر إلى عناد متأصل في هذا الرجل. فلولا عناده، كيف كان له أن يحيا مديدًا وهو في هذه الحال؟ وكيف كان له أن يشيع سر الثقوب السوداء وجاذبيتها؟ وكيف كان له أن يشارك في عام 2007 بتجربة انعدام الجاذبية من دون كرسيه المتحرك، على متن طائرة بوينغ 727 تحلق على ارتفاع 32 ألف ثم تنخفض إلى 8 آلاف لتنعدم فيها الجاذبية 25 ثانية؟
ما زاده شقاءً كان إصابته فى عام 1985 بالتهاب رئوي حاد أفقده القدرة على الكلام بشكل تام، فطور له مهندس أميركي نظامًا ينقل أفكاره ويترجمها كلمات ينطق بها الحاسوب.
هكذا قضى هوكينغ 54 عامًا من حياته، أنجز فيها بحوثًا نظرية في علم الكون، وفي العلاقة بين الثقوب السوداء والديناميكية الحرارية، وفي التسلسل الزمني. كانت نصيحته الدائمة لذوي الحاجات الخاصة من أترابه أن "ركزوا على ما يمكنكم القيام به، ولا تحبسوا ارواحكم في سجون حاجات أجسادكم الخاصة".

تنعموا بإشعاع هوكينغ
قال هوكينغ يومًا: "تذكر أن تنظر إلى النجوم، لا إلى قدميك، ولا تتخلَ أبدًا عن العمل الذي يمنح حياتك معنى وغاية، وإذا كنت محظوظًا وعثرت على الحب، فلا تتخلص منه". نظر إلى النجوم دومًا، فكانت الثقوب السوداء في المجرات الواسعة هاجسه. راقبها. نظر إليها. عبث بها. رسمها مرارًا في عقله. تخيلها بخيال العالِم، ووجد لها في عام 1971 وصفًا يقوم على ثلاثة خصائص: كتلتها وزخمها وشحنتها الكهربائية، ثم قال أن الثقوب السوداء أو النجوم تنهار بسبب الجاذبيّة، مثبتًا بالرياضيات نظرية النسبية لأينشتاين.
في عام 1974، خرج بنظرية شهرته، وغيرت نظرة العالم إلى الكون. ولو قيظ لها أن تتطور لتكون أكثر من نظرية، أي لو أمكن إثباتها فعليًا، لفاز هوكينغ بـ"نوبل".
إنه "إشعاع هوكينغ".

ضابط التناقضات
برأيه العلمي، ليست الثقوب السوداء سوداء، بل هي ثقوب متوهجة بفضل أنواع مختلفة من الإشعاع، ولا شيء يستطيع الإفلات من جاذبية هائلة تتميز بها هذه الثقوب السوداء، فهي من الكثافة لتجذب حتى الضوء. حاول الكثير من أرباب الفيزياء النظرية والكونية التثبت من صحة هذه النظرية بالملاحظة العلمية العملية، إلا أن الجهود كلها باءت بالفشل. فمراقبة هذه الثقوب مهمة صعبة، ورؤية وهج الإشعاع الذي قال هوكينغ إنه يحيط بها مسألة شبه مستحيلة. على الرغم من ذلك، تمثل نظرية إشعاع الثقوب السوداء ربطًا بين مفهومي ميكانيكا الكم والنسبية المتناقضين، اللذين تقوم عليهما الفيزياء. فالميكانيك الكمية تبحث في عمل الكون على مستوى الجسيمات متناهية الصغر كالإلكترونات، بينما تبحث النسبية في عمل الجاذبية على مستوى الكواكب والنجوم والمجرات.
استمر هوكينغ في عبثه بالثقوب السوداء فأعلن أنها تتهافت بمرور الوقت، وأنها تلتهم كل شيء، وبالإشعاع الذي ينبعث منها تُبقي الأشياء على فوضويتها في الفضاء. ثم توصل إلى الآتي: ربما تكون الثقوب السوداء ممرًا من هذا الكون إلى كون آخر.

وهم الحقيقة عدو الحقيقة
حين أشاح هوكينغ نظره قليلًا عن الثقوب السوداء، وجد الإنسان أمامه. رأى فيه "مجرد سلالة متطورة من القرود على كوكب صغير، لكن ما يميزنا من القرود فعليًا هو قدرتنا على فهم هذا الكون". كان هوكينغ عارفًا بأسرار الكون، أرآها أم تخيلها. فأراد أن يقدمها لهذا الإنسان على طبق من فضة، مبسطة وسهلة، كي يدركها. 
تمكن هذا الفيزيائي من إثارة اهتمام الناس بما هو موجود في الكون من خلال تبسيطه المفاهيم الفيزيائية المعقدة، فتعاون مع ابنته لويس وكتبا كتابين للأطفال يبسطان علم الكون بطريقة درامية: الأول، "مفتاح جورج السري لمعرفة الكون"؛ والثاني، "جورج والانفجار الكبير".
بالنسبة إليه، "ليس الجهل ألد أعداء المعرفة، بل وهم المعرفة هو ألد أعدائها". ربما صنّف الذكاء الاصطناعي في هذا الباب. فمنذ عام 2015، نبّه من خطورة الذكاء الاصطناعي على الجنس البشري، مرجحًا أن تحل الآلة محل الإنسان في غضون سنوات قليلة، "فالتنمية البشرية للرجل الآلي وجهاز الكمبيوتر ستصل فى النهاية إلى إنتاج شكل جديد من أشكال الحياة عالية التقنية، التي تتفوق فيها الآلة على البشر الذين صنعوها". وقال مرة في أحد المؤتمرات العلمية: "إن زارتنا كائنات فضائية، فستكون النتيجة مماثلة لاكتشاف كولومبوس أميركا، وهو ما لم يصب في مصلحة الأميركيين الأصليين، وعلينا أن نحدق في أنفسنا كي نمنع تطور الحياة الذكية إلى شيء لا نريده".

لا ينفع الندم
في آخر عامين من حياته، أضاف إلى هواجسه هاجًا جديدًا. فهو القائل أن كوكب الأرض صار صغيرًا جدًا على البشر، فعدد السكان يتزايد بمعدل مقلق، ونحن على وشك التدمير الذاتي، ما يجعلنا بحاجة ماسة إلى استعمار كواكب أخرى صالحة للحياة. نعم. بقيت عينه على الفضاء.
في عام 2015، أمهلنا هوكينغ 100 عام لنبحث عن معمورة غير الأرض أن أردنا الحياة، بسبب التغير المناخي والهجمات النجمية التي قد تستهدق كوكبنا، والأوبئة والتنامي السكاني. ودعانا نحن البشر إلى التوطن في كوكب آخر أو على متن مركبة فضائية، وإلا تفنى البشرية. والمنقذ هو أن يتحول البشر جنسًا متعدد الكواكب. 
بعد عامين، كان واضحًا في تحذير البشرية من تحول الأرض إلى كرة من النارية في غضون 600 سنة، بسبب زيادة الطلب على الطاقة، متوقعًا أن تعجز الأرض عن تلبية متطلبات النمو السكاني بحلول عام 2600.

شاهد على القبر
في عام 2002، وخلال الاحتفال بعيد ميلاده الستين، روى: "تساءلت: هل يمكن أن نصادف جسمًا فيه ذرات، فيها نواة، تشبه الثقب الأسود، تشكل في بداية الكون؟ بحثت عن الجواب، فدرست كيف تتشتت الحقول الكمومية للثقب الأسود، متوقعًا أن يتم امتصاص جزء من موجة الصدمة وأن يتبعثر الباقي، لكن دهشتي كانت كبيرة، عندما لاحظت انبعاثات من الثقب الأسود. ظننت في البداية أنني أخطأت في مكان ما، لكنني مقتنع أن الانبعاثات كانت مطلوبة لتحديد منطقة الأفق مع مجال الثقب الأسود. صغتها في صيغة، وأود أن تحفر هذه الصيغة على قبري".
إنها معادلته الثمينة، يريدها شاهدًا على خلوده. بينما، نحن الذين لا عمل لهم إلا البحث في جنس الملائكة، نتصارع بتغريداتنا على تويتر إن كان تولى هوكينغ إلى الجنة أو إلى النار! فقد انقسم الناشطون العرب بين من يترحم على رجل جلس في كرسي أستاذية الرياضيات خلفًا لإسحاق نيوتن، على من حول سخريته وعجزه إلى أيقونة، وبين من يحرم الترحم عليه، قائلًا أن علمه هذا لن ينفعه في الآخرة ما دام أنكر وجود الله.
صار هوكينغ بين النجوم الآن، مثلث الأبعاد، مثلث الرحمات. عبث بنا، بأكواننا، بثقوب مجرتنا... وتولى.